الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجاه البحر
ذهبتْ إلى الاسكندرية أصطاف. . . أستغفر الله! كبُرتْ كلمة الاصطياف بواسع معناها على ما يمكنني من سوانح الفراغز بل ذهبت لقضاء أيام ألتمسُ فيها راحةً من عناءِ الأعمال. فلمّاً بلغتُ النَزْلَ كان أوَّل مطلبِ لي أن أرى البحر؛ فتمشيت إليهِ ، وحاذيت إِفريزَه الجديد ، متخطراً على رَسلي ، حتى انتهيت إلى حدّ الرصيف غرباً فعمدت إى صخرة وثويت عليها.
ثويت مفترجاً متخلّياً متروّحاً
غير أنني لم ألبث أن وجدتُني قد أُخِذت
أُخذْت بمحاسن ما أرى ، واغتربتُ عن نفسي ساعةً. فلمَّا عدتُ من غربتي ، حسبتنُي هيكلاً يتلهَّب بين تلك البسطةِ المائيَّة التي تُحيطُ بي لم يكن إلَاّ أن رسوت بجسمي مطلاًّ على ذلك الفضاء المتحشرج الليّن ، المتضرّب المتلوّن ، حتى مضى نظري طافياً فوق اللجج ، طاوياً أبعادها ، ملمّاً بآفاتها. وتدافعت خواطري متخذةً من أشعة النظر أسباباً ترتقي عليها أو سفائن تستقلُّها. فارْقَتٌ جسمي كما تفراقُ النحلْ الخليَّة ، وانصرفت أشتاتاً بين السماء والماء. إنَّ للخواطر جنى عذباً تجنيهِ من آيات الماء الملِحْ. . . جنى معهُ
التعب ، وتعبهُ هو الراحة ، على حدّ قول القائل:
إنما الراحة تبدي
…
لٌ لنوع التَعَبِ
والتداوي نصَبٌ
…
يُشفى بهِ من نصَبِ
ما صفةُ ذلك الجنى. . .؟
لا تكلّفوها شاعراً قديراً ، ولا كاتباً تحريراً ، ولا حكيماً خبيراً؛ بل ليسأل كلٌّ منكم نفسهُ عما أحسَّ وتصوَّر حين جلسَ إلى البحر مثل تلك الجِلْسَةِ. جنيت من تلك الرحلة الفكرية تعباً مرُيحاً ، وأردت تدوينَ ما كسبهُ ذهني من محصولها ، فعجزت عن أقلّهِ ، ولم يسعني سوى أن أتنفس الصعداءَ بهذا النداء:
أيها البحر الشائقُ المهيب:
ماذا يبلغ علمُ إِنسانٍ جاهلٍ ضعيف من أسرار جلالك وجمالك؟ إذا طغَتِ الموجةُ من أمواجك فاستجمَعَت خضراءَ ، وانحذفت رابية شماءَ ، تأخذ العنان بعفُرتها البيضاء ، فأيّ فكرٍ يُكبرُها إِكبارَها ، وإن هي منك إِلَاّ أُلعوبة تتجدُّدُ كلَّ ثانيةٍ ، وأعجوبة بينا هي الأولى
إذا هي الثانية. فإذا ملك النفسَ وملأَ الحسَّ إِعظام تلك الآياتِ ، فما الذي تفعله الرَّوعةُ بالمتطلّع حين تهبطُ الرابية ، وتنفعر لها الهاوية ، فتقصف وهي متداعية ، حتى تَنِشَّ نشيشاً ، وقد تكسّرت إلى ألوف أجزاءٍ من الماس