الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن بتعطيل الآداب الملائمة أخلاق الرومان ، وبحسب قوّةِ العقل المناسبة لسموّ مداركهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ الغريب الذي كان من أعظم أرباب السياسةِ ، وخطيباً شهيراً وبطلاً صنديداً ، وعائقاً في الأرض فاسدَ الأخلاقَ ، يظلم بلا رحمةٍ ، ويرحم بغير حدّ ولا قياس ، لهُ مزيةٌ خاصة بهِ دون سواه. وهي أنهُ خُلق عجيب يخبر عنهُ آخر الدهر بكونهِ أكمل إنسان وجد على الأرض.
للكلام صلة
الأناشيد الوطنية
قال أحَدُ مشاهيرِ كتَّابِ الانكليز إِنَّ الذي يضعُ لحناً وطنيّاً لقومهِ يضعُ لهم قوانينَ جديدة وهو قول لا مبالغةَ فيهِ. إِذ أنَّ الأناشيد الوطنيةَ هي التي شحذَت السيوفَ ، وحرَّرتِ الأرقَّاءَ ، وكوَّنتِ الأُمم ، ورفعت الممالك ، ووحَّدَت قلوبَ أهل البلد الواحد. وهي التي تُذَكي نارَ الوطنيَّة ، وتجلو صدأها؛ يتوكأ عليها قوَّادُ الأُمم إذا أجهدَهم السيرُ ، ويهشّونَ بها على أتباعهم إذا حادُوا عن الطريق. ينشدُها الغريبُ فيذكر قومهُ ، ويرفعُ بها المنفي عقيرتَهُ فيتذكَّرُ وطنهُ. فهي روحُ الوطنية ، والوطنيةُ قوامُ البلاد؛ وهي رسولُ الشُّعور ، والشعورُ منبتُ الوطنية. وهي الصلةُ بين القلوب؛ والقلوب منشأُ الشعور. وأفعلْ الأناشيدِ الوطنيةِ في الأفئدةِ وأشدُّها تأثيراً على النفوس ما وافقَ لحنُهُ الموسيقيّ ألفاظَهُ فامتزجا بمخيِّلةِ الشاعر الملحّن قبل أن
يظهرَ لحيّز الوجود. حتى إذا أدَّى كلٌ من القلب والرأس ما يطلبهُ هذا النشيدُ منهما برزَ فكان قوَّةً حيَّةً تدفعُ القوم لخدمة وطنِهم ، والذَّود عن حياضِهِ ، والعملِ لرفعة شأنه. سألَ أحدُهم شاعراً من كبار الشعراءِ أن يُعَلِّمَهُ الأوزانَ فأجابهُ: إذا لم يُوحِ قلبُكَ إليك الشعرَ فما تنظمتُهُ لا يكونُ شِعراً هكذا الأناشيدُ الوطنيَّة. فإنها لا تَفعلُ فعلها في النفوسِ إِلاّ إذا كان منشأها القلبُ ولا أعرفُ نشيداً وطنيّاً تطيرَ لهُ القلوب ، وتثب الأفئدة ، ويجري الدم حارّاً في العروق عند سماعه ، مثل المرسلييز نشيدِ فرنسا الوطني. لم يوضع ليكونَ نشيدَ الثورةِ الأفرنسية ، ولكنهُ هيأَ النفوسَ لها. وُضِعَ عندما كان لويسُ السادسُ عشرَ الآمرَ الناهي. فلما أعلنَ الحربَ على النمسا عام 1792 اقترح محافظُ مدينة ستراسبرج وضع نشيدٍ يستفزُّ بهِ هِمم الشبَّانِ للدّفاعِ عن بلدِهم. فلَبَّى طلَبهُ يوزباشي اسمهُ روجيه دي ليل. جادت عليه الطبيعة بإِبداع الشاعرِ وابتكارِ الملحّن. فنظمَ النشيد ولحَّنهُ بين مساءٍ وصباح. وقد كانَ من تأثيرهِ على النفوسِ أن تطوَّعَ في الحاميةِ المدافعةِ تسعمائة شابٍّ في يومٍ واحد. ولم يكن أحدٌ يحلمُ ، ولا لويسُ السادسُ عشرَ نفسهُ ، بما سيكونُ من الأهميَّةِ للمرسييز الذي كان يُسمَّى نشيد جيش الرين حتى مشى أهلُ مرسيليا لباريز يترنَّمونَ بهِ طولَ الطريق فنُسِبَ إليهم. ولا يقلُّ نشيدُ غريبالدي عن المارسييز. ويكفي أن نقولَ في
تأثيرَهُ إنَّهُ وحَّدَ إيطاليا المبعثرة ، ونفَخ فيها روحاً صيَّرتها كما نراها الآن بعد أن كانت نهباً مقسمَّاً. وأيُّ إِنسانٍ لا يتحرَّكُ للعملِ عندما يسمعُ جارَهُ يُنشدُ انهضوا يا أخواني ، واطردوا من بلادكم عدوَّها الغريبَ بالسيفِ ، وانشروا أعلامكم ، ولتفرح قلوبُكم التي
تقَدِّمونها بفخرٍ فداءَ وطنكم أمَّا الولايات المتحدةُ الأمريكية فلها من الأناشيد الوطنيَّةِ حظٌّ وافر. غير أنّ نشيدها الرسميُّ منك يا بلادي ليسَ بالنشيدِ الذي يترنَّم بهِ الجمهور. وإذا سألت أبناء الولايات المتَحدة أن يختاروا من أناشيد هم واحداً لاختاروا بين 1 ينكي دودل و 2 العَلَم المرصَّع بالنجوم و 3 جسم جون براون ` و 4 السير في جورجيا و 5 أرض دكسي لأنَّ كل هذه الأناشيد وُضِعَتْ إِمَّا إِبَّانَ الحربِ أو في أيام الثورة. فالنشيدان الأوَّل والثاني كان أوَّلُ العهد بهما في الثورةِ الأمريكية التي قدت انكلترا فيها أغلى ماسةٍ في تاجها. والثالث هو الذي حرَّر عبيدَ أمريكا ، وأدار رحى الحرب الأهلية بين الولايات الشماليةِ والولايات الجنوبيةِ. والرابع والخامس كانا نشيدَي هذهِ الولايات في تلك الحرب. ولقد لحَّنَ أحَدُ أخواننا السوريين نشيداً عنوانهُ لأجلك يا أمريكا ووضَعَهُ بين أيدي رجال الولايات المتحدةِ للنظرِ في إِحلالهِ محلَّ النشيدِ الرسميّ الحالي.
ولم يحفظ التاريخ بين صفحاته ، خلافَ المرسييز وغريبالدي ، عن نشيدٍ وطنيّ أنَّهُ أثر في النفوسِ مثلَ ربّنا أحفظ الملك عام 1896 عندما كانت تستعدُّ انكلترا لمحاربة أمريكا. فإنه أظهرَ ما خفي في صدر جون بل من العواطف الكامنة. وما زال منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا يُنشدُهُ البريطانيّون في انتصارهم فيملأهم فِرحاً وسروراً ، وفي خذلانهم فيوليهم شجاعة وإِقداماً. أمَّا تاريخهُ فيرجع إلى سنة 1766 إذ كان يُنشدُ باللاتينية في عهد جيمس الثاني. إلا أنه يوجد في انكلترا نفسها من يعارضُ في جعلهِ نشيداً رسميّاً. والمعارضون قسمان: الأول يقول إِنه لا يجوزُ دينيّاً أن نطلب من الله سحقَ أعدائنا. فهم ينشدون بدَلهُ بارك يا رب وطننا وفيهِ يرجونَ للهَ حفظَ بلادِهم وحمايتها وانتشار السلامِ في العالم حتى يُصبحَ عدوُّهم صديقاً. والقسم الثاني يَضعُ الشعبَ في المقامِ الأوَّل ، ويرى أن يُهتَفَ باسمهِ لا باسمِ الملوك. فوضَعَ لنفسه متى تنجّي الشعبَ يا ربَّنا ` ومطلِعُهُ متى تنجّي الشعب ياربّنا يا إله الرمة لا الملوك فقط بل الشعوبَ ، لا التيجانَ ، ولكن بني الإِنسان ولا يزالُ في انكلترا من يظنُّ أنَّ هذا في صحة الملك ` هو أحقُّ بجعلهِ نشيداً وطنيّاً من ربنا احفظِ الملكَ إِلَاّ أنهُ لا يتَّفقُ مع الذَّوقِ تحيّةُ ملكِ من بيتِ هانوفر بنشيدٍ وُضِعَ على نُفوسِ الشعبِ لاستردادِ سلالةِ ستوارت
مثل بني دندي والملك على سطح الماء وفي اللغةِ الانكليزية عددٌ غيرُ قليلِ من الأناشيدِ الوطنيةِ للشعراء: بيرنز
وتمسون وموروكمبل تُحمّس الجبان ، وتحيي ميّتَ الإِحساسِ مثل احكمي يا برْيطانيا وكثيراً ما نرى أنَّ النشيد الذي تنتخبُهُ الحكومة لا يتَّفِقُ مع ذوق الجمهور فيتركهُ كما في الولايات المتحدة. كذلك في ألمانيا؛ فإنك في أغلب الأحايين لا تسمعُ الشعبَ يترنمُ بالنشيد الرسمي. بل تجدُهُ يُنشدُ اليوم بحماس المراقبة على الرين لا يقلُّ عن حماس آبائهم يومَ كانوا ينشدونه قبلَ أخذِ الالزاس واللورين. غيرَ أنَّ لنشيدِ مارتين لوتر أو كما سمَّاه الشاعرُ هنريك هين مرسييز الإصلاح رنّةٌ لطيفة ، وذكرٌ جميل ، وتاريخٌ سارٌّ. فهو لا يزالُ يُسمَع اليوم بألمانيا كما سُمع في معركة لوتزن وفي حرب فرنسا. بل كلَّما جدَّ حادثٌ جَلل. ولقد عناهُ الفيكونت دي فوج أحد كبار كتَّابِ فرنسا في انتقادهِ رواية السقوط لا ميل زولا حيث قال إِنَّ من سمع الأصوات التي ملأت وادي الميوز ليلةَ أوّل سبتمبر سنة 1870 يعرف كيف غُلِبَت فرنسا على أمرِها ولا يجهلُ أحدُنا ما كان من التأثير الشديد لنشيدِ الدستور العثماني عام 1908 فالعهدُ ليسَ ببعيد. فقد أشعل نارَ الوطنية في قلوب العثمانيين ،
وعلَّمهم أن الحرية حقٌّ ، والعدلَ واجبٌ ، والمساواة طبيعية. فأصبحوا لا يرضونَ بالذُّل ، ولا يرضخون للاستبداد. وما زال كالكهرباء يغلي الدّم في عروقهم ، ويثيرُ الشعورَ في قلوبهم ، حتى كان منهُ أن خَلَع عبد الحميد. أمَّا نشيدُ الجمهورية الصينية فأشهرُ من أن نشيرَ إليهِ. وهو أكبر برهانٍ على أنّ الأناشيدَ الوطنية هي التي ترفعُ الأمم من وهده الانحطاط. وهل كان يجول بفكرٍ أحدِنا أنّ الصين تصير يوماً ما جمهورية؟؟
نظرة إلى مصر بعد كل ما مرَّ بنا
لا يوجدُ في هذا القطرِ ما يُطلقُ عليه نشيدٌ وطني سوى سلام الخديو هذا الخديو له الفخار وهو ليس مما يدفع القومَ لبذل النفس والنفيس في سبيل بلادهم. وما عداهُ فأناشيدُ يترنم بها أطفال المدارس في الاحتفالات. وجلُّها بل كلها من نظم شاعرِ الأمير أحمد شوقي بك وهي ممَّا يشكرُ عليها. إلَاّ أنها ليسَ لها الوقع الذي غيرها من الأناشيد الوطنية. والسبب على ما أظنُّ كون شوقي بك شاعراً غير ملحِّن. وقد اقترحَ بعضهم في الجريدة منذُ ثلاثة أعوام وضع جائزة لمن ينظم أحسن نشيدٍ وطني. ولا أرى لذلك فائدة. إذ أَن النشيد الذي يجب أن يكون نشيد مصر الوطنيّ لا يكون الباعث عليهِ حبُّ المال. واليوم الذي تجتمع فيهِ الوطنية الحقة والشعر والموسيقي في قلب احد أبناء النيل هو اليوم الذي نسمع فيهِ نشيدنا المنتظر؟
اتبره - السودان
عز الدين صالح