الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحب البرق
عشت شقيّاً ولم أبالِ
…
ولم يمرَّ الهنا ببالي
أعلّلُ النفسَ في نهاري
…
وألزمُ الدرسَ في الليالي
رقَّ شعوري فرقَّ جسمي
…
ورقَّ ديني ورقَّ مالي
بشارة خوري
إذا قلتَ في تعريف البرق: إِنها جريدة اجتماعية أدبية انتقاديه - كما هو مكتوب في صدرها - فإنك لم تخصصها بهذا القول؛ ولكنك إذا قلتَ فيها: إِنها جريدة يحبّها النشء السوري المتأدب ، وإِنها
في سوريا جريدة السوريين المهاجرين في الأقطار الأميركية فقد ميزتها حينئذٍ بصفتين خصيصتين بها. نشأت في بيروت على أثر إعلان الدستور في تركيا ، ولم يكن لها رأس مالٍ ماديّ قط ، ولا معنويّ سوى أدب منشئها ونشاطهِ ، وسوى تلك الفوضى الهائلة التي انتشرت في البلاد يومئذ. على أنها ما برحت سائرة في طريقها يدفعها نشاط الشباب إلى الأمام ، وتحببها حرية القلم إلى القرَّاء حتى بلغت اليوم السنة الخامسة من حياتها وقد بلغت معها شأواً كبيراً من النجاح. هذه هي جريدة البرق التي اثني عليها حضرة الكاتب الشهير سليم أفندي سركيس ذلك الثناء الطيّب في حفلة إكرام خليل أفندي مطران الشاعر المحبوب؛ فإنَّ البرق دعت أنصار الأدب في سوريا إلى الاشتراك في تكريم شاعر القطرين وأرسلت إليهِ باسم أولئك الأدباء هدية جميلة اعترافاً بفضله ونبوغهِ. أما صاحب البرق ، بشارة أفندي الخوري ، ففي ما دون الثلاثين من العمر. وهو ذكيُّ الفؤاد ، عصبي المزاج ، سريع التأثر. إذا كتب راضياً سالت كلماتهُ رضيً وصفاءً ، وإذا كتب غاضباً قطر قلمهُ سّماً زعافاً. وهو شاعر مجيد ليس للصناعة أثرٌ ما في شعره وإن كان أثرها يظهر على الغالب في نثره؛ ذلك لأنهُ يقول الشعر عفواَ الخاطر غير مغضوب عليهِ ، ويكتب على الأكثر محمولاً على الكتابة إما بحكم السياسة وإِما بحكم الأحوال. ولقد أُتيح للزُّهور أن تنشر شيئاً من شعره في بعض
أجزائها السابقة - والزُّهور كما يعهدها القرَّاء لا تنشر من الشعر إلَاّ الجيّد المختار - فكن في الذي روته لهُ ، على قلّتهِ ، دليلٌ على الإجادة والمقدرة. على أنَّ ذلك القليل لم يكن كافياً لإظهار الشاعر بمظهره الحقيقي من الشاعرية فرأينا أن نختار اليوم مما وقع إلينا من شعره ما لعلَّه أن يكون أدلَّ
على فضلهِ ، وأفصح عن بيانهِ وأدبهِ:
قال من قصيدة:
يا هندُ قد الِفَ الخميلةَ بلبلٌ
…
يشدو فتصطفقُ الغصونُ وتطربُ
هوَ شاعرُ الأطيارِ لا متكبّرٌ
…
صَلِفٌ ولا هو بالإمارةِ معجَبُ
تتعشَّقُ الأزهارُ عذْبَ غنائهِ
…
فإذا شدا فبكلِّ ثغرٍ كوكبُ
والغصنُ - والأوراقُ آذانٌ لهٌ -
…
ماذا تُرى فيها النسيم يتبتبُ؟
وإذا الضُحى لمعت بوارقُ ثغرهِ
…
نادي بأجناد الطيورِ تأهبوا
فسمعتَ للأطيار موسيقي على
…
نغماتِها يأتي النهارُ ويذهبُ
والصوتُ موهبةُ السماءِ فطائرٌ
…
يشدو على غصنٍ وآخرُ ينعبُ
هي للهزارِ مكانةٌ من أجلها
…
دبَّت بأفئدةِ الحواسدِ عقرَبُ
فتألبوا من حولِ أشمطَ أشيبٍ
…
يحدو به للشرّ أشمطُ اشيبُ
فإذا همُ حولَ الغرابِ عصابة
…
بأحطَّ من أخلاقها تتعصَّبُ
فشكوا لبعضهمِ الهزارَ وجذوةً
…
بفؤادِ كلٍّ منهمُ تتلهبُ
وتشاوروا فإذا الوشايةُ خيرُ ما
…
شَرَكٍ به يقعُ الهزارُ فيُعطبُ
فسعوا بهِ فإذا الهزارُ مقفَّصٌ
…
والبومُ منطلِقُ الجوانحِ يلعبُ
يا هندُ إني كالهزارِ فإن يكنْ
…
هو مذنباً فأنا كذلك مذنبُ
وقال من قصيدة:
أيهِ لبنانُ والجداولُ تجري
…
فيك برداً فتنعش الظمآنا
أيهِ لبنانُ والنسيمُ عليلاً
…
يتهادى فيعطف الأغصانا
حبذا السفح معبداً لصغار ال
…
طير تشدو لربها الالحانا
خافقات الجناح للشمس آناً
…
خافقات الفؤاد للحب آنا
آمنات في السفح كاسرة الج
…
وِّ فلا تأتلي بهِ طَيرانا
فترفّ الأديمَ تختلس الح
…
بَّ وتظمى فتقصدُ الغدرانا
وإذا الشمس ودَّعت ودَّعت تل
…
ك السواقي والزهرَ والأفنانا
واستقرَت في وكرها آمناتٍ
…
كلُّ قلبين يخفقان حنانا
مطبقات الجفون يحفظها الأم
…
ن كما الجفن يحفظ الإنسانا
أيّها ذي الطيور مَن قسم الح
…
ظَّ ومَن قال للشقا كن فكانا
أيّها ذي الطيور حسبكِ في السف
…
ح انطلاقاً جوانحاً ولسانا
أتجيدينهُ البيان على الأفنا
…
ن والناس لا تجيد البيانا
وتعيشين والرجال بلبنا
…
ن يموتون شقوة وهوانا
إن كفَّا تفصل الثوب للعر
…
سِ لكفٌّ تفصّل الاكفانا
ولهُ في بكاءِ والده:
وقفتُ حيالَ القبر ما أنا بسٌ
…
بشعرٍ ولكن مقلتي تنبس الشعرا
وهل كنتُ عند القبر غيرَ قصيدةِ
…
بواكي قوافيها تُرى دون أن تُقرا
فتىً دامع العينين مضطرب الحشا
…
يكفكف باليمنى ويسند باليسرى
وفي عينه ما يعجز الوصفَ بعضهُ
…
وفي صدره ما بعضهُ يُحرج الصدرا
وله من قصيدة ضمّنها حكاية قال:
فتىً يتعثَّرُ في لؤمهِ
…
كما يتعثرُ في جهلهِ
نواظرُهُ تحت أقدامهِ
…
كباحثةٍ ثَمّ عن أًصلهِ
لتسقِطُ أمُّ الجنين ابنّها
…
إذا حلمت بفتىً مثلهِ
ولو أبصرت عينهُ وجهَه
…
لقلتُ العفاءُ على نسلهِ
ولهُ وقد طالما جلس إلى الكأس حزيناً فما زال بها حتى سُرّيَ عنه وفارقها يتهادى انبساطاً:
تبسمُ وشعشع لي السلافة في الكأسِ
…
فثغرك في ليل الحوادث نبراسي
ولا تلمَس الكأس التي قد رشفتها
…
أخاف على كفَّيك من حرّ أنفاسي
يقول ليَ الآسي فؤادك موجعٌ
…
فَمن أنبأ الآسي بفعلك يا قاسي
وينصحني الأخوانُ بالخمر إنها
…
عى زعمهم تشفي من الآلم الراسي
فها أنا أستشفي بها كلَّ ليلةٍ
…
ألم ترَني استتبعُ الكأسَ بالكأسِ
وأعجبُ من نفسي ودائي بمهجتي
…
أعالجهُ بالخمر ترقى إلى رأسي
وله من قصيدة في وصف أرز لبنان الشهير:
جبالٌ على شكل الهلال محيطةٌ
…
بمفرق قاديشا تناجي الغواديا
قوائمُ حول الأرز منّاعةٌ له
…
إذا صادمته الحادثات عواديا
وما الأرز إلا آية اللهِ في الورى
…
فبوركَ ضخمَ الجزع ريّانَ ناميا
أو ليس في هذه المختارات القليلة ما ينمُّ عن شاعرية فطرية تُحلّ صاحبها منزلةً عالية بين الشعراء المجيدين؟ أنَّ المستقبل بسَّام لصاحب البرق والوسائل متوافرة لديه من ذكاء عزم وتوقّد فكرة ونشاط شباب.