الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفضيلة
وجدتني يوماً من أيام هذه الحياة في عاصمةٍ من عواصم هذا العالم استفزتني فيها مشاهد متباينة أضحكنَ وابكينَ؛ وظللتُ متجولاً في مشارعها وشوارعها ، وأنديتها وأوديتها ، كأني ناشد ضالةً وهل تنشد في ظلمات هذه المدينة إلَاّ الفضيلة الضائعة لا بل الضالة لأنها هبطت من المحل الأرفع وهوت من الفضاء إلى ثرى الغبراء ومن عالم النور والسيَّارات والشموس ، إلى عالم الظمة ظلمة الفضاء والعقول والنفوس ، ونزلت من السماء سماء الصمت والسكون والراحة الأبدية ، إلى حضيض جلبة الإنسان ، وعجيج الحيوان ، فضلَّت هذه الفضيلة وأضلَّت. ضلَّت حين لم تجد سكناً تأوي إليهِ في جديد مُستقرٍّ اختارته ، وعرفت أنها التاثت بحمأة الخطيَّة ، وأضلَّت لأنها تركت الفلاسفة والشعراء كحاطبين في الظلام. أضلَّتهم لأنها ربة عَبَدها الناس ، لا جميع الناس ، ولكن عبدها الشاعر والفيلسوف ، وسجد لها الأدبيون والأخلاقيون وهم لا يدرون أين يضعون لها شطر الوجوه ، فضلَّوا وأضلُّوا كما فعلت الآلهة من قبل فيا لضلال العابد والمعبود! ضائعة أنت أيتها الفضيلة وأنتم أيها الفلاسفة والشعراء وأركان الحكمة والآداب كل منكم فضيلةٌ أرضية ضائعة ضياع فضيلة السماء في الأرض؛ كل منكم فضيلة ضائعة ولكن يست بأرضيةٍ كما قيل ، لأنكم أرواح سماوية ، وجواهر مجرَّدة ، هبطت مع الآلهة إلى الأرض، فضاعت
آلهتكم وضعتم معها أنتم في ثنيَّات القرون. حقيقة كشفتموها ومَثَلٌ ضربتموه هو أن الأرض الخبيثة لا ينبت فيها الطيَّب بل الخبيث. الأرض الخبيثة تبخلُ على الزهرة بشيءٍ من قواها الحيوية فتخرجها ضعيفة القوام لا تقوى على الفواعل. تتأُر حتى من النسيم البليل ، وتحرقها حتى حرارة شمس الخريف المعتدلة ، ثم أنها تُودّع الحياة غير شبعانةٍ من الأيام كأنها أمل في صدر الفتاة ما عتم القضاء أن رماه باليأس فأطفأ نوره أما الأشواك فلها من التربة السوداء كل حياةٍ تجعلها راسخة الجذور رسوخ حب الأثرة في نفوس الجبَّارين ، وتبرزها محدَّدة الرؤوس كأنها حراب الجنود المسخَّرة لتدمير الشعوب الضعيفة ، وتكوّنها جاثيةً على الرمال كأَنما هي رؤوس الأرواح الشريرة نافرةً من بطون الأَرضين على وجه البسيطة. الفضيلة تلك الزهرة الضعيفة القوام لا تلبث أشواك الاجتماع أن تقضي عليها ، لأن نفوس البشر تربة خبيثة لا تغذّي الأزهار ولكنها تغذّي الأشواك السامة ، تبسطها على طريق المصلحين فتدمي أقدامهم ، وتملأ بها سبيل التعسء فتزيد آلامهم ، فيا تعست تلك
التربة الخبيثة وتعس من ورائها الجناة الآثمون! الفضيلة زهرة عطرة لا تحبُّ أن تخرجها الأرض ، لا بل لا تحب هي أن تخرج من الأرض ، لأنها لا تُريد أن تتغذّى بعناصر أشقياءِ هذا العالم تدكّهم عروش الظالمين ، وتحشرهم في الأجداث المظلمة ، فتحلهم الطبيعة غذاءً لها ، فبئس غذاء الأشواك لا غذاء الورود ، وبئست تلك
الهياكل المحنَّطة التي أنفوا عليها حتى من فعل الطبيعة ، والتي تحبّ الكبرياء حتى وهي أجداثها العميقة ، والتي أقامت من الأهرام دليلاً على الجبروت. الفضيلة زهرة لا تحبّ أن تستمد من هواء هذه الأرض لأن هذه أنفاس وتلك حسرات ممتزجة بجواهره الفردة. نفثات صدورٍ وآلام ، وحسرات كرام ، لا تحب أن تنمو عليها تلك الزهرة الطاهرة ، لأنها لا تريد أن تجتذب من الهوء آلام البشر وحسرات الإنسانية الشقية ، ولا تحب أن تعيش في محيط تلك الأمواج الاثيرية التي يبعثها أنين المظلومين ، وعجيج الفقراء ، وأصوات الحزاني. حقاً أن الزهرةة قصيرة مدى الحياة لأنها شاعرة حسَّاسة ذات ضمير ووجدان في ظواهر هذه النفوس البشرية ، فلذلك تتأثر وتتألم وتذبل تموت. فسلام على الزهرة! ما أشبه تلك الزهرة بالفضيلة ، ما أشبهها بتلك التي تخالج صدر الأديب وتعالج نفس الفيلسوف ، تريد أنتنمو لتكون فيَّاضة الوجود عى العالم بأسره ، فتمنعها الرذيلة فيموت حاملها وتموت قصيرة مدى الحياة بموتهِ ، فيا لرزية الإنسانية بفقدكِ أيتها الفضيلة!
النجف
محمد رضا الشببي