المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌جناية شبرا مررت مُبكراً في الصباح بوليس الأزبكية في ميدان باب - مجلة «الزهور» المصرية - جـ ٤

[أنطون الجميل]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 32

- ‌السنة الرابعة

- ‌القسطنطينية

- ‌مدينة المصريون الأقدمين

- ‌انتقام النسيم

- ‌أقوال في المرأة

- ‌الأدب في العراق

- ‌الزهور

- ‌أي الرجال تفضله النساء

- ‌الرسميات

- ‌يوسف شكور باشا

- ‌النهر

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌العدد 33

- ‌أدرنه

- ‌الجريحة الأبدية

- ‌أقوال مأثورة

- ‌روسيا وبنو رومانوف

- ‌المرء ودنياه

- ‌في رياض الشعر

- ‌مصارع الأدباء

- ‌تأثير الدين في المدينة

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الصداقة

- ‌في حدائق العرب

- ‌خواطر

- ‌أندية الأدباء الحرة

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثروة هائلة

- ‌دروس

- ‌وصايا الحكماء

- ‌العدد 34

- ‌شاعرية خليل مطران

- ‌اليمين

- ‌خواطر

- ‌الحب

- ‌الزهر

- ‌أقوال مأثورة

- ‌في رياض الشعر

- ‌الإنشاء المترهل

- ‌نهضة اللغتين

- ‌عهود الغادات

- ‌ثمرات المطابع

- ‌الحفلة الإكرامية

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌العدد 35

- ‌معاهد التعليم

- ‌أمام مهدها

- ‌الأغاني في الحروب

- ‌الجامعة المصرية

- ‌في رياض الشعر

- ‌مجدلية أخرى

- ‌أسباب الحرب البلقانية

- ‌سفراء الدول

- ‌الأندلس الجديدة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌العدد 36

- ‌الرئيس بوانكاره

- ‌عطلة الصيف

- ‌زواج ابنة غليوم الثاني

- ‌حكمة قاضٍ

- ‌الحركة الصهوينة

- ‌أثر عرابي ثمين

- ‌في رياض الشعر

- ‌عشرون عاماً

- ‌صاحب البرق

- ‌ثمرات المطابع

- ‌جناية شبرا

- ‌العدد 37

- ‌فردي

- ‌إلى القراء

- ‌تجاه البحر

- ‌أين أقام في مصر

- ‌عظة الحسون

- ‌الفضيلة

- ‌في رياض الشعر

- ‌الصحافة

- ‌الحرب والسلم

- ‌أفكار وآراء

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌مسز لوتي

- ‌الثعلب والعوسجة

- ‌العدد 38

- ‌نابوليون أول

- ‌التدبير المنزلي

- ‌الضمير

- ‌الشرق وأُبناؤه

- ‌الرقص المصري

- ‌حكم

- ‌متاحف الآثار في مصر

- ‌في رياض الشعر

- ‌التدواي بالثمار

- ‌في حدائق العرب

- ‌أبو العلاء المعري

- ‌ضرب زيدٌ عمراً

- ‌حِكَم للإِمام علي

- ‌فكاهة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌العدد 39

- ‌الأوقاف في القطر المصري

- ‌رحلة صيف

- ‌الإِنتقاد

- ‌انيبال

- ‌يوليوس قيصر

- ‌الأناشيد الوطنية

- ‌في رياض الشعر

- ‌اللينوتيب العربية

- ‌أفضل الوسائل

- ‌الممرضة

- ‌العذول والخيال

- ‌في أي شهر وُلدت

- ‌ثمرات المطابع

- ‌مختارات الزهور

- ‌إسماعيل صبري باشا

- ‌فرعون وقومه

- ‌رثاء المرحوم بطرس باشا غالي

- ‌رثاء المرحوم إسماعيل ماهر بك

- ‌راحة القبر

- ‌إلى الأميرعمر باشا طوسون

- ‌إلى سابا باشاتعزية بفقد ولده

- ‌الشباب والمشيب

- ‌فؤادي

- ‌عبد بلا ثمن

- ‌ساعة الودع

- ‌إلى الله

- ‌يا آسىَ الحيّ

- ‌الوفاء

- ‌ذكرى الشباب

- ‌يا موت

- ‌بين الشريف وصبري

- ‌أحمد شوقي بك

- ‌الأندلس الجديدة

- ‌على قبري

- ‌نكبة بيروت

- ‌العصر والعصفور

- ‌آية العصرفي سماء مصر

- ‌كرمة ابن هاني

- ‌الرق والحرية

- ‌خليل مطران

- ‌تحية الشام لمصر

- ‌الأسد الباكي

- ‌إقرار ومنابأوتذكارات الطفولة

- ‌إلى أبنائنارجال الغد

- ‌قطرة دم

- ‌الفلّ

- ‌في قينة تنشر

- ‌دموع الحبيب

- ‌إلى سابا باشاتعزية بفقد ولدهِ

- ‌هل للهموم قلوب

- ‌الزهرات الثلاثاء

- ‌وليّ الدين بك يكن

- ‌شكوى المنفي

- ‌لؤلؤ الدمع

- ‌وعشنا على بؤس

- ‌ما كان

- ‌الشاعر والليل والطيف

- ‌نظرة

- ‌أنتِ والدَّهرُ

- ‌نفسٌ مكرَّمة ونفس تزوري

- ‌شاعرة تهاجرُ شاعراً

- ‌إذا ذهب الربيع

- ‌الفتاة العمياء

- ‌الملك المظلوم

- ‌حافظ بك إبراهيم

- ‌الأم مدرسة

- ‌خيبة الأمل

- ‌شكوى المتيم

- ‌لوعة وأنين

- ‌لا فتى إلَاّ على

- ‌فؤاد حافظ

- ‌داود بك همون

- ‌الملك والشعب

- ‌حنين إلى لبنان

- ‌يوم فلادمير

- ‌أحمد محرَّم

- ‌أبو العلاء المعري

- ‌الشباب والمشيب

- ‌النفس الأبية

- ‌حفني بك ناصف

- ‌على البحيرة

- ‌عيون وعيون

- ‌إلى إسماعيل باشا صبري

- ‌مرآة القلب

- ‌وصف قنا

- ‌أبناء الحكماء

- ‌أمين بك ناصر الدين

- ‌صدى اليأس

- ‌النحو في الشعر

- ‌مناجاة صورة

- ‌الابتسام

- ‌نقولا رزق الله

- ‌الشعر والشعراء

- ‌كرامة المرأة

- ‌أنتِ وهنَّ

- ‌إلياس فياض

- ‌النسيم العاشق

- ‌صدَّ عني

- ‌ليالي الصيف في مصر

- ‌النجومِ

- ‌الدكتور نقولا فياض

- ‌زهرة بنفسج

- ‌اذكريني

- ‌أصابع العاج

- ‌تامر بك ملاط

- ‌الشاعر المريض

- ‌شبلي بك ملاط

- ‌مطوقة القطرين

- ‌طانيوس عبده

- ‌حديث قديم

- ‌بنتي ودوائي

- ‌بشارة الخوري

- ‌البلبل والبوم

- ‌إلى لبنان

- ‌دواء الهموم

- ‌اللؤم

- ‌محمد توفيق علي

- ‌السيف والقلم والمحراث

- ‌النيل السعيد

- ‌عبد الحميد بك الرافعي

- ‌المشيب

- ‌مناجاة شاعر

- ‌محمد رضا الشبيبي

- ‌في سبيل الشرق

- ‌إيليا أبو ماضي

- ‌القوة والضعف

- ‌حنين إلى مصر

- ‌محمود سامي باشا البارودي

- ‌الأمير شكيب أرسلان

- ‌‌‌المراسلات السامية

- ‌المراسلات السامية

- ‌بعلبك

- ‌بين حافظ وعمون

- ‌النهود

- ‌عيد الفداء

- ‌قصيدة صبري باشا

- ‌قصيدة شوقي بك

- ‌قصيدة حافظ بك إبراهيم

- ‌يا ليل الصب

- ‌ الأبيات الأصلية

- ‌أبيات شوقي بك

- ‌أبيات صبري باشا

- ‌أبيات ولي الدين بك يكن

- ‌أبيات الأمير نسيب أرسلان

الفصل: ‌ ‌جناية شبرا مررت مُبكراً في الصباح بوليس الأزبكية في ميدان باب

‌جناية شبرا

مررت مُبكراً في الصباح بوليس الأزبكية في ميدان باب الحديد ، ودخلت على حضرة المأمور أروم محادثتهُ لعلّي أن استفيد منهُ خبراً ما لجريدتي الأيام التي أنشرها في مصر منذ بعيد. وكانت بيني وبين هذا الموظّف النشيط صداقة قديمة العهد لم يكن يمنعني من أجلها شيئاً يجيزهُ لهُ القانون. وفيما نحن نتحدّث سمعنا ضجيجاً عالياً في باحة الدائرة ، وصارخاً يصرخ ملء فيه: أين المأمور؟ أين المأمور؟ فالتفتَ إليَّ صاحبي وقال: أنَّ خلف هذا الصياح أمراً جللاً. فتبسمت وقلت: ذلك ما جئت إليك من أجله. ولم أكد ألفظ الكلمة الأخيرة حتى دخل علينا رجل فوق الخمسين من العمر تدلُّ ملامحهُ على القلق والخوف. ولم يتمهّل ريثما يسألهُ صاحبي عما يريد من مفاجأتهِ لنا على تلك الصورة بل قال: تفضَّل يا حضرة المأمور إلى منزلي نمرة 13 بشارع سلامة في شبرا ، فقد ارتُكبِت الليلةَ فيهِ جناية فظيعة. إنَّ يداً أثيمةً امتدَّت إلى ابنتي في سريرها فقتلتها شرَّ قتلة. . . مسكينة أدماء! واهاً عليك يا أدماء!

فقال المأمور وقد مدّ يدهُ إلى التلفون: ومَن القاتل؟

فأجاب الرجل: لا أعرفهُ ياسيدي. أننا أطلنا السهرَ الليلة البارحة إذ كنَّا نعدُّ المعدَّات لحفلات هذا النهار ، فقد كان اليوم موعداً لزواج أدماء بابن عمّها ووارثي الوحيد بعدها ، ونمنا على أن نبكّر إلى العرس فبكَر إلينا المأتمز

وفيما كان الرجل يتكلم ، كن المأمور قد أخذ يخاطب بالتليفون وكيل النيابة العمومية.

ولم تمضِ إلَاّ دقائق قليلة حتى وقفت بنا العربات أمام المنزل المعيَن. وكنتُ

ص: 272

قد استأذنتُ صديقي في مرافقتهِ فركبت إلى جانب والد أدماء ، وفاتحتهُ الحديث قائلاً: ألا تشرّفني بمعرفتك يا سيّدي؟ أما أنا فاسمي: وسيم الريّان صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها فقال: وأنا فرج الله خوري مصوغات وجواهر في لخان الخليلي. وكانت باحة المنزل حين وصولنا قد كادت تغصّ بايأس يتهامسون بينهم؛ فأمر المأمور رجالهُ بتفريقهم ، ثمَّ دخل ودخلنا وراءَه فلقينا الخادمة تبكي بمرارة وتنأرّه على سيدتها. وكان هنالك أيضاً شابٌ في نحو الثلاثين من العمر يروح ويجيء قلقاً مضطرباً ، ولم يكن في عينه أثر للبكاء قط؛ غير أنَ بياض المقلتين كان قد تحوّل إلى احمرار قرمزيّ كأن الدم جال فيهما بدَلَ الدمع. ثمَّ سأل المأمور صاحب الدار عن مكان وجود الجثة ، فمشى أمامنا إلى غرفة في أقصى

المنزل وقال: هنا. . . . هنا غرفة أدماء. ودخلنا فأبصرنا على سرير في إحدى الزوايا فتاةً شاحبة اللون ، وإحدى يديها ملقاة على جانبها الأيسر حيث تدفق الدمُ قضرَّج ملابس نومها البيضاء وأغطية فراشها. وهي ما تزال في السرير كأنها نائمة نومةً طبيعية ، ممّا دلّ على أن قانلها فتك بها في خلال رقادها. وكانت على الأرضو حذاء السرير ، سكّين حادّة من السكاكين التي تُستعمل في مطابخ البيوت؛ وهي ملوثة بالدم أيضاً. أما الجاني فلم يكن أحد يعرف شيئاً عنهُ؛ غير أنّ خفير الحيّ شهد بعدئذ بأنهُ أبصر في المنزل المقابل غرفةً بقيت مُنارةً معظم الليل ، وخيال شابٍّ كان يروح ويجيء فيها حيناً بعد حين. ثمَّ انطفأ نورها في نحو الساعة الثالثة صباحاً. وأثَّر فينا جميعنا منظر الجثة وعلى مقربة منها الآلة القاتلة فارتعشنا واقشعرّت أبداننا. وكان الطبيب قد دخل الغرفة حينئذٍ؛ فجسَّ نبض الفتاة ، ثمَّ انحنى بإذنه على صدرها يتسمّع خفقان قلبها. وكأنما خامرَهُ شكّ في موتها فأخذ مرآه وأدناها من فمها برهة ، ثم تأملها فأبصر عليها شبه غشاوة مما دلهُ على أنهُ لم تزل في ذلك

ص: 273

الجسم بقية من الحياةز فالتفت إلينا وقال: هي حية لم تمت بعد! وكأن لفظة الحياة نبهّت خطيب الفتاة فأجفل وتفدّم خطوة إلى السرير محملقاً في الطبيب كمن فوجئ بما لم يكن يوّقع. أمَّا الأب فترامى على أقدام الطبيب وهو يقول لهٌ: أحيها. . . بربّك أحيها. ثمَّ جثا يصلّي. ورأيت في تلك الساعة ما لم أرَهُ من قبل: أباً جاثياً يدعو الله وملء نفسه خشوع ورجاء وملء ناظرَيه ذلّة وحزن؛ وعاشقاً تتنقّل نظراته من السرير إلى الطبيب إلى السكين؛ ورجالَ حكومة واجمين ينظرون بلهفة وأمل؛ وطبيباً أحدقت به القلوب كأنَّ كهربائية انتقلت منها إلى يديه فحركتهما على ذلك الجسم المسجّى بدون حراك. ورأيتني وحدي في ذلك الموقف ثابت الجأش أرى وألاحظ ، وأعي غير ذاهل ، حتى لقد ظنتني اسمع خفقة كلّ قلبٍ في كلّ صدر ، وأحسّ دبيب كلّ خاطرٍ في كلّ ضمير. حينئذ أشار الطبيب فخرج الجميع من الغرفة ، وأقام هو وحده يعالج الفتاة. وبثَّ المأمور رجاله في المنزل وحواليه ، ثمَّ أخذ في التحقيق الأوّليّ فعرف أنّ ربَّ البيت يسمَّى فرج الله خوري وأنّه يتَّجر في الخان الخليلي بالمصوغات والحجارة الكريمة ، وأن ابنته وحيدة لهُ واسمها أدماء وقد توفيت والدتها وهي في نحو الخامسة من عمرها فربّها أبوها وأدّبها في المدارس ولم يشأ أن يتزوج ثانية حبّاً بها وغيرة عليها. أمّا الشاب خطيب أدماء فاسمه سليم خوري

وهو ابن أخٍ للخواجا فرج الله؛ هاجر بعد وفاة أبيه إلى الترانسفال وأقام فيها نحواً من عشر سنواتو ثمَّ جاء القاهرة للتزوّج بأدماء والإقامة في هذا القطر. وفي نحو التاسعة جاء وكيل النيابة العمومية وشرع في التحقيق الدقيق فلم يلبث أن توصّل على معرفة الجاني؛ فإن الخادمة أطلعتهُ على علاقات أدماء بفتىً يدعى فؤاد اليافي يسكن منزلاً مجاوراً. وكان كثيراً ما يحادث أدماء من النافذة

ص: 274

متى خيّم الليل ونام الخواجا فرج الله. وكانت الخادمة تنقل رسائله على سيدتها وتحمل أجوبتها إليه؛ قالت وأن آخر رسالة جاءت بها منه كانت في نفس الليلة التي ارتكبت فيها الجناية وقد ناوَلها إياها بيدٍ مرتجفة وفي نظراتهِ معنى الاضطراب والغضب. . . وعثر وكيل النيابة على تلك الرسالة تحت وسادة أدماء فإذا هي هذه:

وعدتِ ثم أخلفتِ. ويلٌ لكِ يا ظالمة! أعقبي حبّنا إن تكوني زوجةً لسواي؟ تالله لن يكون ذلك أبداً. ليس والدك الذي ارادو بل أنتِ التي اثرتِ ابن عمك عليَّ. كذبتِ في غرامكِ ، كما كذبتِ في عهودكِ. أمَّا أنا فلن أكذب في عزمي. آليتُ ألَاّ يسعد ابن عمَّكِ بك ، وأشقى أنا بدونك. الويل لي إذا كان المأتم غداً بدلاً من العرس!!

فؤاد

ثمَّ طرق رججال البوليس منزل فؤاد اليافي وقد اقتنع وكيل النيابة كلّ الاقتناع بأنَّ فؤاداً هو الجاني لا غيره ، وبأن الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة إنما هو الغيرة والغرور. ومما أيَّدَ هذا الاقتناع أن فؤاداً لم يبت ليلتهُ كلَّها في منزلهِ؛ فقد جاء في نحو الساعة السابعة مساءًو وخلا بنفسهِ في غرفتهِ الخاصة دون أن يتناول طعام العشاء. ولما افتقدَه أهله في الصباح لم يجدوه ، ولكنهم وجدوا رسالة منهُ على مكتبهِ. فأنَرَ وكيل النيابة بها فإذا فيها ما يأتي:

إلى والديَّ العزيزين

ليس في استطاعتي أن أشهد غداً عرس جارتنا أدماء لأن الغيرة تأكل قلبي. لذلك أنا ذاهبٌ اسلاعةَ إلى حيث لا أدري. ومتى شفِيَت نفسي من آلامها عدتُ إليكما. ساِمحا زلَّتي ، وترقَّبا أخباري.

فؤاد

ودقَّقت النيابة في استجاء حقيقة العلاقات بين فؤاد وأدماء ، فوقعت على رسائل كثيرة في حوزة الفتاة أزالت كلَّ شبهة عن غرام فؤادٍ وغبرته. واتصلت بها من شهودٍ كثيرين أمور تافهة في حدّ ذاتها ، ولكنها إذا أضيفت إلى مجمل القرائن

ص: 275

كنت دلائلَ قوية على ثبوت الجريمة على ذلك الشابز ولما توافرت الأدّلة على هذا الشكل أمرت النيابة بتعقّب الجاني ، وضيّقت عليهِ سُبُل الفرار من القطر لمصري بما بثتهُ من العيون والأرصاد. وفي ذلك النها نفسهِ ورد على نيابة مصر تلغراف من بوليس الاسكندرية يُفيد إلقاء القبض علىالمتهم وهو يتأهب للسفر إلى أوروبَّا على إحدى البواخر. فجاء هذا دليلاً جديداً على أنَّ فؤاداً هو الجاني ، لأنَّ سفرَه الفجائي لم يكن إلاّ بَغية الفرار من وجه القضاء والعدل. واتّصل خبرُ الجناية بصحف العاصمة فنشرتهُ ، كعادتها في أمثاله ، مقتضباً ومذيّلاً بكلمات الثناء على مهارة النيابة العمومية ، وتيقَّظ رجال البوليس. أما أنا ، وقد رأيتُ بعيني ، وسمعت بأذني ، فإني رويت الحادث في الأيام مسهباً في تفضيل وقائعهِ كلَّ الإسهاب. ثمَّ قلت في ختام كلامي: إنَّ على النيابة أن لا تغشى عينيها الأدلّة من نحو الشذوذ في الاتفاق فيكون فؤاد بريئاً من التهمة التي أصقها بهِ نكد الحظّ. لم أقل ذلك عفوَ الخاطر أو من قبيل التفلسف في الأمور؛ وإنما بنيت قولي على توافرِ عقائد في نفسي حسبتها براهين تجيزُليَ نفيَ التهمة عن فؤادِ ، والقاءها على عاتق سواه. فعزمت على أن استكشفَ الحقيقة مهما اقتضيتهُ من عناءٍ ومال ، لأنّ الصحافي الماهر هو مَن بذل جهدهُ لمعرفة الحقائق ، ثم سبق إلى نشرها؛ وإنما بهذين اشتهرت الأيَّام ومشت في طليعة الجرائدِ العربيَّة الكبرى. أمَّا شكوكي فبدأت حيث بدأ اقتناع النيابة العمومية. هي كانت ترى كلُ شيءٍ إيجاباً في حين كنت أراهُ أنا سلباً. فغيرة فؤاد وتهديدهُ ، وسهرهُ وقلقه ، ورسالتهُ إلى والديهِ ، وسفرهُ إلى الاسكندرية ، وعزمهُ على مغادرة القطر ، كانت جميعها

ص: 276

دلائل وقرائن عليهِ في نظر عليهِ في نظر مَن يأخذ الأمور بظواهرها. غير أنَّ النيابة ذهب عن بالها أن تبحث ، في الدرجة الأولى ، عن الطريق التي سلكها فؤاد إلى الغرفة النائمة فيها أدماء حتى تمكن من ارتكاب الجنلية. أمَّا أنا فلم أغفل هذا الأمر قط ، فقد عرفتُ أنَّ الخواجه فرج الله أقفل بيدهِ باب المنزل قبل أن نام ، وترك المفتاح في ثقب الغال من الداخل. ثمَّ علمت أنَّ الخادمة ، لمَّا أفاقت في الصباح ، وجدت الباب مفتوحاً فاستنكرت ذلك كما استنكرهُ سيدها والخواجة

سليم أيضاً. ولو تنبَّه رجال التحقيق إلى أنَّ الغال لا يمكن فتحهُ بمفتاحٍ من الخارج ، ما دام أن َّ المفتاح متروك في ثقبهِ من الداخل ، لأدركوا مثليَ أنَّ الجاني إمَّا أن يكون غريباً ، وإمَّا أن يكون بعض أهل أدماء. فإن كان الأوَّل اقتبضى أن يكون لهُ شريك ممَّن في المنزل فمكَّنهُ من الدخول؛ وإن كان الآخر وجب أن يكون أحد اثنين: إمَّا الخادمة ، وإمَّا الخواجة سليم. وأمَّا أن يكون الجاني قد دخل البيت من غير بابهِ فمما لم يكن معقولاً قط لأن العلوَّ شاهق جدّاًو والبيت مطلٌّ من جميع جهاتهِ على الشوارع المنارة حيث الخفراء والمارّة لا يبرجون بين رواحٍ ومجيء. أضِفْ إلى هذا كلهِ أنَّ البرد كان قارساً في تلك الليلة ، وأن النوافذ جميعها بقيت مقفلة حتى الصباح. ولما تشبَّعت من هذهِ الحقائق بحثت عن سيرة الخادمة مُنقباً نستقصياً فعرفت أيها قديمة العهد في منزل الخواجه فرج الله ، وأنها اعتنت بأدماءِ بعد وفاة والدتها ، وحنَت عليها كما لو كانت أمَّها الحقيقة ، وأحبَّبتها بإخلاص شديد ، فكانت لها خادمةً وأمَّا وصديقة معاً. أوَ بعد هذا ما يستوقف شبهاتي عليها؟ ولكنني وقعت حينئذٍ في حيرة شديدة: فلا ظنوني بواقفة عند الخواجه فرج الله ، ولا شكوكي بمنتقلةٍ إلى الخواجه سليم. ذلك والدٌ وهذا خطيبٌ وابن عمّ.

فمن الجاني إذاً؟ أشيطانٌ من جهنم ، أم ملكٌ من السماء؟؟

ولقد حاولت كثيراً أن أذهب مذهب النيابة العمومية في اتهام فؤاد اليافي فلم

ص: 277

أستطع. وزادني تشبثاً في رأيي هذا أنَّ فؤاداً لم ينكر الجريمة كلَّ الإنكار فقط ، بل بكى بُكاءً مرّاً حين درى بها إشفاقاً منهُ وحناناً على أدماء. وقد جرَّب إقناع رجال التحقيق بأنَّ تهديدهُ لحبيبتهِ لم يكن إلَاّ تهديداً كاذباً حاول أن يتعلَّق بهِ ، وهو آخر سلاح كان قد بقيَ لهُ ، كما يحاول الفريق التعلُّق بالطحلب في الماءو وأن عزمهُ على السفر لم يكن إلَاّ يأساً وقنوطاً لأن نفسه لم تكن تطيق أن يرى أدماء لسواه. على أنَّ كل ذلك لم يفدهُ شيئاً ، بل أحالتهُ النيابة العمومية على محكمة الجنايات ليحاكم أمامها كقاتل متعمد. وراجعتُ نفسي مراراً في إتهام الخواجة سليم خوري فما ازددتُ إلَاّ اعتقاداً بكونهِ الجاني الأثيم. فقد تبيّنتُ أموراً جديرة بالاعتبار ، أغفل وكيل النيابة بعضهاو وحملَ بعضها الآخر على محامل شتى. من ذلك: أنَّ الخادمة عرفت السكّين التي طُعنت بها أدماء أنها سكّين مطبخها ، مما دلَّني على أنَّ اليد التي استعملها وصلت إلى مكانها بدون عناء. وهل يُعقل أنَّ قاتلاً متعمداً يجيء

ليقتل ، تحت جنح الليل ، فيجيء بدون سلاح على نيَّةِ أن يجد لهُ سلاحاً ما في المكان الذي نوى الجناية فيهِ؟ ومن ذلك أنَّ الجاني كان على يقين من أن أدماء لا تقفل بابها من الداخل في الليل. وأنَّي لغريبٍ عن المنزل أَن يكون على بيّنةٍ من هذا الأمر؟ ومن ذلك ايضاً أنَّ سليماً كان يحسب الطعنة قاتلة؛ فلما فأجاهُ الطبيب بقوله إنَّ أدماء حيَّة لم تمت ، أجفل في مكانهِ إجفال مؤملٍ بوغِتَ بضياع أملهِ. ومن ذلك أخيراً تبدو عليهِ في أقوالهِ وحرركاتهِ جميعها. فكلَّ ذلك قوَّي اعتقادي بأنَّ اليد التي جنت إنما هي يدُ سليم دون سواه. ولكنَّ إقدامي على إتّهام الرجل في الأيام كان مجفوفاً بالخطر. فالبيّنات على خطورتها كن يمكن دحضها بمثلها. ولذلك عوَّلت بعد التفكير الطويل على كتمان شكوكي في نفسي ، مع مواصلة التحرّي الدقيق. وكان أوَّل خاطر خطر لي أن أبحث عن ماضي سليم وتاريخهِ في

ص: 278

الترنسفال. فأرسلت رسالة برقية إلى زميلي صاحب جريدة جوهسبورج دايلي نيوز في مدينة جوهنسبوج اطلعتهُ فيها على دخائل نفسي وطلبت إليهِ ، بما للزميل على الزميل من الحقوق ، أن يوقفني على حقيقة سليم؛ فجاءَني تلغراف منهُ بعد أيام قصيرة محتوياً على هذه الكلمات شكوك في محلهاز التفصيل مع البريد وكانت أدماء في خلال هذه المدة قد تماثلت لشفاء ، وأخذت تعاودها العافية على مهل. أما شهادتها لدى وكيل النيابة العمومية فكانت قاصرة على أنها بادلت فؤاداً المحبة ووعدتهُ بالزواج ، ولكنها أكرهت على النكث بعهدها أمام إرادة والدها وإلحاحهِ الشديد وقد أطلعت خطيبها سليماً عى علاقاتها السابقة بفؤاد ولم نكتمهُ شيئاً منها. ولما جاءتها رسالة التهديد بم تحفل بها كثيراً. ثم نامت ولم تدرِ ما جرى كيف جرى. وأقمتُ انتظر بريد الترنيسفال وأنا على مثل الجمر حتى وردت عليَّ بعد مضيّ شهر الرسالة التي نبّثت به تلغرافيَّا ، فنشرتها في الأيام وعلَّقت عليها خواطري وظنوني وخلاصة هذه الرسالة منذ عشر سنوات لم يأتِ في خلاها عملاً نافعاً قط بل كان على العكس من ذلك فاسد السيرة ، سافل الأخلاق. وقد حكمت عليهِ محاكم جوهنسبورج ثلاث مرَّات لثلاث جرائم ارتكبها كانت خاتمتها سرقة قضى أربع سنوات محبوساً من أجلها ، ولما أخرج من السجن علق بفتاةٍ روميةٍ مجهولة النسب فتزوَّجها. وكان يُحبّها حبّاَ عظيماً ورزق منها ابنتين وولداً ذكراً. هذا مجمل ما حوتهُ الرسالة. أمَّا النيابة العمومية فاستدعت سلماً إليها على أثر ما نشرتهُ الأيام ولم تزل بهِ حتى أقرَّ بأنهُ هو الذي ارتكب

الجناية التي اتهم بها فؤاد أفندي اليافي. قال أنهُ نكب في الرنسفال بالفقر المدفع ولم يكن يعلم أنَّ عمّة بملك ثروة كبيرة في مصر. وقد كتب عمّه اليهِ في الزمن الأخير ملحَّا عليهِ بأن

ص: 279

يجيء القطر المصري فيزوّجهُ بابنتهِ الوحيدة فتتحوَّل إليه ثروة طائلة. فحار في أمرِه بين أن يأبى وأن يقبل فإنَّ زواجهُ السابق في جوهنسبورغ يحول دون زواجهِ الآخر في مصر وأنَّ حبّهُ لزوجته وأولادهِ يمنهعُ من التخلّي عنهم رغم ما كان يمكن أن يعقب تخلّيهِ من الحوادث والمشاكل. ورأى من جهة أخرى أنهُ إذا لم يأتِ مصر حرم مالاً وفيراً كان في أشد الحاجة إليه. لذلك وجد أنَّ الطريقة المثلى أن يحتال على ثروة عمّهِ بكلّ أنواع الحيل فإن لم تسعده هذه ارتكب الحناية غير هيّاب ولا وجل. وساعده على تحقيق أمانيهِ وجودُ العلاقات الحبيّة بين أدماء وفؤاد اليافي وتجاور بيتيهما. فأقام يترصد فرصة مناسبة لاغتيال الفتاة بدون أن يكون موضعاً للشبهات ولكنه أحجم أكثر من مرَّة عن ارتكاب الجناية حتى كانت ليلة الزواج وقد أطلعتهُ أدماء على رسالة فؤاد التهديدية فلم يجد خيراً من تلك المناسبة؛ فأشار على ابنة عمهِ بوجوب الاحتفاظ بالرسالة ، على نية أن يجعلها مرشدا لرجال التحقيق ، ودليلاً يصرف شبهاتهم عنه إلى فؤاد ، وقد فتح الباب ليوهم دخول القاتل منهُ ، وهو يحسب أن رسالة التهديد وفتح الباب دليلان كافيان لإثبات التهمة.

واشتهر بين الناس فضلى باستكشاف حقيقة هذه الجناية فأكبر الجميع عملي ، وأعلن ولاة الأمر شكرهم لي أما أنا فلم يسرَّني هذان الإِكبار والشكر بقدر ما سرَّني زواج فؤاد أفندي اليافي بأدماء كريمة الخواجه فرج الله خوري. وكان ذلك على أثر صدور الحكم على سليم الجاني بالأشغال الشاقة.

وسيم السريَّان

صاحب جريدة الأيام ورئيس تحريرها

ص: 280