المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خواطر في الخيرات والشرور ترك الأوَّلون من البشر للإخلاف كثيراً من الخيرات - مجلة «الزهور» المصرية - جـ ٤

[أنطون الجميل]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 32

- ‌السنة الرابعة

- ‌القسطنطينية

- ‌مدينة المصريون الأقدمين

- ‌انتقام النسيم

- ‌أقوال في المرأة

- ‌الأدب في العراق

- ‌الزهور

- ‌أي الرجال تفضله النساء

- ‌الرسميات

- ‌يوسف شكور باشا

- ‌النهر

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌العدد 33

- ‌أدرنه

- ‌الجريحة الأبدية

- ‌أقوال مأثورة

- ‌روسيا وبنو رومانوف

- ‌المرء ودنياه

- ‌في رياض الشعر

- ‌مصارع الأدباء

- ‌تأثير الدين في المدينة

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الصداقة

- ‌في حدائق العرب

- ‌خواطر

- ‌أندية الأدباء الحرة

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثروة هائلة

- ‌دروس

- ‌وصايا الحكماء

- ‌العدد 34

- ‌شاعرية خليل مطران

- ‌اليمين

- ‌خواطر

- ‌الحب

- ‌الزهر

- ‌أقوال مأثورة

- ‌في رياض الشعر

- ‌الإنشاء المترهل

- ‌نهضة اللغتين

- ‌عهود الغادات

- ‌ثمرات المطابع

- ‌الحفلة الإكرامية

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌العدد 35

- ‌معاهد التعليم

- ‌أمام مهدها

- ‌الأغاني في الحروب

- ‌الجامعة المصرية

- ‌في رياض الشعر

- ‌مجدلية أخرى

- ‌أسباب الحرب البلقانية

- ‌سفراء الدول

- ‌الأندلس الجديدة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌العدد 36

- ‌الرئيس بوانكاره

- ‌عطلة الصيف

- ‌زواج ابنة غليوم الثاني

- ‌حكمة قاضٍ

- ‌الحركة الصهوينة

- ‌أثر عرابي ثمين

- ‌في رياض الشعر

- ‌عشرون عاماً

- ‌صاحب البرق

- ‌ثمرات المطابع

- ‌جناية شبرا

- ‌العدد 37

- ‌فردي

- ‌إلى القراء

- ‌تجاه البحر

- ‌أين أقام في مصر

- ‌عظة الحسون

- ‌الفضيلة

- ‌في رياض الشعر

- ‌الصحافة

- ‌الحرب والسلم

- ‌أفكار وآراء

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌مسز لوتي

- ‌الثعلب والعوسجة

- ‌العدد 38

- ‌نابوليون أول

- ‌التدبير المنزلي

- ‌الضمير

- ‌الشرق وأُبناؤه

- ‌الرقص المصري

- ‌حكم

- ‌متاحف الآثار في مصر

- ‌في رياض الشعر

- ‌التدواي بالثمار

- ‌في حدائق العرب

- ‌أبو العلاء المعري

- ‌ضرب زيدٌ عمراً

- ‌حِكَم للإِمام علي

- ‌فكاهة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌العدد 39

- ‌الأوقاف في القطر المصري

- ‌رحلة صيف

- ‌الإِنتقاد

- ‌انيبال

- ‌يوليوس قيصر

- ‌الأناشيد الوطنية

- ‌في رياض الشعر

- ‌اللينوتيب العربية

- ‌أفضل الوسائل

- ‌الممرضة

- ‌العذول والخيال

- ‌في أي شهر وُلدت

- ‌ثمرات المطابع

- ‌مختارات الزهور

- ‌إسماعيل صبري باشا

- ‌فرعون وقومه

- ‌رثاء المرحوم بطرس باشا غالي

- ‌رثاء المرحوم إسماعيل ماهر بك

- ‌راحة القبر

- ‌إلى الأميرعمر باشا طوسون

- ‌إلى سابا باشاتعزية بفقد ولده

- ‌الشباب والمشيب

- ‌فؤادي

- ‌عبد بلا ثمن

- ‌ساعة الودع

- ‌إلى الله

- ‌يا آسىَ الحيّ

- ‌الوفاء

- ‌ذكرى الشباب

- ‌يا موت

- ‌بين الشريف وصبري

- ‌أحمد شوقي بك

- ‌الأندلس الجديدة

- ‌على قبري

- ‌نكبة بيروت

- ‌العصر والعصفور

- ‌آية العصرفي سماء مصر

- ‌كرمة ابن هاني

- ‌الرق والحرية

- ‌خليل مطران

- ‌تحية الشام لمصر

- ‌الأسد الباكي

- ‌إقرار ومنابأوتذكارات الطفولة

- ‌إلى أبنائنارجال الغد

- ‌قطرة دم

- ‌الفلّ

- ‌في قينة تنشر

- ‌دموع الحبيب

- ‌إلى سابا باشاتعزية بفقد ولدهِ

- ‌هل للهموم قلوب

- ‌الزهرات الثلاثاء

- ‌وليّ الدين بك يكن

- ‌شكوى المنفي

- ‌لؤلؤ الدمع

- ‌وعشنا على بؤس

- ‌ما كان

- ‌الشاعر والليل والطيف

- ‌نظرة

- ‌أنتِ والدَّهرُ

- ‌نفسٌ مكرَّمة ونفس تزوري

- ‌شاعرة تهاجرُ شاعراً

- ‌إذا ذهب الربيع

- ‌الفتاة العمياء

- ‌الملك المظلوم

- ‌حافظ بك إبراهيم

- ‌الأم مدرسة

- ‌خيبة الأمل

- ‌شكوى المتيم

- ‌لوعة وأنين

- ‌لا فتى إلَاّ على

- ‌فؤاد حافظ

- ‌داود بك همون

- ‌الملك والشعب

- ‌حنين إلى لبنان

- ‌يوم فلادمير

- ‌أحمد محرَّم

- ‌أبو العلاء المعري

- ‌الشباب والمشيب

- ‌النفس الأبية

- ‌حفني بك ناصف

- ‌على البحيرة

- ‌عيون وعيون

- ‌إلى إسماعيل باشا صبري

- ‌مرآة القلب

- ‌وصف قنا

- ‌أبناء الحكماء

- ‌أمين بك ناصر الدين

- ‌صدى اليأس

- ‌النحو في الشعر

- ‌مناجاة صورة

- ‌الابتسام

- ‌نقولا رزق الله

- ‌الشعر والشعراء

- ‌كرامة المرأة

- ‌أنتِ وهنَّ

- ‌إلياس فياض

- ‌النسيم العاشق

- ‌صدَّ عني

- ‌ليالي الصيف في مصر

- ‌النجومِ

- ‌الدكتور نقولا فياض

- ‌زهرة بنفسج

- ‌اذكريني

- ‌أصابع العاج

- ‌تامر بك ملاط

- ‌الشاعر المريض

- ‌شبلي بك ملاط

- ‌مطوقة القطرين

- ‌طانيوس عبده

- ‌حديث قديم

- ‌بنتي ودوائي

- ‌بشارة الخوري

- ‌البلبل والبوم

- ‌إلى لبنان

- ‌دواء الهموم

- ‌اللؤم

- ‌محمد توفيق علي

- ‌السيف والقلم والمحراث

- ‌النيل السعيد

- ‌عبد الحميد بك الرافعي

- ‌المشيب

- ‌مناجاة شاعر

- ‌محمد رضا الشبيبي

- ‌في سبيل الشرق

- ‌إيليا أبو ماضي

- ‌القوة والضعف

- ‌حنين إلى مصر

- ‌محمود سامي باشا البارودي

- ‌الأمير شكيب أرسلان

- ‌‌‌المراسلات السامية

- ‌المراسلات السامية

- ‌بعلبك

- ‌بين حافظ وعمون

- ‌النهود

- ‌عيد الفداء

- ‌قصيدة صبري باشا

- ‌قصيدة شوقي بك

- ‌قصيدة حافظ بك إبراهيم

- ‌يا ليل الصب

- ‌ الأبيات الأصلية

- ‌أبيات شوقي بك

- ‌أبيات صبري باشا

- ‌أبيات ولي الدين بك يكن

- ‌أبيات الأمير نسيب أرسلان

الفصل: ‌ ‌خواطر في الخيرات والشرور ترك الأوَّلون من البشر للإخلاف كثيراً من الخيرات

‌خواطر

في الخيرات والشرور

ترك الأوَّلون من البشر للإخلاف كثيراً من الخيرات ، وخلَّفوا لهم وافراً من الشرور؛ وقد مرَّ الدهرُ تلوَ الدهرِ ، وجاءَت أجيال خلف أجيال ، وتلك الشرور ثابتة لم تزحزحها العقول ، ولم تمتنع عليها النفوس؛ بل كأنَّ السعيد الفائز من الإخلاف ، هو المحتفظ الضنين بذلك التراث ، فإذا ما تأملنا في أبديَّة هذه الأسواء وشبهِ إزاليتها ، وجب علينا أن لا ننظر إلى محافظة الأجيال على تلك التركة المباركة بنظر التهاون ، وأن لا نجعل علَّتها التصادف ، بل يجب أن نحني الرأس قليلاً أمام ما هنالك من المجهولات التي اقتضت هذا الأمرَ ، عسى أن يُفتحَ لنا بابٌ من أبواب العلم بعد تأدية هذه السجدة سجدة الاعتراف بوفرة أسرار الكون وعظمتها ، وليس ما يخفي على أكثر البشر إلاّ من الأسرار. ولقد اختلف كثيراً نظرُ المفكرين في الموازنة بين الخير والشرّ ، ومآل الأقوال كلها إلى ثلاثة: من يرى أن البشرّ أكثر ، ومن يرى أن الخير أغلب ، ومتوسط يرى أن بين الخير والشر تعادلاً مع رجحان خفيف لجانب الخير. يقول مغلّبو الشر: ألم ترَ أيها الإنسان إلى كثرة الأمراض ، ووفرة الأحزان ، وشدة العدوان ، وغلبة الحرمان ، وشيوع الشكوى ، وعموم البلوى؟. . . ألم ترى كيف يقلُّ أولو اليسار حتى يستطاعَ عدُّهم ، وكيف

ص: 129

يكثر المعسرون حتى يفوقوا العدّ ، ويعيَ عن لحاقهم المقدار؟. . ألم ترَ كيف يشبع الجهل حتى يصعد كل تلعة ، ويهبط كل واد ، ويدخل كل بلدة ، ويزور كل بيت ، ويحلّ كل دماغ ، وكيف يتقاصرُ العلم ، ويتقلص ويختبئ وينطوي حتى تُشَدَّ إليهِ الرحال ، وتُحملَ في سبيله الأثقال ، وتُبذل في التفتيش عليهِ الأموال ، وتُنفق فيهِ السنون الطوال ، حتى إذا ما اهتدى الطالبون إلى جنابه ، وجدوا حوله طائفة من الحواجز ، فيرجع بأكثرهم الملل والضجر واليأس ، وما يفوز باقتحام تلك الحواجز إلا قليل من الطالبين ، وما الطالبون بكثير. . . ألم ترَ إلى العقول السليمة - على قلَّتها - كيف يؤذيها الجهل المُجذِر بما اخترع من حكايات وتهاويل ، وكيف يسمُّها العلم الأبتر بما وضع من شروح وتآويل؛ وإلى النفوس الكريمة كيف يقزّزها ظهور القبيح وإذاعته ، وكيف يؤلمها خفاء الجميل وإضاعته؟. . . وانظر إلى الشهوات كيف تطغى ولا تقف عند حد ، وكيف قضت علينا بالاستمرار في النصب؛ وانظر إلى قلة

من تألفه النفس ، وإلى كثرة ما يحول مع هذا بينها وبين إلفها ، وإلى ما يصيبها بعد هذا كله من سهام الفراق ، وما يعروها بسببه من الجوى؛ وتأمل في قصر الآجال مع طول الآمال ، وقلة المعاضدين مع كثرة المعاندين ، وضعف الوسائل مع قوة الرغائب ، وتهجم الظلمات مع تحجب النور؛ وارمِ ببصرك إلى كثرة الزمني والمبرسمين وأرباب العاهات ، ولا تتغافل عما يرافق العجز والاحتياج من المهانة ، وللإحساس بالمهانة آلام

ص: 130

عظيمة ، وقل لي بعيشك ما أكثر العجز والاحتياج في هذه الحياة؛ بل قل لي أي الناس شيء من العجز وشيء من الاحتياج؟ هبك مليكاً ، ألا ترى أنك عاجز عن كثير ، ومحتاج إلى كثير؟ فماذا يخامر قلبك كلما وجد طعم العجز ، وماذا تجده نفسك كلما ذاقت الاحتياج ، وما هذا الدنيا التي لم يسلم من آلامها صغير ولا كبير ، ولا جليل ولا حقير ، ومتى يكون خيرها أكثر من شرّها إذا كان هذا شأنها من ادّخار الآلام لكل ذي روح على اختلافٍ وتفاوتٍ بينهم في المقادير فقط؟؟ ويقول مغلّبو الخير: لقد جعل الفاطر لنا البصرَ لنرى بهِ كلّ محسوس ، وأكرمنا بالبصيرة لنطّلع بها على ما وراءَ المرئي ، وقد ملأ السمواتِ والأرض بما لا يُعدُّ ولا يحدُّ مما يبهج النفوس ويسرُّها ، فلماذا تعمى الأبصار والبصائر عنها كلها ، ولا ترى إلَاّ الأمراض وآثارها؟ أفننسى نِعَم الشمس ، أم آلاء الأرض؛ أتسخير البحر ننسى أم استخدم البرّ ، أنغفل عما يُفيضهُ التعاون البشريُّ العام من بركات العقول ، وثمرات الهمم والنفوس ، أم عما توحيه الفطرة الإنسانية من تعاطف القلوب ، وما تؤتيه من لذيذ العلاقة بين المحبّ والمحبوب؟ يا للعجب كيف تقعُ الأبصار على بعض الأقذاء ، وتعجز عن أن تسمحها بالتقانة إلى روضة فيها. أطيبُ الأقوات للسمع والشم والبصر؟ أين ذهب عن الأبصار جمال هذه القبة الزرقاء وقد طرحت عنها جلبابَ الغيوم ، وحسرت لئام الدجون ، فأشرق محيَّاها ، فقابلته الأرض راقصةً تترنَّح أعطافها الأغصان ، وتصفّق أكفّها النسائم ، وأين ذهب عن البصائر جمال الحيّ

ص: 131

القيوم الذي نفخ من روحهِ في والد هذه الذرّية المباركة الحاملة لواء خلافته في الأرض نعني النوع الإنساني ألا ترزق البصيرة تجليّاً من تجلياتهِ تضيء بهِ الدنيا كلها لها فلا يبقى إلاّ مسابح نور ، ومسارح آمال ورجاء وسرور. لو صحَّ أن الشرّ في هذه الدنيا هو الأغلب ، لكان سير هذا النوع الإنساني إلى ما هو أنهُ أقبح وأنقص ، لا إلى ما هو أجمل وأكمل ، مع أن المشاهد هو أنهُ كان طول دهره

سائراً إلى التكّمل ، وآخذاً بالتغلي والتجمّل ، فلقد كان الإنسان كهذه الحيوانات السارحة في القفار ، أليفَ آجام وحليفَ أوجار ، يدور يلتمس لمأكله ورقاً وعشباً ، ويردُ الغدران والأنهار فيعبّ منها عبّاً ، لا يزرع ولا يصنع ، ولا يقني ولا يجمع ، لا أداة لديه ولا ماعون ، ولا عهد عنده ولا قانون ، ثم قفز من بيئتهِ تلك قفزةً إذ ألهمه الفاطر أن يتخذ شيئاً من الأداة ، فاصطنع من الحجارة قواطعَ وقواشرَ ونواحت ، وفصَّل بهذه الأدوات الحجرية ما شاء أن يفصّل من أعواد الشجر على حسب ما هدته إليه الحاجة. فعمل من الأعواد مِخيَطاً ومسماراً ، ومخرزاً ومحفاراً ، ومقياساً ومعياراً ، وظلَّ كذلك يتدرّج بهذه الصناعات الابتدائية حتى توصَّل إلى الحديد ، وهُدِيَ إلى معرفة التصرُّف فيهِ فيومئذٍ دخل في دور جديد فصله عن الأدوار الأولى ، ومن بعد ذلك بدأ يأتي بالبدائع والطرَف من الصناعات حتى أصبح بيته وماعونه وآنيته وأكسيته وأثاثه ورياشه وسائر طُرَف زينته أشياء لا نقف عند حدّ! وقد تحسنت عند ذلك سحنتهُ وبنيتهُ ،

ص: 132

وتهذّبت طباعهُ ، وانقلب شتاتهُ اجتماعاً ، وفوضاه نظاماً ، وبلغ من العلم حظاً تقصر كل مبالغة عن وصف عظمه؛ وما الجهل الباقي بشيء يصح أن يسمى عقبةً في سبيل سلطان العلم الماضي الحكم لأن كثير الجهل قليل ، فألفُ ألف جاهل مثلاً يستطيع أحد العقلاء أن يجعلهم تابعين لكلمته كما تتبع الغنم صوت راعيها. . . هذا وما نحن بمنكرين كثرة الشرور ، ولكنَّا مع كثرتها قلما رأينا شيئاً منها إلَاّ ورأينا أمامه قوىً بها يحتمل الناس شدائدها. فإذا صح أن نسمي كلَّ شيء من الشدائد مثلاً شرّاً لزم أن يصح تسمية ما يقابلها من القوى خيراً على أنه ليس من الحق أن نُطيَّر بالشدائد ، ونتبرَّم بها ، وننقم عليها في حين أن كثيراً منها مربيات ومرقيَّات للأفراد والجماعات ، ويا لله كيف يكون طعم الهناء لولا العناء؟ وكيف كنا نستطيع أن نعرف سائر الأنواع المسماة خيرات لولا ما يقابلها من أضدادها إذ لولا المرض ، لقال قائلٌ: ما هي نعمة الصحة ، ثم ما هي الفضيلة لولا الرذيلة ، وما هو الانبساط لولا الانقباض ، وما هو الذكاء لولا البلادة ، وما هو المجد والرفعة لولا المهانة؟ فكأن هذه الشرور إنما وجدت ليكمل بها حظنا مما هي أضدادها. يشكو معلّبو الشرّ من الأمراض وبديهي أن صحة أكثر الأفراد هي الأغلب فإن مرض أحدهم في العمر مرة أو مرتين أو أكثر كان ذلك لتتضاعف لذته يوم يرجع إليهِ بعد الهجر حبيّبه العظيم الذي هو العافية؛ وإن كانت نهاية بعض

الأمراض الموت فذلك - والموت محتوم - خير من اختطافه خطفة واحدة على حين غرة ، ولوقوع موت الفجأة في بعض

ص: 133

الأحيان تعرف فضل المرض الذي به يتمكن المرءُ من وضع بعض الوصايا ومن التهيؤ لاستقبال الأبدية بنفس مطهرة بالندم على بعض الزلات ، وبه يتمكن أهله من حسن توديعه فيزودون نفسه بأثمن شيء عند النفس وهو شذى الإخلاص ، ويتزودون من مرآه برؤية أعلى شيء وهو إباء الحبيب أن يفارق احبَّاءَه ، فهو والحالة هذه ينشدهم بلسان الحال:

ولو نُعطى الخيارَ لما افترقنا

ولكنْ لا خيارَ مع الزمانِ

وهم ينشدونه:

إذا ترحَّلتَ عن قوم وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالراحلون همُ

ويشكو مغلّبو الشرّ من الجهل ، ولو فقهوا لدروا أن ليس كل جهلٍ يُعَدُّ شرَّا ، فإنه لو أصبح كل الناس فلاسفة لحلَّ بالدوران البشري ما يحلُّ بهِ إذا أصبحوا كلهم أغنياء. على أن من يمعن النظر كثيراً يجد في غباوة كثير من البشر فائدة ليست بأقلّ من الفائدة التي يجدها في ذكاء بعض الأفراد ، وحسبك من فوائد الغباوة لأصحابها أنهم أقلّ تذمراً وامتعاضاً ، فهم لا يذوقون الآلام التي يذوقها النبهاء من مشاهدتهم عيوب مجتمعهن وتقصيره عن غيره مثلاً. وحسبك من فوائد تلك الغباوة للمجتمع أن أصحابها لهم مما يدورون حوله من رحى الأعمال التي عرفوها شغل شاغل عن إحداث الفتن والمشاغبات التي توجع الرأس أحياناً على قلة نفع. وتلك الأعمال التي أشرنا إليها قلَّ أن يصبر عليها سواهم مع أنها قد تكون مما تشتدُّ إليها حاجة الجمهور. وبعد فأيَّ شيء ينقمون مما يسمونه الشرور ، وهي إمَّا من اللاتي

ص: 134

تعمُّ فيهوّنها ذلك العموم ، وأمَّا من اللاتي يقلُّ وقوعها ، فتمرُّ وتنقلب إلى خير أحياناً. تأمَّل مهما تعاظم مُصاب أهل بيت بميتهم ، تجد كلَّ واحدٍ يستطيع أن يهجم على نيران حزنهم برشةٍ من التسلية التي يدور محورها على كون هذا الموت أمراً محتوماً ، وشيئاً طبيعيّاً ، وأنه سبيل الأحياء أجمعين ، وأنه ما من أهل بيت إلاّ وقد أصيبوا بمثل هذا على أنَّ الفوائد التي يعرفها العقلاءُ في الموت يمنعهم عن إدخاله في زمرة ما يسمى الشرور. ينظرون إلى الحاضر ولا يتفكَّرون في العواقب. فتعظم بمثل هذا شكواهم ، تأمَّل كم من فقير قد ألمه فقرُهُ ، فساقهُ حثيثاً إلى السعي والاكتساب فلم كان فقرهُ السابق شرّاً أم

كان باعثاً لتحصيل لذَّة الغنى المكتسب التي تفوق لذَّة الغنى الموروث. . . وتأمل كم من مريضٍ أزعجهُ المرضُ وأخافهُ ، فتذكَّرَ ما كان أهمله في الصحة ، فلما أتيح له عناق العافية هبَّ نشيطاً للأخذ بما كان قد أهمله؛ فهل كان مرضه شرّاً ، أم كان باعثاً لتحصيل لذّة عمل الواجب بعد إهماله ، ومولّداً للذة عناق العافية بعد الصدود. . . وتأملْ كم من عاجزٍ قد أقعده عجزهُ عن كثير مما يأتيه أُولو الأشر والبطر ، فأحدث له ذلك صيتاً حسناً ، وآتاه حسنُ الصيت قوةً أصبح قادراً بها على نيل بعض ما كان محروماً منه؛ فهل كان عجزهُ شرّاً أم كان موجداً للذاتهِ من حسن الصيت ثم القوة ثم الفوز. . . لعمرك ليس الشرُّ أن لا تكون الآن قويّاً ، فإنك قد نقوى وتجد لذةً عظيمة؛ وكم من ضعيف

ص: 135

قوي ، وإنما الشرُّ أن تكون قوياً فتفقد هذه القوة. وكم من قوي قد ضعف ، فما كثرة الضعفاء العتيدين أن يقووا سوى كثرة أبواب الأم الذي هو روح الحياة وباعث النشاط ، والخير كل الخير في هذا ، وما قلة الأقوياء المعرَّضين لفقد القوة سوى قلة أبواب الوجل الذي هو باعث الغمّ والانقباض ، والشر كل الشر في هذا. فسبحان من هذا نظامهُ وأثر حكمته ورأفته ، والله رؤُف بالعباد. ويقول المتوسطون: إن أعجب ما في الخيرات والشرور أنك تراها متقابلة كفريقين من العسكر قد وقف أمام كل صف آخرُ مثله في الجانب المقابل كأنما قد وُكل إليها أن لا يألوكلُّ فريق منها جهده في حفظ القلعة التي هو قائم عليها. بيد أن الجيوش التي نعهدها لا تلبث ساعة أو بعض ساعة من الدهر ، حتى يقرع أحدها الآخر ويفلَّه ، وأما جيشنا المنن والمحنَ فإنهما ما برحا متوافقين منذ أولية هذا النوع ، ولعلهما سيظلَاّن مكانهما ما دار بنا المدار ، ولكن من سير الإنسان نحو التكمل نفقع أن ثمَّةَ رجحاناً لجانب الخير على جانب الشرّ إلا أنه رجحانٌ خفيف جداً جداً إذ لولا ذلك لما كان الخطو إلى التكمل بطيئاً بهذه الدرجة. كل هذا قاله المفكرون. وقد أكثر مغلّبو الشرّ من ترداد شواهدهم والتغني بفلسفتهم ، كأنهم وجدوا المجال واسعاً ، والنغَم مؤثراً ، إذ لا أوقع في نفس المفجَّعين من إظهار التألم مثلهم ، وذمّ الدنيا التي هي مثار فجائعهم ، ومدار محَنهم ، وكثير من أهل هذا الرأي كانوا شعراء قد ضاقت عليهم مذاهب المعاش ، فأشبعوا دنياهم ذمّاً وهجواً وملأوا الأسفار بوصف

ص: 136

شرورها من مثل قول حريريهم:

إيَّاك والدنيا الدنَّية إنها

شركُ الردى وقرارة الأكدارِ

دار إذا ما أضحكت في يومها

أبكت غداً تبَّا لها من دارِ

أما مغلّبو الشر فلم نرَ لفلسفتهم كثيراً من الشروح الضافية ، وإنما وقفن على قليل منها في أخبار وآراء بعض الصوفية والفلاسفة. وقد رأينا بعضهم لا يكتفي بتغليب الخير ، بل يذهب إلى أنه لا شرّ على الإطلاق ، وأن الكون كله خيرٌ محضنٌ من خيرٍ محض. وما اختلاف المفكرين والفلاسفة وأصحاب الأديان بتعريف الخير والشرّ ، وتعيين أنواع كل واحد منهما بأقلّ من اختلافهم في الموازنة بينهما. كلَاّ ، بل هو أكثر بكثير. وإذا ما نحن استطعنا أن نُرجع إلى ثلاثةٍ عددّ مذاهب المختلفين في الموازنة فإننا لا نستطيع أن نُرجع إلى عدد معيَّنٍ مذاهبَ المختلفين في التعريف وتعيين الأنواع. ولا يدري مقدار عذر هؤلاء في استلافهم هذا إلَاّ من جال نظره طويلاً في ميادين الطبيعة البشرية وسبر كثيراً أحوال الأفراد والجماعات ، وتأمل مليّاً فيما يقعُ فيهِ الحسُّ والعقل من الأغلاط ، وعرف جيداً ما للعادات والتقاليد من النفوذ والتأثير ، وما لها من المنافع والمضارّ ، فرجل أوتي هذا النصيب العظيم من الخبرة يعرف أنه ليس من البديهيّ معرفة ما هو الخير ، وما هو الشرّ. فلا يهزأ حينئذٍ بكثرة اختلاف المختلفين فيهما من أهل الأديان والفلسفات ، ولا يتكهم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب الأديان والفلسفات ، ولا يتهكم على أقوام رأوا الخير كل الخير في تعذيب النفس وحرمانها من الشهوات الحيوانية ، ولا على آخرين ضادّوهم كل

ص: 137