الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 36
- بتاريخ: 1 - 7 - 1913
الرئيس بوانكاره
في بلاد الانكليز
ثلاثةٌ من رؤساءِ الجمهورية الفرنسوية زاروا عاصمة بريطانيا العظمى في السنوات العشر المنقضية: زارها مسيو أميل به سنة 1903 ، وكانت الدولتان لا تزالان في مناظرةٍ شديدة ، فأُبرم في السنة التي تلت الاتفاقُ الانكليزي الفرنسوي الذي قلب سياسة العالم ، وغير موقف دول أوروبا تجاه بعضها بعض. وزارها مسيو أَرمان فاليير سنة 1908 ، وكانت الدولتان العظيمتان قد أدركتا فوائد اتفاقهما ، وشعر العالم بنتيجة اتحادهما؛ وجاء المعرض الانكليزي الفرنسوي الذي أُقيم في لندرا محكماً تلك الروابط الجديدة بين أبناءُ السين وأبناءِ التاميز. وزراها مسيو ريمون بوانكاره في الشر الفائت. فبالغ الشعب
البريطاني في إكرامهِ والاحتفاءِ بهِ. وتجلَّى اتفاق فرنسا وانكلترا بأبهى مجاليهو وأسنى مظاهره. قال أحد كبار الساسة الانكليز منذ نصف قرنٍ ما اتفقت فرنسا وانكلترا على أمر ، إلَاّ وكان ذلك الأمر لخير الإنسانية وتابيد العدل والآن نسمع شعوباً كثيرة تئنُّ ، وأُمماً عديدة تشكو. ونرى من جهةٍ ثانية فرنسا وانكلترا متصافحتين متفقتين. فهل يكون هذا الاتفاق لخير تلك الأمم الشاكية ، وإنصاف هاتيك الشعوب المظلومة. . .؟ هذا ما يرجوهُ المتعطشون إلى العدل ، الراغبون في الحرية ، التائقون إلى الحياة.
أكرمت بريطانيا العظمى في شخص زائرها الكريم دولة الحرية والمساواة والإخاءِ ، تلك الكلمات الثلاث التي ستعيّد لها الأمة الفرنسوية في الرابع عشر من هذا الشهر ، والتي نحاول كلُّ أُمةٍ من الأمم المتدينة أن تجعلها شعاراً لها. أكرم الانكليز في شخص رئيس الجمهورية ممثّل صديقة اليوم ، وحليفة الغد ، ونصيرة النور والعرفان. وأكرموا فيهِ فوق ذلك الرجل الممتاز بصفاته العالية وأخلاقهِ السامية ، الخطيب المفوّه ، والكاتب التحرير ، والسياسي القدير الذي أجمع الجميع على احترام شخصيته. فقال لهُ ملك بريطانيا وإمبراطور الهند في خطبة الترحيب ، ما لم
نسمعه في الخطب التي يتبادلها رؤساء الحكومات وأصحاب التيجان ، قال: أنا سعيدٌ بأن أرى في ضيافتي رجلاً ممتازاً بخدمة ِ الجليلة ، ذا شهرةٍ بعيدة ، ليس فقط في عالم السياسية ، بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي موضوع مجدٍ لفرنسا منذ ثلاثة قرون تحسدها عليهِ أوروبا جمعاء هذا
ما قالهُ جورج الخامس الذي لا تغيبُ الشمس عن أملاكهِ لابن الشعب الذي توصَّل بجده واجتهاده إلى أعلى مقام يحلمُ بهِ الإنسان. أمّا الأمة الانكليزية فقد عبَّرت عن إعجابها وابتهاجها ، كما يُعبّر الشعب ، بلا تصنُّع ولا تكلُّفٍ. فكان هتاف التحية والنصر يتصاعدُ من كل الصدور ، لفرنسا ولرئيسها وللحرية! ولم ينسوا في هتافهم اللورين ، أم الرئيس ، وابنه فرنسا المفقودة! وكان الرجالُ والنساءُ حاملين الأزهار الزرقاء والبيضاء والحمراء: ألوان الراية الفرنسويةز وفي أحد الشوارع سُمع صوت الفوتوغراف يحيي الرئيس وينشد المرسلييز ، كما سمع صوت الببغاءِ يحيي أغسطوس قيصر عند دخوله رومه. . . .
ثلاثة أيام قضاها بوانكاره في عاصمة الانكليز بين مجالي الابتهاج ومظاهر الحفاوةً: عند وصوله يَّاهُ الأسطول الانكليزي بإطلاق المدافع؛ وعند سفره شيَّعتهُ ست طياراتٍ محلقةً فوق البارجة التي تقلّه. وهكذا أرادت انكلترا أن تحيي فرنسا وطن فنّ الطيران.
وقد كان للطيارين شأن يذكر في هذه الزيارة. فإن جريدة الماتن سألت كبار رجال السياسة والأدب رأيهم في زيارة الرئيس لانكلترا وطبعت من العدد الذي نشرت فيه الأجوبة ثلاث نسخ على الحري ، فلم ترسلها في البريد بل سلمتها إلى أحد الطيارين الفرنسوين؛ فحملها طائراً من باريس إلى لوندرا ، ودفع نسخةً منها إلى الملك جورج ، نسخةً إلى الرئيس ، ونسخةً إلى محافظ لوندرا.
ولم تنقض هذه الزيارة دون أن نسمع صوتاً للشعراء - صوتاً واحداً - ولو كان ذلك عندنا لسمعنا ألف صوت. . .! شاعر انكلترا الكبير روديرد كيبلنغ حيَّا الرئيس بقصيدة وجهها إلى فرنسا ، قال:
أنت التي عرفت كلّ شقاء معروف وتغلبت عليه
لأنكِ تحملين في صدرك حب الحياة السليم: وهو درع بلاد غاليا
ففي مغامر النعمة لا تعرفين حداً. وفي مواطن الجهد لا تعرفين ضعفاً
أنت الرهيبة بقوةٍ تستمدينها من تربةٍ لا ينفد غناها
تحكمين أشدّ الأحكام على قدرك وشأنك. وأنتِ الأمة الرؤوفة بالغير
أنتِ الأولى في إتباع الحقيقة الجديدة ، والأخيرة في ترك الحقائق القديمة
أنتِ فرنسا التي تحبها كل نفس عطوفة إلى حب الناس
أتذكرين إننا قبل مولدنا كنا جنباً على جنب نضطرب ، كنا معاً في حجر رومة متحرجين لنبدأ بالعراك ،
قبل أن يعرفوا تباين لغاتنا كانوا يعرفون مستقبل مهمتنا
كل واحد من هذين الشعبين كان في آن واحد يهيئ مستقبله ، ويرتّب مصير أخيه
فلهذا هززنا نحن الاثنتين الإنسانية إلى أن صارت الأرض كلها أرضنا!
ومن أقصى العالم إلى أقصاه أثارت منازعاتنا السلطات وشيدت عروشاً وقوضت عروشاً
وذلك لكي يسد الواحد منا الطريق في وجهِ الآخر
تلك شعوب اتخذن لها مقدَّماتٍ لنا. فكانت أجيرات سخطنا وغضبنا
لهذا ملانا البحار عواصف ، واجتزنا أبواب العالمين الجديدة دون أن نعرف من منا نحن الاثنين كان السابق
أتذكرين؟ ويد كل واحد منا على قائم سيفه. وكلنا مستعد ليضرب. وكلنا واثق بأن الملتقى ، مهما كان ، أثل إلى المعركة. كنا شاكي السلاح ، لا يخطو أحدنا خطوة إلاّ أوقفته قوة الآخر ، أو دفعته إلى الأمام.
لقد اجتزنا طول العصور والأحقاب وقطعنا عرض البحار كلها
فأين تقهقرتِ أمامنا؟؟ ومتى تقهقرنا أمامكِ؟؟
سلي أمواج البحار: كل موجة منها قد عرفت إحدى معاركنا
أجل حالت بيننا أحياناً شعوب أخرى. لكننا كنا نتركها لنعاود الكرة على بعضنا بعض ، لأننا كنا نلذ جميعاً بتعادلنا في الجلاد
كان كل واحد منا للآخر سراً وجزعاً وحباً ، كنا نتقابل بشعارنا
فأية معركة كانت تشرّف أحدنا بالعراك كمعاركنا ونحن الخصمان الباسلان
كان أحدنا ينتزع من حلق الآخر شهادة له ببسالته ، وهتاف إعجاب به
وكلانا صب في جام أخيه دمه ممزوجاً بدمعه: أفراح البأس ، والآمال بلا حد ، والأشجان الشديدة.
وكل ما لوَّت الحياة ، وكل ما رفعها وأعلاها منذ ألف عام ، أعمال تنوءُ بها القوى ، ومعارك تحت كل شمس وسماء: هذه هي أفعالنا المشتركة يا فرنسا الصديقة!
متعانقين الآن تحت عب. واحد من الذكرى والندم أصبحنا نتوق إلى الراحة ، ضاحكين من الخدع القديمة التي صرنا الآن نزاها ألا عيب. وننظر إلى إقبال سنين جديدة متسائلين هل يمكن أن تثور عواصف أشد من التي أثرناها. والآن نسمع أصواتاً جديدة تتعالى وتتساءل وتتفاخر وتنادي كما كنا ننادي صاخبين ، عندما تتدفق جماهيرنا ، أتذكرين؟؟
حباً بالحياة ذاتها كان أحدنا يتفحَّص حسام الآخر ، فأي دمٍ وأي حسام يفعلان أكثر مما فعلنا؟؟
فيا لها من مدرسة صارمة تعلمنا فيها أن يعرف الواحدُ منا الثاني
نحن الذين تغازينا سواحلنا وتناهبنا منازلنا
من يوم رنّ سيفُ برنّوس وهو واقع في ميزان رومه!
ونحن اليوم نتماسك ثانية جسماً لجسم لصون سلام الأرض بالسهر عليه نقياً من كل دم
فكان لهذه القصيدة أعظم وقعٍ في النفوس ، وتناقلتها صحف الأمتين معلقة عليها الكلمات لما تضمنتهُ من الشعور الصحيح والخيال الراقي. انبرى لردّ التحية الشاعر الفرنسوي فرنان غريك ، ونحن نقتطف من قصيدته بعض مقاطعها:
أجل أيها الرفاق! كلانا أبلى في القتال بلاءٍ حسناً
كان أسطولانا يجوبان البحار ، ويطرقان المواني ، يبحث الواحد عن الثاني
كان أسطولكم ضخماً قويّاً متغلباً على ثبَج البحر
وكان أسطولنا رشيقاً فتَّاكاً مزيناً بالأعلام وكلاهما ملك البحر والهواء
رآهما العالم من بريطانيا العظمى إلى أميركا يتقاتلان في أماكن لا اسم لها ولا ذكر وقد أصبحت مشهورة بعد معاركنا. . .
والآن ، وقد أطرحنا الحقد ، يمكننا أن نقص على بعضنا بعض تاريخ مواقعنا الهائلة دون أن نخجل من الماضي
أما جان درك ونابوليون فإن احترامكم وتمجيدكم لها الآن يمحو كلَّ ذكرٍ سيء. . .
بلى بقال عنا معشر الفرنسويين أننا نملأ الأرضَ ضجيجاً ، ونصمّ الآذان بمناداتنا بالحرية والمساواة والإخاءِ
بلى ولكننا كثيراً ما نجتزّ رؤوس بعضنا بعش من أجل هذه الكلمات ، وذلك ليستفيد العالم!
فلنأتلف يا انكلترا ذات العقل الشريف واليد القوية
فنقوى حينئذٍ على تسكين آلام وسدّ ينابيع الدمّ.