الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معاملة والمعاملة عند أهل العراق هي المساقات في الحجاز (1). وبمثله قال الزبيدي (2).
قلت وأنت ترى: أن المعاملة من باب المفاعلة، وهي تدل على المشاركة في الأخذ والرد؛ لأنها من باب فاعل كضارب وخاصم. فكانت الحاجة داعية إلى الفقه في التعامل مع غير المسلمين على أصول صحيحة وقواعد سليمة تبعد المسلم عن سخط الله، وتقربه إلى مرضاته، وترغب غير المسلمين في دين الإسلام «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3)» .
ومن هذا نأخذ أن فقه التعامل مع أهل الذمة مطلوب، وإنه الفهم بكيفية التعامل معهم في دعوتهم إلى الله وكيفية التعامل معهم في البيع والشراء، وفهم كل ما يتطلبه الاحتكاك والاختلاط بهم في مجالات الحياة الدنيوية على ضوء الشريعة الإسلامية السمحة، وفي حدود تعاليمها السامية بلا إفراط ولا تفريط ولا غلو. على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
(1) لسان العرب لا بن منظور ج11 ص476
(2)
تاج العروس للزبيدي ج8 ص36
(3)
ج3 ص1357 من صحيح البخاري. وانظر فتح الباري ج7 ص70.
المبحث الثاني: حكم استقدام غير المسلمين للعمل في جزيرة العرب
جزيرة العرب لها فضل على ما سواها من بلدان العالم، لما فيها
من وجود الحرمين الشريفين بها قبلة المسلمين، وأول بيت وضع للناس في الأرض، ومهبط الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تشد إليه الرحال، وقبره الشريف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من المزايا؛ لفضلها على غيرها ورد الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وعلى هذا فكان استقدام غير المسلمين لجزيرة العرب مخالفا لأمره صلى الله عليه وسلم سواء كان للعمل أم للخدمة، والأصل في ذلك ما أخرج الإمام مسلم رحمه الله من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيه إلا مسلما (1)» ، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:«آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يترك في جزيرة العرب دينان (2)» ، وعند البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما «أخرجوا اليهود من جزيرة العرب (3)» .
قلت وعليه فلا يجوز استقدام الأيدي العاملة من غير
(1) مسلم بشرح النووي ج3 ص1388.
(2)
سنن الكبرى البيهقي، كتاب المساقات، باب المعاملة على النحل ج9 ص28.
(3)
فتح الباري ج6 ص271.
المسلمين لهذه الجزيرة المباركة: اللهم إلا إذا كان العمل لا يتقنه المسلمون ولا يستطيعون القيام به؛ فإن فقهاءنا يجيزون ذلك للضرورة. يقول العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: لا بأس من استقدام غير المسلمين للحاجة بحيث لا نجد مسلما يقوم بتلك الحاجة، فإنه يجوز بشرط أن لا يمنحوا إقامة مطلقة، وقال: وحيث قلنا بالجواز فإنه إن ترتب على استقدامهم مفاسد دينية في العقيدة أو في الأخلاق صار حراما، ومن المفاسد أن يخشى من محبتهم والرضا بما هم عليه من الكفر وذهاب الغيرة بمخالطتهم (1).
وقال ابن باز رحمه الله: لا يجوز استقدام خادمة غير مسلمة ولا خادم غير مسلم، ولا سائق غير مسلم، ولا عامل غير مسلم بهذه الجزيرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم من الجزيرة العربية عند وفاته، وبإخراج جميع المشركين منها، ولأن في استقدامهم خطرا على المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم وتربية أولادهم؛ فوجب منع ذلك طاعة لله ولرسوله، وحسما لمادة الشرك والفساد (2).
وقال رحمه الله: عن الخدم والسائقين لا يجوز أن يقر في جزيرة العرب المشركون إلا بصفة مؤقتة يراها ولي الأمر، كالذين يقدمون من دول كافرة لمهمات، والباعة الذين يجلبون البضاعة لبلاد المسلمين وما
(1) مجموع الفتاوى ورسائل ج3 ص24
(2)
فتاوى ومقالات ابن باز ج4 ص393.
يحتاجون إليه، فيقيمون حسب المدة التي يضعها ولي الأمر.
وقال رحمه الله: وجود غير المسلمين في هذه الجزيرة فيه خطر عظيم على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ومحارمهم، وقد يفضي إلى موالاة الكفار ومحبتهم، والتزي بزيهم، ومن اضطر إلى خادم أو خادمة أو سائق فليتحر الأفضل من المسلمين لا من الكفار، وليجتهد في الأقرب إلى الخير، والأبعد عن مظاهر الفساد؛ لأن بعض المسلمين يدعي الإسلام، وهو غير ملتزم بأحكامه فيحصل به ضرر كبير وفساد عظيم (1).
قلت: وأنت ترى أن استقدام غير المسلمين لا يجوز إلا بشرط عدم وجود من يقوم بعملهم من المسلمين، فيكون من الحاجة، وللضرورات أحكامها، وأيضا فإن في استقدام المسلمين منفعة لإخوانك المسلمين بما يحصلون عليه من الأجر؛ فيكون ما أخذه من أجر يعود نفعه على المسلمين لا على الكافرين، نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين والعمل بما علمنا، والله أعلم.
(1) فتاوى ومقالات ابن باز ج4 ص395 وما بعدها.
المبحث الثالث: ما هي جزيرة العرب عند العلماء؟ وبيان كلام أهل العلم في الأمكنة التي يمنع أهل الذمة من سكناها.
رأينا أنه لا يجوز استقدام غير المسلمين لجزيرة العرب إلا إذا دعت الحاجة والضرورة، ويحسن بنا أن نعرف جزيرة العرب، ثم
نبين ما هي الأماكن التي يمنعون من سكناها والإقامة بها في جزيرة العرب؟
فنقول: جزيرة العرب هي التي يسكنها العرب وبها مساكنهم ومنازلهم من قبل الإسلام. قال الخليل بن أحمد: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبشة ودجلة والفرات أحاطت بها وهي أرض العرب ومعدنها، وقال الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام.
وقال أبو عبيد: من أقصى عدن إلى العراق طولا، ومن جدة وما والاها من أطراف الساحل إلى أطراف الشام عرضا: وبمثله قال الأصمعي.
وسميت بجزيرة العرب لإحاطة البحار بها، يعني بحر الهند وبحر القلزم وبحر فارس وبحر الحبشة.
وقيل: هي المدينة، وقال الزبير بن بكار قال غير مالك هي ما بين العذيب إلى حضرموت آخر اليمن قال: وهذا أشبه. قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: بعد أن نقل ما ذكر بعاليه لكن الذي يمنع المشركين من سكناه الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ وهذا مذهب الجمهور.
وعند الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد، وعن الإمام مالك يجوز دخولهم الحرم لتجارة؛ وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة. قاله في الفتح عند الكلام على حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (1)» .
وقال ابن قدامة: قال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها: وهي مكة واليمامة وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها، وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به هي المدينة وما والاها. قال: لأنهم لم يجلوا من تيما ولا من اليمن: أما إخراج أهل نجران منه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا العهد، فأجلاهم عمر قال: فكأن جزيرة العرب في الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، قال: ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيما وفيد ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك.
قال ابن حجر رحمه الله: قال الطبري في الحديث: إن على
(1) فتح الباري ج6 ص171 ومعجم البلدان لياقوت الحموي ج2 ص137 عن جزيرة العرب.