الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظة الحسون
عشيَّةَ يومٍ وقد أخذت عين الشمس المحمرَّة تغمض وتذبل ، وقف الحسون على غصت صفصافةٍ قد تدلَّت أغصانها فوق جدول ماءٍ صافٍ؛ حيث اصطفت على ضفتيهِ الطيور على تباين أشكالها واختلاف أجناسها قال الحسون وقد سرَّهُ ائتلاف إِخوانه الطيور حول ذاك الجدول ، تستقي من مائهِ ، ومن ثمَّ تتفيأُ بظلّ تلك الصفصافة دون أدنى حسد أو تنازُع: إخواني ، كنت ظننتُ أن تفاوت طبقاتكم وأجناسكم يحدث بينكم شيئاً من القلاقل والمشاغب ، ولكني والحمد لله رأيت خلاف ما ظننت ، فكأن تعدد مشاربكم ، وتشتت جماعاتكم ، وتباعد مساكنكم ، كل هذا لم يكن إلَاّ دافعاً لكم لتسلكوا سبيل الألفة والمحبة ، فضلاً عن أنكم سمحتم لمثلي أنا ابن الشعب الصغير فيكم بأن أعظكم كأنني عظيمكم ، فالمولى يوفقكم وينميكم ويرزقكم بُرّاً وماءً. أما عظتي التي أعددتها لمثل هذا الاجتماع لتلقي على مسامعكم في أوَّل هذا الفصل فهي: ترون ولاشك أن الربيع قد برز بحلته وظهر بحسن طلعته؛ وأخذت أنفاسه المنعشة تمرُّ مقبّلةً مباسم الزهور ، وزهور الثغور. وأخذتم أيضاً تشعرون بالواجب عليكم ، وأنه يقتضي علينا أن نمزّق جماعاتنا المتحدة أفواجاً ونتفرَّق اثنين اثنين؛ بحيث نتألف أزواجاً تصفيق أجنحة
وتغريد ألسنة أرى أن السرور قد استفزَّكم وأنا أعذركم على هذا ، إِذ ليس أشهى من قرب الأحباب ، ولا ألذّ من العزلة لعشيقين افترقا مدةً فذاقا الأمرّين. أجل ، إِننا سنفترق الآن لنجتمع غداً. نفترق الآن اثنين اثنين ، لنعود أربعة وخمسة؛ نفترق الآن لكي نعشش فنعتاض مما أفقدتنا تعديات البشر القساة؛ نفترق لنعلّم الإنسان كيف يجب عليهِ أن يسعى لأولاده ، ويجتهد بمساعدة زوجته. نفترق لنصير أزواجاً أصحاب عمل وأرباب بيوت فنكون أعضاءَ عاملين في محيطنا الأدبي والمادّي. نذهب الآن ليفتش كل عصفور منا على عصفورة تناسبه وتعجبهُ ، فيحبها وتحبهُ ، ويتعاونان على تربية أفراخها الصغيرة. إِياكم أن يعتدي أحدكم على عصفورة صاحبه؛ لأن ذلك يؤدي إلى الخصام والمقاتلة. وقد قال الكيم الغيرة قاسية كالموت والمحبة عميقة كالهاوية. إِياكم أن يبقى أحد منكم دون حليلة ، لأنهُ يكون عرضة للانتقاد وإلقاء الشبهات ، والويل لمن تقع الشكوك عن يده ، ويقود أخاه إلى عمل الإِثم. إخواني أن الزيجة واجبة لازمة لاسيما وأنها لا تكلفنا شيئاً نحن جماعة الطيور بيت من القش اليابس ، وحبة حنطة من الحقل وقطرة ماء من النهر هذا كلّ ما نتكلفهُ ، فلا نحتاج القصور ، لأن
قصورنا الجدران العالية والأشجار الباشقة ، ولا نطلب الرياش ، فكل ما في الطبيعة من تلك التي لم يلبس سليمان كواحدة منها هو لنا ، ولا نطمع بالحلى ، فإن ملابسنا لا تتغير فهي ثابتة مثل قلوبنا.
تناسلوا وتكاثروا. وعيشوا اثنين اثنين طول هذا الفصل بمحبة وأمانة؛ وليرعَ بعضكم بعضاً ، وليكن كلٌّ منكم أميناً على عهد زوجته ، لا تخونوا لأن الخيانة من طباع اللئام. أوصوا فراخكم بأن يحبوا فراخ سواكم لأننا بدون محبة ووفاق لا يمكننا أن نعيش ونحفظ كياننا. قبل أن نفترق إلى أعمالنا ألفت أنظاركم إلى شيء مهم. وهو أنهُ غداً يأتي الأولاد ، فيخربون بيوتنا ويسرقون أفراخنا ويأكلونهم؛ ولو كنت ممن يميلون إلى فعل الشرّ لقلت لكم: أفقأوا أعينهم! ولكن لا. فهذا يضرُّ بنا لأن ابن آدم حقود ، فتجنبوا البشر كثيراً ، لأنهم إذا كانوا يقتلون ويأكلون بعضهم بعضاًو فكيف تكون حالهم معنا؟ لا تتمثلوا بهم ، إذ يأتون إليكم وبينهم المسيحي والنيّ واليهودي ، وكلهم قد اتفقوا على الشرّ والاعتداء عليكم. أقول لكم اتحدوا ، ولكن على الخير لا على الشرّ ، فكما أنهم يتحدون على الشرّ دون الخير كذلك أنتم اتحدوا ولكن على الخير لا على الشرّ. غداً يؤمُّنا الصيادون. فلنهرب! أتعرفون إلى أين؟ إلى مكان لا تظنونهُ موافقاً وأميناً ولكنهُ على عكس ما تظنون. غداً بعد ما يتم نتاجنا ، ويجتمع شتيتنا ، وتلئم أسرابنا ، نقصد بلاد البلقان هناك يلهو عنا الإنسان بقتل أخيهِ الإنسان.
مراد أبي نادر
ليس لكذوب مرؤة، ولا لضجورٍ رياسة ، ولا لملول وفاء ، ولا لبخيل صديق.