الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: فيما ينبغي للمسلم عمله مع الوافدين
، وفيه مقدمة وأربعة مباحث:
المقدمة: في فضل العلم والتحذير من الفتيا بغير علم
للعلم فضل عظيم فقد أمر الله بالعلم قبل القول والعمل، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1)، ثم حث تعالى على طلب العلم والازدياد منه.
يقول الله تعالى آمرا عبده ورسوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (2)، ويقول سبحانه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3)، وفيهما فضل العلم ورفعة درجات أهله، قال ابن حجر: والمقصود به العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه ودنياه، ومداره على التفسير والحديث والفقه (4)، وقال صلى الله عليه وسلم:«من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (5)» .
ففضل العلم عظيم ومكانته عالية، لكنه سبحانه حذرنا من القول عليه بلا علم، قال سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (6)
(1) سورة محمد الآية 19
(2)
سورة طه الآية 114
(3)
سورة المجادلة الآية 11
(4)
فتح الباري ج1 ص141.
(5)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، سنن الترمذي القراءات (2945)، سنن ابن ماجه المقدمة (225)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252)، سنن الدارمي المقدمة (344).
(6)
سورة الإسراء الآية 36
ويقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (1).
ومما شاع وظهر في هذا الزمان كثرة المفتين بغير علم، وتجرأ العامة على الفتوى من رجال ونساء. وكان على العاقل أن لا يتجرأ على الفتوى بغير علم، فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدافعون الفتوى خوفا من القول على الله بلا علم رضي الله عنهم، بل كان كل واحد منهم رضي الله عنهم يود أن صاحبه كفاه الفتوى. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى.
وقال الإمام الشافعي: ما رأيت أحدا جمع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، وأسكت عن الفتيا منه، وقال إسحاق بن راهويه: قال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها، وقال عطاء بن السائب: أدركت أقواما كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم، وإنه ليرعد، وقال الأشعث كان محمد إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان. وحكي عن مالك أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
(1) سورة الزخرف الآية 19
قال الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه الله: ويحق للمفتي أن يكون كذلك، وقد جعله السائل الحجة له عند الله، وقلده فيما قال، وصار إلى فتواه من غير مطالبة ببرهان ومباحثة عن دليل، بل سلم له وانقاد إليه، إن هذا لمقام خطر وطريق وعر.
قال محمد بن المنكدر: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل عليهم (1). وفى سنن الدرامي " فليطلب لنفسه المخرج "(2).
أما في عصرنا الحاضر فقد تجرأ كثير من الناس على الفتوى بغير علم، ولا سيما من العوام فيحللون ويحرمون، وما عرفوا أن الفتوى توقيع عن الله بالتحليل والتحريم، فاستخفوا بالأمر واستهانوا به، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد ورد النهي الشديد عن الفتوى بغير علم كما في قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (3).
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أخرج ابن أبي حاتم أنه قال: قرأت هذه الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قال قلت
(1) انظر الفقيه والتفقه ج 2 ص165، 1389 هـ تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
(2)
سنن الدرامي ج1 ص50.
(3)
سورة النحل الآية 116
صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقع كثيرا من الجاهلين والمقلدين، فإنهم يفتون بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير؛ فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها
…
أعمى على عوج الطريق الجائر
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1)» الحديث أخرجه البخاري من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروي عن أنس وعلي وسلمة وأبي هريرة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة، ومعنى «ليتبوأ مقعده من النار (2)» فليتخذ لنفسه منزلا من النار، ولهذا كانوا يمتنعون من كثرة الفتوى. قاله ابن حجر رحمه الله (3).
وقال في كتاب الفقيه والمتفقه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (4)» .
وفي سنن البيهقي من رواية أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم،
(1) صحيح البخاري الجنائز (1291)، صحيح مسلم مقدمة (4).
(2)
صحيح البخاري العلم (110).
(3)
فتح الباري ج1 ص199 وما بعدها من الباب.
(4)
الفقيه والمتفقه ج2 ص155 من رواية علي بن أبي طالب.
ومن أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه (1)».
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفتى بغير علم لعنته الملائكة (2)» ، وعند ابن عساكر من رواية علي رضي الله عنه:«لعنته ملائكة السماء والأرض (3)» ، وورد عن ابن عباس أنه قال: من أفتى بفتيا يعمى عنها فإنما إثمها عليه. وفي سنن الدرامي " من أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه "(4).
فكان الواجب على أصحاب العقول السليمة والفطر المستقيمة الابتعاد عن الفتيا بغير علم، وإحالة الفتوى إلى أهل العلم الذين لهم قدم راسخ فيه، يفتون الناس على علم وبصيرة؛ لقول الله جل وعلا:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5).
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يرزقنا الفقه في الدين، والصدق في القول والعمل، وأن يبعدنا عن القول على الله بغير علم، وأن يهدينا سواء السبيل.
(1) السنن الكبرى ج1 ص116.
(2)
الفقيه والمتفقه ج2 ص155.
(3)
فيض القدير للمناوي ج6 ص77.
(4)
سنن الدارمي ج1 ص53.
(5)
سورة الأنبياء الآية 7