الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: صفات المقرئ والقارئ:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: المقرئ آدابه وصفاته
.
المبحث الثاني: القارئ آدابه وصفاته.
المبحث الأول: المقرئ آدابه وصفاته.
يقال: رجل قارئ من قوم قراء، وقرأة وقارئين. وأقرأ غيره يقرئه إقراء، ومنه قيل: فلان المقرئ (1).
فالمقرئ: من علم بالقراءات أداء ورواها مشافهة عن الشيوخ الضابطين بالإسناد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدر للإقراء وعرف به، ومن شرطه أن يكون عاقلا حرا مسلما مكلفا ثقة مأمونا ضابطا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة (2). وقد يكون المقرئ مستورا وهو من كان عدلا في الظاهر مجهول العدالة باطنا.
وقد اختلف علماء الحديث فيمن هذا حاله هل تقبل روايته أولا؟ والذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر بعد نقله الخلاف. قال: والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة على استبانة حاله (3).
(1) لسان العرب: 1/ 129 مادة (ق ر أ).
(2)
منجد المقرئين: 3 - 6.
(3)
نزهة النظر: 50.
قال النويري: أما إذا كان مستورا - أي المقرئ - فهو ظاهر العدالة ولم تعرف عدالته الباطنة فيحتمل أنه يضره كالشهادة، والظاهر أنه لا يضره؛ لأن العدالة الباطنة تعسر معرفتها على غير الحكام، ففي اشتراطها حرج على الطلبة والعوام (1). قلت: والذي ذهب إليه النويري في شأن المقرئ هو الحق فلا يعدل عن القراءة على المقرئين الضابطين العدول في الظاهر بسبب عدم معرفة عدالتهم باطنا فذلك أمره إلى الله، فكما قيل: نحن علينا بالظاهر والله يتولى السرائر.
وقد اشترط العلماء شروطا وصفات متى ما توفرت في المقرئ وجب الأخذ والتلقي عنه، ومتى ما تباعد عنها أو عن شيء منها وجب الحذر منه ومن التلقي عنه.
من تلك الصفات: سلامة معتقده، واتباعه السنة، وإخلاص النية فيما يعلم، وتمكنه مما يقرئ به وضبطه له ومعرفته بعلوم القرآن وتجويده، وأن يكون على دراية باللغة والنحو وما يقوم به لسانه، وأن لا يقرئ إلا بما قرأ وتلقى بالأسانيد المتصلة، وأن يكون على معرفة بحال الرواة والنقلة.
كما اشترطوا في صفاته الخلقية: التواضع والصبر والحلم والأناة،
(1) شرح الطيبة: 1/ 39.
والسخاء والسكينة والوقار، وغير ذلك مما ذكروا من صفات يجب أن يتحلى بها كل معلم، ومعلم القرآن على وجه الخصوص، وسأذكر طرفا من تلك الصفات والآداب فيما يأتي.
قال الإمام مكي - رحمه الله تعالى - في كتابه الرعاية: باب صفة من يجب أن يقرأ عليه وينقل عنه: " يجب على طالب القرآن أن يتخير لقراءته ونقله وضبطه أهل الديانة، والصيانة، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن، وصحة النقل عن الأئمة المشهورين بالعلم، فإذا اجتمع للمقرئ صحة الدين، والسلامة في النقل، والفهم في علوم القرآن، والنفاذ في علوم العربية، والتجويد بحكاية ألفاظ القرآن كلمت حاله ووجبت إمامته "(1).
قال الإمام الجعبري في صفة الإمام الذي يعول عليه ويؤخذ
(1) الرعاية لتجويد القرآن لمكي: 89.
عنه: " وكل من أتقن حفظ القرآن الكريم، وأدمن درسه، وأحكم تجويد ألفاظه، وعلم مبادئه ومقاطعه، وضبط رواية قراءته، وفهم وجوه إعرابه ولغاته، ووقف على حقيقة اشتقاقه وتصريفه، ورسخ في ناسخه ومنسوخا وأخذ حظا وافرا من تفسيره وتأويله، وصان نقله عن الرأي وتجافى عن مقاييس العربية، ووسعته السنة، وجلله الوقار وغمره الحياء، وكان عدلا متيقظا ورعا معرضا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، قريبا من الله تعالى، فهو الإمام الذي يرجع إليه ويعول عليه، ويقتدى بأقواله ويهتدى بأفعاله "(1).
وبين الإمام ابن مجاهد: " أن من حملة القرآن الكريم المعرب
(1) كنز المعاني شرح حرز الأماني لوحة: 28 / أ.
العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار فذلك الإمام الذي يفزع إليه حافظ القرآن الكريم في كل مصر من أمصار المسلمين " (1).
قال ابن الجزري: " ومن شرطه أن لا يقرئ إلا بما قرأ وروى مشافهة، فلو حفظ كتابا امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا؛ لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة، ويلزمه أن يعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، ولا بأس من الزيادة في الفقه بحيث إنه يرشد طلبته وغيرهم إذا وقع له شيء، ويعلم من الأصول قدر ما يدفع به شبهة من يطعن في بعض القراءات، وأن يحصل جانبا من النحو والصرف بحيث إن يوجه ما يقع له من القراءات وهذا من أهم ما يحتاج إليه، وأن لا يخطئ في كثير مما يقع في وقف حمزة، والإمالة ونحو ذلك من الوقف والابتداء وغيره، وما أحسن قول الإمام أبي الحسن الحصري:
لقد يدعي علم القراءات معشر
…
وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل ما إعراب هذا ووجهه
…
رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
(1) كتاب السبعة لابن مجاهد: 45.
وليحصل طرفا من اللغة والتفسير، ولا يشترط أن يعلم الناسخ والمنسوخ كما اشترطه الإمام الجعبري، ويلزمه أيضا أن يحفظ كتابا مشتملا على ما يقرئ به من القراءات أصولا وفرشا، وإلا داخله الوهم والغلط في كثير، وإن قرأ بكتاب وهو غير حافظ له فلا بد أن يكون ذاكرا كيفية تلاوته به حال تلقيه من شيخه مستصحبا ذلك، فإن شك في شيء فلا يستنكف أن يسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب حتى يتحقق بطريق القطع أو غلبة الظن.
وأن يحذر الإقراء بما يحسن في رأيه دون النقل أو وجه إعراب أو لغة دون رواية " (1).
ومن شرط المقرئ أن يخلص النية لله سبحانه وتعالى في كل عمل يقربه من خالقه وأن يقصد بعمله رضا الله تعالى قال النووي: " أول ما ينبغي للمقرئ أن يقصد بعمله رضا الله تعالى قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2). والقيمة
(1) منجد المقرئين: 3 - 6.
(2)
سورة البينة الآية 5
- أي: الملة المستقيمة.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1)» (2) وهذا الحديث من أصول الإسلام، وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما يحفظ الرجل على قدر نيته، وعن غيره إنما يعطى الناس على قدر نياتهم. وعن ذي النون - رحمه الله تعالى - قال: ثلاث من علامات الإخلاص، استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة " (3).
قال ابن الجزري: " وينبغي له أن لا يحرم نفسه من الخلال الحميدة المرضية من الزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم المبالاة بها وبأهلها، والسخاء والحلم والصبر ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة.
وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار، والتواضع والخضوع، وليجتنب الملابس المكروهة، وغير ذلك مما لا يليق به، وليحذر كل الحذر من الرياء والحسد والحقد والغيبة واحتقاره غيره
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).
(2)
فتح الباري: 1/ 135، مسلم بشرح النووي: 13/ 53.
(3)
التبيان في آداب حملة القرآن: 24، 25.
وإن كان دونه والعجب " (1).
قال الآجري: " وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ فيه أو غلط أن لا يعنفه وأن يرفق به ولا يجفوا عليه ويصبر عليه فإني لا آمن من أن يجفو عليه فينفر عنه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2)» (3).
قال النووي: " وينبغي أن يحنو على الطالب، ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه ومصالح ولده، ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه، والاهتمام بمصالحه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان، فإن الإنسان معرض للنقائص، لا سيما إذا كان صغير السن، وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقائص مطلقا فقد ثبت في
(1) منجد المقرئين: 7.
(2)
صحيح البخاري الوضوء (220)، سنن الترمذي الطهارة (147)، سنن النسائي الطهارة (56)، سنن أبو داود الطهارة (380)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 239).
(3)
أخلاق حملة القرآن: 53.
الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1)» .
" ويقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الأول فالأول، فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه، وينبغي أن يظهر لهم البشر وطلاقة الوجه، ويتفقد أحوالهم، ويسأل عمن غاب منهم "(2).
ولما كان القراء يتفاوتون في الضبط والإتقان، والمعرفة بالقرآن وعلومه، والنحو وصناعته، والعلوم الأخرى المكملة لمعارف القارئ، نبه ابن مجاهد إلى بيان من يؤخذ عنه الإقراء ومن يترك فلا يؤخذ عنه.
نقل ابن الجزري عن أبي القاسم الهذلي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: " لا تغتروا بكل مقرئ إذ الناس على طبقات فمنهم من حفظ الآية والآيتين، والسورة والسورتين ولا علم له غير ذلك، فلا تؤخذ عنه القراءة، ولا تنقل عنه الرواية، ولا يقرأ عليه.
(1) فتح الباري باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 56، ومسلم في كتاب باب الإيمان: 2/ 16.
(2)
التبيان في آداب حملة القرآن: 32 - 34.