الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحلة صيف
ذهبتُ إلى الإسكندرية ، وفي تقديري أن أقضيَ ثمَّتَ يومين ، وفي تقدير الله أن أقضيَ شهرين. فما هو إِلَاّ أن خَلَت ليلةٌ حتى باغتَني داءٌ ، فضرب وأثقل ، ثم تمكَّن فأعضل ، ثم أناخَ بكلكل. فلمَّا صوتُ بعد أيام من سكرتهِ ، ونجوتُ من مضطرَب غمرتِه ، نهضتُ ببقية الجسم الباقية ، كما تُلبس الخرقة البالية ، وعرضتُ نفسي على الباخرة ، فالباخرةُ تحملني إِمَّا إلى الشرق وإِما إلى الغرب. فقيل: مكانك يا هذا الخيال! إِنّ الباخرةَ لا تستقلُّ بك في زمن وباءٍ ، وقد تستقلُّ بأشباه الجبال. قال الطبيب: فعليك بالمكس! حَسُنَ هواؤها ، وجلَّ رواؤها. فقصدتُ المكس وما أدراك ما هي الآن. هي إِحدى ضواحي الإسكندرية ، قليلةُ المساكن حقيرتها ، تمتدُّ سلسلة أبنيتها مستطيلةً بين شاطئِ البحر والرمل. الهواءُ فيها جافٌّ نقيٌّ عاصف ، والبحرُ شديد الخفوق لا يملُّ من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبُها. والمنظر على الجملة بديعٌ في مطلع الشمس وفي مغربها؛ وللشمس فيها تجلّياتٌ باهرةٌ خلالَ الغمام ، وللغمام تشكُّلٌ وتلوُّن فاتنان ، وللأُفق تأنُّقٌ عجيبٌ في ترتيبِ قدر المنطقة التي يتحزَّم بها وإبرازها في أبدع زينةٍ بين الورديّ فالبنفسجيّ فالفستقيّ فالزمرديّ فاللازورديّ
فالسنجابيّ ، فما بينها من الألوان التي تُلطِف اجتماعها وتزيدها بهاءً على التنويع. ومن محاسنِ المكس أنَّ الحكومةَ مهملتُها ، فهي من أجل هذا لم تزل قطعةً من الطبيعة يعيش فيها الإنسان ، كما يُجبُّ أن يعيش المتمتع طالبُ الراحةِ. فإذا مرَّ في طريق ، فالطريقُ غيرُ ممهَّدَة ولا مستقيمة ولا محفوفةٍ بصفيَّن من الشجر يحجبان النظرَ ، كما تُحجبُ عيون الخيل التي تجرُّ المركبات؛ بل هي ضيّقةٌ فواسعة ، صاعدةٌ فمنحدرة ، رملية فحجرية ممتدَّةٌ فمنعطفة ، فيها للسائرِ ما لا يألفهُ فيستجدُّهُ كلَّ آنِ. وفيما حولها من المسافات المفتوحة ما ينطلق معهُ النظرُ على مدى البحر الفسيح تارةً ، وعلى مدى الرملةِ الوعساءِ طوراً.
رأيتُ في خلال إِقامتي بالمكس بعضَ الأشياءِ التي تجدرُ بالذكر
رأيتُ الملَاّحاتِ وعلمتُ للمرَّةِ الأولى علمَ الشهادةِ والتحقيق كيف يُصْنَعُ هذا المصلح الذي يُصلِح غذاءَنا ، وينزلُ من حاجيّات حياتنا في المنزلة الأُولى ، حتى أن الأمصارَ التي لا يُوجد فيها وتستوردُهُ من بعيد على ظهور الدواب تتداول قطَعَهُ تداولَ النقود. وإني لاستحيي أن أصف بالدقة كيف يُصنع الملحُ ، لأنَّ أجهلَ الناسِ يتصوَّرُهُ. ولكنني لا أخاف
القولَ إِنَّ البلادةَ مستحكمٌ في قلوبنا ، نحن الشرقيين ، متمكنةٌ من لحمنا ودمنا إلى حدّ أنَّنا لا نتكلَّفُ الرؤيةَ ولو عن كَثَبَ ، لنعلمَ مِن دقائق الأمر ما لم يُلمَّ بهِ تصوُّرُنا إِلماماً تامّاً من مجرّد الأخبار.
رأيت أيضاً مصطَنعَ الحجارة الضخمة المربَّعةِ التي تُعدُّ لإِتمامِ جدارِ الرصيف الشرقي بالإسكندرية ، وقد تمَّ منها ألوفٌ يجدُها الناظرُ معروضةً على خَطٍّ مُستطيل ، وهي تُحمَلُ على ظهورِ البواخرِ بواسطةِ مرفعةٍِ بخاريةٍ منصوبة على رأس صخرة متقدّمة في البحر. رأيتُ حيث ينتهي النظر من المكس شبه قريةٍ ذات خضرةٍ تدعى العجمي عاقني عن تفقُّدها ضعفّ الجسم؛ فسألتُ أحد ساكنيها ، فقال إِنَّها لا مزَّيةَ لها عن سائر القرى المجاورة إلَاّ بشيءٍ: وهو أن البحرَ يمدُّ هناك ذراعاً ، ثمَّ يعطفهُ منها جزيرة. وفي الجزيرة مقامٌ لوليّ يُعرف بالعجمي ، وهذا المقامُ غاصٌّ بالمراكب الصغيرة المُهداةِ إليهِ نذوراً ، والنواتي يعتقدون أنهُ شفيعُهم ، وأنهُ ببركة هذه النذور يرقُّ لهم ويُنقذهم من أخار البحر.
ما أحوجَ الإنسانَ إلى الإِيمان!
هذا كلُّ ما رأيتهُ م جانبٍِ؛ أمَّا من الجانب الآخر ، وهو الذي ينتهي إليهِ الترام قادماً من الإسكندرية ، فالذي استلفني أمران: أحدهما وجودُ حمَّام هناك واسع متقن ، ومنديَين للشرب ، هذا من خشبٍ قائم فوق الحمَّام ، وذاك مبنيٌّ من الحجر على شكل سرادق رحيب ، بينهُ وبين الحمَّام خطواتٌ. وفي كل مساءٍ يستقدم أصحاب هذين المنتدَيَين جوقَتَي موسيقي لإِطراب الحضور ، الواحدة منهما أرمنية تضرب ألحاناً شرقية وألحاناً غربية ، والأُخرى إفرنجية تضرِبُ ألحاناً إفرنجية
مختارة بإتقان لا تبلغهُ الأولى. ولكنَّ ألحانه الأولى التي فوق الحمَّامِ يزدحم الناس فيها ألوفاً كلَّ يوم ، بخلاف الأخرى التي بجانبها ، فلا يجتمع فيها إلَاّ أفرادٌ. ولو شئتُ أن أُفصل أسباباً لنجاح هذه وفشل تلك ، لفعلت؛ ولكنَّ مذهبي أن السبب الذي ترجع إليه تلك الأسبابُ بجملتها هو نفس السبب الذي تشقى به أحياناً أمةٌ صالحةٌ وأرضٌ خصبة وعملٌ متقَن ، وتسعد بهِ أمةٌ فاسقةٌ وأرض قحلةٌ وعمل ناقصٌ. فسمّهِ ما شئت ويذكرني نجاحُ قهوةً الحمَّام قهوة أخرى أنشئت في المنازل منذ تسع سنين ، أي حينما مُدّ الخطُّ الحديديُّ إلى المكس ، فكنَّا إِذا شئنا التنزُّه ركبنا القطارَ إلى المنازل ، ووجدنا الناسَ مزدحمين وقوفاً وجلوساً ، والمكاسبُ تتدفقُ على صاحب المكان
من كلّ صوب. فلما افتقداها هذه المرَّة تراباً أو صانعٌ يضربُ قطعة خشب ، كما تتحرَّك الجرذانُ الجسيمة في بعض الخرائب العتيقة. ذلك أنَّ وجود الترام قتَلها ، لأنهُ عطَّل الخط الحديدي ، فأبطلهُ ، والترام لا يمتدُّ إليها ، بل هو بعيدٌ عنها. فأيُّ سببٍ نردّ إليه أمثال هذه الانقلابات التي تكون في عالم الغيب ثم تفاجئ من حيث لا تظن. أما الأمر الثاني الذي استوقفني وشجاني ، فهو ما رأيتهُ على كئيبٍ ممتدٍّ شبه القَتَبْ بين البحر وبيم طريق الترام من المدافع القديمة أدواب الدفاع عن مدخل الثغر. تدلُّ مركزُ هذه المدافع على أنها كانت منصوبةً وراء القَتَب ، كما
تُنَسَّقُ الإِبَرُ في ورَقَتِها ، وكلُّها من الطراز الضخم ، إذا أقبل عليها الناظرُ من بعيد ظنَّها بعض الوحوش الضارية من أسدٍ ومرٍ وفهدٍ ، فإذا دنا منها لم تزُل مهابتها من قلبه ، ولكنه رأى الموت قد مدَّ عليها كفناً من أشّعة النهار وأنداءِ الليل ثم طبع عليها أصابعَهُ ، فهي منقَّطة بنقط صفراء نحاسية ، وخضراء طحلبيّة ، على قشر عاتم صادئ ، ومنها ما انكسرت له ساق ، فانقلب على جانبهِ ، ومنها ما أصابتهُ ضربة في شفتهِ ، فانشقَّت والتوَت ، ومنها ما أدلى بعنقهِ الطويل إلى التراب كأنه يعضُّهُ في أحشائهِ.
منظرُ موتٍ وخراب وعار. دنوت من هذه الأشياء وأنا أسيفٌ أُرسل النظرة إلى الغيب ، فأرى بها أُمم الشرق كلَّها مجتمعة تدبُّ دبيب الحشرات لاصقةَ الجباه بالأرض من الضعف والجبن ودناءة المطالب ، وأطلق الزفرة من صدري ، فأؤبن بها مجداً عظيماً ملأ العالم زمناً ، ثم دفنهُ ذووه في بعض زوايا التَّرك والإهمال ، ووكلوا إلى الذين ابتلوا بهِ قديماً أمر البحث عنهُ وجلاءِ آثاره التي غالها الصدأُ وغشيها نبات النسيان ، حتى نخرها إلى الصميم ، واذرفْ العبرة فأبكي سماءَ انطوت طيَّ الجلباب ، ونجوماً غارت في التراب ، ومعالم عامرة صارت إلى تباب. ثم وضعتُ رجلي على عنق الكبير من تلك الضواري الجامدة ، وأثقلتُ وطأتَها عليهِ وقلتُ: يا أيها الأسد جُعِلْتَ للزئير فاستنبحوك ، وللافتراس فكّموك ، وللوثب فقيّدوك؛ فلينسجِ العارُ عليهم مثل ما نسج على جلدك. فإذا نهشتك الأيام نهش الكلاب الشلو ، فليشهد عليهم كلُّ
أثرٍ في البلاد من بعدك. فإنهم خفضوا رايةً ، وأضاعوا جيشَ بَرٍّ ، وأغرقوا أساطيل بحر ، وأذلوا أمة ، وأضاعوا وطناً. هذا كل ما في المكس من قديمٍ وحديث وهو قليل؛ غير أن مناظر الطبيعة فيها غاية ما يُتمنَّى؛ نقاوة الهواء وصفاءُ الطبع وسلامة ُ المعيشة من المصطلحات المزعجة المتعبة أفضلُ وسائل التعافي والسرور
ونشاط النفس.
خليل مطران
الزهور - في ديوان الخليل بضعُ صَفَحاتٍ شعرّيةٍ عنوانُها حكاية عاشَقين بدأت في سنة 1897 وانتهت في سنة 1903. والمقالةُ التي نشرناها في الصّفحات السابقة إنّما كتبها خليلٌ في أواخر عهدِهِ بتلك الحكايةِ يَومِذهبَ إلى رَملِ الإسكندرية مستشفياً من دائَينِ كانا قد ألمّا بهِ ووصفهما وصفاً بديعاً ملئهُ عواطِفُ نفسٍ حزينةٍ يائسةٍ في قصَائِدَ من أجود الشعر نختار الأبيات التالية من إحداها؛ قال:
إنّي أقمتُ على التعِلَّةِ بالمُنى
…
في غُربةٍ قالوا تكونُ دوائي
إنَ يشفِ هذا الجسمَ طينبُ هوائها
…
أيُلِطّفُ النّيرانَ طيبُ هَواءِ
عَبَثٌ طوافي في البلدٍِ وعِلَّةٌ
…
في عِلّةٍ مَنفايَ لاستشفاءِ
متفرِّدٌ بصبابتي متفرِّدٌ
…
بكآبتي مفرِّدٌ بعنائي
شاكٍ إلى البحرِ اضطرابَ خواطري
…
فيُجيبني برياحهِ الهوجاءِ
ثاوٍ على صخرٍ أصمَّ وليتَ لي
…
قلباً كهذي الصخرةِ الصَمَّاءِ
يَنتابُها خفّاقُ لجوانبِ ضائِقٌ
…
كمَداً كصدري ساعةَ الإِمساءِ