الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الواجبة بقي الضرر الذي أصاب جسمه بلا عوض؛ إذ لم يتضمن القول الآخر إزالته، وهذا مناف لعدل الشريعة الإسلامية الحكيمة واعتدالها (1).
3 -
أن تكاليف العلاج قد تستغرق معظم الدية في حال السراية إلى النفس، أو أكثرها في غير هذه الحالة، ومن ثم فلا يبقى لورثة المجني عليه في الحالة الأولى أو المجني عليه في الحالة الثانية من الدية سوى شيء يسير، وهذا خلاف المقصد الشرعي في جعل الدية عوضا عما فقد من نفس أو عضو أو ما شوه من البدن (2).
4 -
أن ذلك يتفق مع قواعد المسئولية في الشريعة؛ إذ هو داخل في باب إتلاف مال الغير بالتسبب أي فلا يتعارض مع وجوب الدية والأرش (3).
(1) الفعل الضار والضمان فيه لمصطفى أحمد الزرقا، ص 138.
(2)
الفعل الضار والضمان فيه لمصطفى أحمد الزرقا، ص 138.
(3)
انظر: ضمان العدوان في الفقه الإسلامي د. محمد أحمد سراج، ص440.
المطلب الثالث: إذا أوجبت الجناية حكومة:
الجناية الموجبة للحكومة هي ما دون الموضحة في الشجاج كالباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم، والسمحاق وهي التي تشق اللحم كله حتى تنتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم تسمى السمحاق ونحوها (1). وهذا
(1) الكافي لابن قدامة 5/ 231.
مما لا خلاف في وجوب الحكومة فيه بين الفقهاء. جاء في التمهيد لابن عبد البر: " قال مالك: ولم يعقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دون الموضحة من جراح الخطأ عقلا مسمى، قال مالك: وهو الأمر المجتمع عليه "(1). وقال ابن رشد: " واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل وإنما فيها حكومة "(2).
وما دون الجائفة من جروح سائر البدن فلا يجب فيها سوى الحكومة؛ لأنه لا تقدير فيها ولا يمكن قياسها على المقدر لعدم المشاركة في الشين والخوف عليه منها (3). وهذا مما لا خلاف فيه أيضا بين الفقهاء.
فالواجب إذا في هذا القسم هو الحكومة بغير خلاف والحكومة جزء من الدية نسبته إليها نسبة ما تقتضيه الجناية من نقص في قيمة المجني عليه بتقدير التقويم (4). وذلك بأن يقوم
(1) 17/ 369.
(2)
بداية المجتهد 2/ 541.
(3)
انظر: الكافي لابن قدامة 5/ 238، المغني للمؤلف نفسه 12/ 78.
(4)
العزيز 10/ 347، 348، 350، مغني المحتاج 4/ 77، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 7/ 276، 277.
المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من القيمة يكون له بقسطه من الدية، فإن قوم مثلا بعشرة دون الجناية وبتسعة بعد الجناية والتفاوت عشر فيجب له عشر الدية، وهكذا (1). فإن كانت الحكومة في محل مقدر فلا يبلغ بها المقدر كشجة دون الموضحة لا تبلغ حكومتها دية الموضحة (2). وهذه الطريقة في تقدير الحكومة مجمع عليها بين الفقهاء (3). وسميت حكومة بذلك لاستقرارها بحكم الحاكم حتى لو اجتهد غيره في ذلك لم يكن له أثر (4).
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الفقهاء لا يختلفون في وجوب الحكومة في جنايات هذا القسم عندما تبرأ على شين وعثل (5).
واختلفوا فيما إذا برئت على غير شين ولم يبق لها أثر هل يجب فيها شيء أم لا؟ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال كالآتي:
القول الأول: أنه لا شيء فيها وبه قال الإمام أبو حنيفة
(1) العزيز 10/ 347، 348، 350، الكافي لابن قدامة 5/ 239، الإجماع لابن المنذر ص 119.
(2)
الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 7/ 277.
(3)
الإجماع لابن المنذر ص 199.
(4)
انظر: مغني المحتاج 4/ 77.
(5)
التمهيد 17/ 369، بداية المجتهد 2/ 541، 542.
والمالكية، وهو وجه عند الشافعية، ومذهب الحنابلة (1).
جاء في مختصر القدوري: " ومن شج رجلا فالتحمت الجراحة ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه أرش الألم وقال محمد رحمه الله: عليه أجرة الطبيب "(2). وفي بدائع الصنائع: " وليس فيما قبل الموضحة من الشجاج أرش مقدر، وإن لم يبق لها أثر بأن التحمت ونبت عليها الشعر فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف: عليه حكومة الألم، وقال محمد: عليه أجرة الطبيب "(3)، وفي موضع آخر:" وفيما سوى الجائفة من الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف رحمهما الله: فيها أرش الألم، وعند محمد رحمه الله أجرة الطبيب "(4).
(1) انظر: المحرر 2/ 144.
(2)
ص 188، 189.
(3)
7/ 316.
(4)
7/ 324.
وفي الهداية: " ومن شج رجلا فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لزوال الشين الموجب "(1).
وجاء في النوادر والزيادات لأبي زيد القيرواني: " وأما ما لم يأت فيه توقيت من الجراح فإنما فيه بقدر شينه إن برئ على شين وإلا فلا شيء فيه، وكذلك كل كسر من يد أو رجل فبرئ وعاد لهيئته فلا شيء فيه "(2). وفي المنتقى للباجي: " قال مالك: وليس في الجراح في الجسد إذا كانت خطأ عقل إذا برئ الجرح وعاد لهيئته "(3). وفي قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي: " وأما ما قبل الموضحة فليس فيها دية معلومة وإنما فيها حكومة. . وهذا إذا برئت على عثل فإن برئت من غير عثل فلا شيء فيها "(4). وفي كفاية الطالب لأبي الحسن: " وما برئ منها على غير شين أي عيب مما دون الموضحة وكذلك ما دون الجائفة مما لا عقل فيه يسمى فإنه لا شيء فيه على الجاني من عقل وأدب وأجرة طبيب "(5).
(1) 4/ 187.
(2)
13/ 418.
(3)
7/ 75.
(4)
ص380.
(5)
2/ 279.
وقال الإمام الغزالي: " إنما تقدر الحكومة بعد اندمال الجراحة، فلو لم يوجد تفاوت بأن التحم الجرح ولم يبق شين ففيه وجهان: القياس أن لا يجب شيء إلا تعزير كما في الضرب والصفع "(1).
وفي بيان شرح المهذب للعمراني: " وإن لم يبق للجناية شين بعد الاندمال أو بقي لها شين لم ينقص به القيمة ففيه وجهان: أحدهما قال أبو العباس: لا تجب فيه الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب لنقص القيمة ولم تنقص به القيمة فلم تجب الحكومة كما لو لطمه فاسود الموضع ثم زال السواد "(2).
وفي روضة الطالبين: " إنما يقوم لمعرفة الحكومة بعد اندمال الجراحة، ونقصان القيمة حينئذ قد يكون لضعف ونقص في المنفعة، وقد يكون لنقص الجمال باعوجاج، أو أثر قبيح، أو شين من سواد وغيره. فلو اندملت الجراحة ولم يبق نقص في منفعة ولا في جمال ولم تنقص القيمة فوجهان: أحدهما وينسب إلى ابن سريج لا شيء عليه سوى التعزير كما لو لطمه أو ضربه بمثقل فزال الألم ولم ينقص منفعة ولا جمال "(3).
(1) الوسيط 6/ 337.
(2)
11/ 566.
(3)
9/ 309.
وقال ابن قدامة: " وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع مثل قطع أصبع زائدة أو قلع سن زائدة أو لحية امرأة فاندمل الموضع من غير نقص أو زاده جمالا وقيمة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب شيء؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص فلم يجب شيء كما لو لكمه فلم يؤثر. . "(1). وقال في الإنصاف: " هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب "(2).
التوجيه: يعلل الحنفية ذلك بأن الموجب للأرش هو الشين الذي يلحق المجني عليه بالجناية وزوال منفعة العضو وقد زال ذلك فلم يجب شيء. بينما يعلل الشافعية والحنابلة كما هو واضح من نصوصهم بالقياس فقالوا: هو كما لو لطمه أو ضربه مثقل فزال الألم ولم تنقص منفعة ولا جمال.
القول الثاني: أنه تجب فيها حكومة وقال به من الحنفية
(1) الكافي 5/ 240.
(2)
26/ 49.
أبو يوسف رحمه الله ومحمد في رواية (1) وهو الأصح عند الشافعية (2)، وأحد الوجهين عند الحنابلة (3). ويتم تقدير ذلك عند الشافعية والحنابلة بأن يعتبر أقرب نقص إلى الاندمال، وإن لم يظهر نقصان إلا حالة سيلان الدم اعتبرنا القيمة والجراحة دامية؛ لأنه لا بد من نقص لأجل الجناية.
جاء في مختصر القدوري: " وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه أرش الألم "(4). وفي بدائع الصنائع: " وقال أبو يوسف: عليه حكومة الألم "(5)، وفي موضع آخر:" وفيما سوى الجائفة من الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف رحمهما الله: فيه أرش الألم "(6).
وفي الهداية أيضا للمرغيناني: " وقال أبو يوسف -
(1) انظر: المبسوط للسرخسي 26/ 81، بدائع الصنائع 7/ 316، 324، درر الحكام لملاخسرو 2/ 98، 108.
(2)
انظر: العزيز شرح الوجيز 10/ 351، 352، مغني المحتاج 4/ 79.
(3)
انظر: الكافي لابن قدامة 5/ 240، الإنصاف 26/ 49.
(4)
ص 188، 189.
(5)
7/ 316.
(6)
7/ 324.
- رحمه الله يجب أرش الألم وهو حكومة عدل؛ لأن الشين إن زال فالألم الحاصل ما زال فيجب تقويمه " (1).
وجاء في البيان شرح المهذب للعمراني: " والثاني: قال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة وهو المنصوص؛ لأن الشافعي -رحمه الله تعالى- قال: " وإن نتف لحية امرأة أو شاربها فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل؛ لأن الرجل له فيها جمال ولا جمال للمرأة فيها، ولأن جملة الآدمي مضمونة فإذا أتلف جزءا منها وجب أن يكون مضمونا كسائر الأعيان " فإذا قلنا بهذا فإنه يقوم في أقرب أحواله كما قلنا في ولد الأمة إذا غر رجلا بحريتها إنه يقوم حالة الوضع؛ لأنه أول حالة لإمكان تقويمه "(2).
وجاء في روضة الطالبين: " وأصحهما عند الأكثرين وبه قال أبو إسحاق وهو ظاهر النص أنه لا بد من وجوب شيء. فعلى هذا وجهان: أحدهما يقدر الحاكم شيئا باجتهاده بأن ينظر إلى خفة الجناية وفحشها في المنظر سعة أو غوصا وقدر الآلام المتولدة. وأصحهما: أنه ينظر إلى ما قبل الاندمال من الأحوال التي تؤثر في نقص القيمة ويعتبر أقربها إلى الاندمال،
(1) 4/ 187.
(2)
11/ 566.
فإن لم يظهر نقص إلا في حال سيلان الدم ترقبنا واعتبرنا القيمة والجراحة السائلة " (1).
وقال الخطيب الشربيني: " وضابط ما يوجب الحكومة وما لا يوجبها: إن بقي أثر الجناية من ضعف أو شين أوجب الحكومة، وكذا إن لم يبق على الأصح "(2).
وقال ابن قدامة: " والثاني يجب ضمانه؛ لأنه جزء مضمون فوجب ضمانه كغيره "(3). وجاء في الفروع لابن مفلح: " فإن لم تنقصه الجناية حال البرء فحكومة، نص عليه "(4). وقال المرداوي في الإنصاف: " أفاد المصنف بقوله قومت حال جريان الدم أن ذلك لا يكون هدرا وأن عليه فيه حكومة وهو صحيح وهو المذهب نص عليه وعليه أكثر الأصحاب "(5).
الأدلة: استدل الحنفية لقول أبي يوسف بأن الشجة قد تحققت والألم منها وإذا تعذر إيجاب أرش الشجة لزوال
(1) 9/ 309.
(2)
مغني المحتاج 4/ 79.
(3)
الكافي 5/ 240.
(4)
6/ 38.
(5)
26/ 48.
الشين فلا سبيل إلى إهدار الألم الحاصل منها فوجب تقويمه زجرا للسفيه وجبرا للضرر. ثم يعترضون عليه بأن مجرد الألم لا ضمان له؛ لأنه لا قيمة له كمن ضرب رجلا ضربا موجعا أو شتمه شتما مؤلما فإن ذلك لا يجب فيه أرش.
وأما الشافعية والحنابلة فيستدلون بأن جملة الآدمي مضمونة فوجب أن تكون أجزاؤه مضمونة كسائر المضمونات؛ ولأنها جناية على معصوم فلا يعتبر لوجوب المال فيها بقاء شين وأثر كالموضحة والجراحات المقدرة، ولأن الجراحة عظيمة الموقع فلا وجه فيها للإحباط والإهدار (1).
القول الثالث: أنه ليس فيها سوى أجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مذهب عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، وشريح، ومسروق، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي والفقهاء السبعة من التابعين، ومحمد بن الحسن من الحنفية،
(1) انظر: العزيز شرح الوجيز 10/ 351، الشرح الكبير 26/ 48، الكافي 5/ 240، المغني 12/ 181.
ورواية عن أبي يوسف. وقول عند المالكية. وإليك الآثار التي تدل على نسبة هذا القول إلى علماء الصحابة والتابعين:
1 -
ما روي عن ابن نافع عن أبي الزناد عن أبيه أن السبعة مع مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وخارجة بن زيد ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسليمان بن يسار كانوا يقولون في الجرح فيما دون الموضحة إذا برئ وعاد لهيئته إنما فيه
أجر المداوي " (1).
2 -
ما روي عن إبراهيم بن أبي عبلة أن معاذا وعمر رضي الله عنهما جعلا فيما دون الموضحة أجر الطبيب ".
3 -
ما روي عن عمرو بن ميمون قال: " كتب عمر ابن عبد العزيز: ليس فيما دون الموضحة إلا أجر الطبيب ".
4 -
ما روي عن محمد بن سيرين: " أن شريحا قضى في الكسر إذا انجبر قال: لا يزيده ذلك إلا شدة، يعطى أجر الطبيب وقدر ما شغل عن صنعته ".
(1) أخرجه سحنون في المدونة الكبرى 3/ 398.
5 -
عن مسروق قال: " ليس فيما دون الموضحة إلا أجر الطبيب ".
6 -
عن الحسن في رجل كسرت يده قال: " يعوض من يده. قال: وقال محمد - يعني ابن سيرين -: قال شريح: يعطى أجر الطبيب ".
7 -
عن جابر عن الشعبي عن شريح ومسروق أنهما
قالا: " في الضلع ونحوه إذا كسر وجبر على غير عثم قالا: فيه أجر الطبيب ".
8 -
عن سفيان عن فراس عن عامر قال: " فيما دون الموضحة أجر الطبيب ".
9 -
عن شبيب بن سليم عن الحسن قال: " شجني غلام فذهب بي هارون بن رياب إلى الحسن فأصلح بيننا على أجر الطبيب ".
وجاء في مختصر القدوري: " وقال محمد رحمه الله: عليه أجرة الطبيب "(1). وفي بدائع الصنائع: " وقال محمد:
(1) ص 188، 189.
عليه أجرة الطبيب " (1)، وفي موضع آخر: " وعند محمد رحمه الله أجرة الطبيب " (2).
وفي الهداية أيضا للمرغيناني: " وقال محمد: عليه أجرة الطبيب؛ لأنه إنما لزمه أجرة الطبيب وثمن الدواء بفعله، فصار كأنه أخذ ذلك من ماله "(3).
وجاء في مواهب الجليل: " وقيل: يعطى ما أنفقه من الأدوية قاله الفقهاء السبعة "(4). وفي شرح زروق على الرسالة: " الفقهاء السبعة على وجوب أجر الطبيب فيما دون الموضحة من جراح الخطأ، وأخذه بعضهم من قول مالك مرة بوجوب رفو الثوب وهو أحرى؛ لأن الدماء أكبر من الأموال "(5). وفي التاج والإكليل " [وفي أجرة الطبيب قولان] تقدم قول ابن يونس على الجاني أن يداوي، وما نقل غير هذا. وقد تقدم أن اللخمي حكي الخلاف، ثم قال: إن الأحسن أن على الجاني
(1) 7/ 316.
(2)
7/ 324.
(3)
4/ 187.
(4)
6/ 259.
(5)
2/ 238. ومثله في التاج والإكليل للمواق 6/ 260.
أجر طبيب والرفو " (1).
وجاء في الشرح الصغير: " وعليه أي الجاني على الحر والعبد خطأ وليس فيه مال مقرر شرعا أو عمدا لا قصاص فيه ولا مال أجرة الطبيب، وهذا أحد القولين "(2).
التوجيه: ويعلل الحنفية لهذا القول بأنه إنما لزمه أجرة الطبيب وثمن الدواء بفعله فصار كأنه أتلف عليه ذلك أو أخذ ذلك من ماله.
ثم اعترضوا عليه بأنه لا يتفق مع ما هو الأصل عندهم من أن المنافع لا تتقوم مالا إلا بعقد كالإجارة والمضاربة الصحيحتين، أو شبهة عقد كالإجارة والمضاربة الفاسدتين، ولم يوجد شيء من ذلك في حق الجاني وأجرة الطبيب من المنافع ومن ثم فلا تجب.
(1) 5/ 359.
(2)
5/ 93.
وعلى الرغم من هذا الاعتراض إلا أن بعض الحنفية كالسائحاني قد ذهب إلى ترجيحه استحسانا؛ لأن حق الآدمي مبني على المشاحة. بل وقد نقل ابن عابدين أن الفتوى عند الحنفية على هذا القول (1).
وأما المالكية فقاسوا ذلك على ضمان المتعدي رفو الثوب واعتبر بعضهم ذلك من قبيل قياس الأولى؛ لأن النفس آكد حرمة من الأموال.
ويمكن الاعتراض على ذلك بإنكار الإمام مالك القول بلزوم الأجرة. فقد جاء في عقد الجواهر الثمينة: " وليس أجر الطبيب بأمر معمول به، وقد سئل مالك عمن انكسرت فخذه ثم انجبرت مستوية: أله ما أنفق في العلاج؟ فقال: ما
(1) انظر: حاشية رد المحتار 6/ 586.
علمته من أمر الناس أرأيت إن برئ عن شين أيأخذ ما شانه وما أنفق؟! " (1).
وعلى الرغم من هذا الاعتراض إلا أن من المالكية من استحسنه بل ومن رجحه فقد جاء في حاشية الدسوقي: " ثم إن الذي استحسنه ابن عرفة فيما إذا لم يكن في الجرح شيء مقدر القول بأن على الجاني أجرة الطبيب وثمن الدواء سواء برئ على شين أم لا مع الحكومة في الأول "(2). وقال في موضع آخر عند التعليق على ذلك: " أي ثم ينظر بعد البرء فإن برئ على غير شين فلا يلزمه شيء إلا الأدب في العمد وإن برئ على شين غرم النقص وهذا القول هو الراجح "(3). وفي التاج والإكليل: " وقد تقدم أن اللخمي حكى الخلاف، وقال: إن الأحسن أن على الجاني أجر الطبيب والرفو "(4). وقال في موضع آخر: " وهو أحرى؛ لأن الدماء آكد من الأموال "(5).
(1) 3/ 261، ونحوه في مواهب الجليل 5/ 259، وشرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة 2/ 238.
(2)
4/ 270. ومثله في شرح الزرقاني على مختصر خليل 7/ 34، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 6/ 80.
(3)
3/ 461. ومثله أيضا في حاشية الصاوي على الشرح الصغير 5/ 93.
(4)
5/ 359.
(5)
6/ 260.
وفي شرح زروق على الرسالة: " وهو أحرى؛ لأن الدماء أكبر من الأموال "(1).
الترجيح: ولعل القول بتحمل نفقات العلاج هو الراجح لما يلي:
أولا: أنه ليس مع من منعه نص يجب الوقوف عنده بل إلى جانب ما تقدم من أنه قول الفقهاء السبعة فقد قال به أيضا بعض الصحابة وآخرون من التابعين، كما سبق ذلك.
وأما القول بوجوب أرش الألم فهو قريب من القول بأجرة الطبيب والدواء؛ لأن الألم أمر معنوي لا يمكن تقويمه فالذي يظهر أن مرده اعتبار ما أنفقه الجاني في علاج الجناية، ولهذا فسر بعض الحنفية أرش الألم بأجرة الطبيب فقالوا لا فرق بين قول أبي يوسف وقول محمد كما أشرنا إلى ذلك.
وإذا ثبت هذا كله فأقول: إن تحمل نفقات العلاج كثيرا ما يكون من مصلحة الجاني حتى في الجنايات التي فيها مقدر شرعا وذلك أن جمهور الفقهاء قد قرروا أن الجناية على ما دون النفس لا يقتص منها إلا بعد البرء؛ نظرا لأنها قبله لا يعلم استقرارها فقد تسري على غير محلها فيكون حكمها
(1) 2/ 238. ومثله في التاج والإكليل للمواق 6/ 260.
حكم ما انتهت إليه؛ بل وقد تسري على النفس فيكون حكمها حكم النفس، وقرروا أيضا أن الدية والحكومة كذلك لا يتم تقديرهما إلا بعد البرء للسبب نفسه، ولم يقيدوا ذلك كله بحالة ما لو فرط المجني عليه في علاج الجناية؛ بل صرح بعضهم كالشافعية والحنابلة بأن المجني عليه لو ترك علاج جرح مهلك فمات بسبب ذلك وجب فيه القصاص على الجاني إذا كانت الجناية عمدا، ودية النفس إذا كانت خطأ؛ باعتبار أن المداواة في الأصل غير واجبة، ثم إن البرء غير موثوق به لو عولج لا سيما وأن الجراحة في نفسها مهلكة -
فإذا كان هذا كله مقررا - فلا يخفى أن مصلحة الجاني تحمل نفقة العلاج لا سيما فيما إذا كان من شأن الجناية السراية بسبب المضاعفات الناتجة عنها. وحتى لو مات المجروح بعد ذلك فإن الجاني يطمئن على أنه قد بذل السبب لإنقاذ حياة المجني عليه وإنقاذ نفسه في الوقت نفسه من القصاص فيما لو كانت الجناية عمدا، وقد يؤثر ذلك لدى الأولياء في التنازل إلى الدية والصلح.
وأما الجنايات التي ليس فيها شيء مقدر فلا أرى هناك ما يمنع من الأخذ بما استحسنه بعض المالكية من لزوم تحمل نفقات العلاج فيها مطلقا عملا بالقاعدة الشرعية: الضرر يزال. حيث إن العلاج وسيلة إزالة ضرر الجراحة وقد ألحق الجاني ضرر الجراحة بالمجني عليه فلزمه إزالته بالعلاج؛ لا سيما وأنها في الغالب ليست خطيرة كخطورة ما فيها شيء مقدر. ومن ثم فإذا برئت الجناية على شين أخذ زيادة على ذلك الحكومة.
وقد رأى بعض المعاصرين أن النفقات التي هي من قبيل تعويض العضو المفقود كتركيب رجل صناعية مثلا هي مشمولة حتما بمبلغ الأرش، ولكن النفقات اللازمة للوصول إلى حالة البرء والتي هدفها اجتناب سرية التلف وتفاقمه يمكن تحميلها كاملا أو بعضا على الجاني، والأفضل ترك ذلك