الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يترفع عن ذلك مع علو مكانته، ورفعة منزلته عند الله وعند خلقه. فصلى الله عليه وسلم. لقد كان قمة في التواضع، وفي هذا كله جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وجواز استعمال ما باشرته أيديهم. والله أعلم.
المبحث الثامن: حكم نكاح نساء أهل الكتاب
رأينا أن الحاجة داعية لفقه التعامل مع غير المسلمين لحل البيع والشراء معهم، وجواز استئجارهم واستقدامهم للحاجة والضرورة في جزيرة العرب لجلب البضائع والبريد ونحوها، وللقيام بالعمل الذي لا يتقنه سواهم من المسلمين.
وتقدم أنهم لا يمنعون من بعض البلدان التي أهلها مسلمون لا في جزيرة العرب كاليمن ولا في غيرها كالشام ومصر، وقد تدعو المخالطة إلي الرغبة في الزواج من نسائهم العفيفات المحصنات، والله جل ذكره قد أباح لنا ذلك في قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1). فدلت الآية الكريمة على جواز نكاح نساء أهل الكتاب، وقد خالف في ذلك ابن عمر رضي الله عنهما واحتج بقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2). وفيه النهي عن نكاح المشركات، قال: ولا أعلم
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
سورة البقرة الآية 221
شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى.
قال ابن القيم رحمه الله: كان عمر رضي الله عنه ينهى عنه، وأمر من تزوج من الصحابة أن يطلق، قال: وقد تزوج حذيفة بن اليمان، وطلحة بن عبد الله، والجارود بن المعلى، فطلقوا إلا حذيفة، قال لعمر: تشهد أنها حرام؟ فقال: هي جمرة، فقال: قد علمت ذلك لكنها لي حلال، قال: ثم طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ فقال: كرهت أن يظن الناس أني ارتكبت أمرا لا ينبغي، قال: وقال أحمد: ما أحب أن يفعل ذلك، فإن فعل ذلك فقد فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر صالح بن أحمد قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة أن حذيفة بن اليمان، وطلحة بن عبد الله، والجارود بن المعلى، وذكر آخر تزوجوا نساء من أهل الكتاب وذكر القصة مع عمر. انتهي (1).
قال الإمام الفخر الرازي: ذهب أكثر العلماء إلى أنه يحل التزوج بالذمية، وكان ابن عمر لا يرى ذلك. قال: ومن قال بقول ابن عمر: أجابوا عن الآية بوجوه.
الوجه الأول: المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الذين آمنوا
(1) أحكام أهل الذمة ج2 ص421، بتصرف.
منهم، فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج منها أم لا؟ فبين تعالى بهذه الآية جواز ذلك.
الوجه الثاني: ما روي عن عطاء بأنه كان في المسلمات قلة، فأباح الله الزواج بالكتابيات، أما الآن ففيهن كثرة؛ فزالت الحاجة، فلا جرم زالت الرخصة.
الوجه الثالث: الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (1)، وكقوله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} (2)، ولأنة عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة، ويصير ذلك سببا لميل الزوج إلى دينها، وعند حصول الولد فربما مال الولد إلى دينها، وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة.
الوجه الرابع: قوله تعالى في خاتمة الآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3)، وهذا من أعظم المنفرات عن التزوج بالكافرة فلو كان المراد بقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر
(1) سورة الممتحنة الآية 1
(2)
سورة آل عمران الآية 118
(3)
سورة المائدة الآية 5
(4)
سورة المائدة الآية 5
هذه الآية كالتناقض وهو غير جائز (1).
وقال الشوكاني: يجاب عن استدلال ابن عمر بآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (2) بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات، فيبنى العام على الخاص. انتهي (3).
قال ابن باز رحمه الله: حكم ذلك الحل والإباحة عند الجمهور واستعراض كلامهم رحمه الله وإياهم. قال: ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمؤمنات أولى وأفضل، لما ورد عن عمر وابنه عبد الله، وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم؛ ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر، ولا سيما في هذا الزمان الذي استحكمت فيه غربة الإسلام، وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين، وكثر فيه الميل إلى النساء، والسمع والطاعة لهن إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته إلى دينها وأخلاقها، كما يخشى على أولاده منها من ذلك (4).
الترجيح:
والظاهر لي الجواز إذا دعت الحاجة إلى ذلك كأن يكون في
(1) تفسير الفخر الرازي ج11 ص147.
(2)
سورة البقرة الآية 221
(3)
فتح القدير للشوكاني ج2 ص15.
(4)
فتاوى ومقالات جمع الدكتور محمد الشويعر ج4 ص274.
بلد في نساء المسلمين قلة كالطلاب في أمريكا وأوربا وغيرها، ويخشون على أنفسهم الوقوع في الحرام فلا بأس، مع ما في ذلك من المشاكل المتوقعة، ولا سيما في حال وجود أطفال بينهما، فإذا حصل الفراق تحصل المشاحنات والمضايقات والدعاوى والمرافعات وغير ذلك من الأمور التي الأولى للمسلم الابتعاد عنها، وما قصة حاتم وأبيه السعودي وأمه الأمريكية التي أبلغت على والده البوليس الدولي، فلم يستطع الأب الخروج من السعودية - حماها الله - بل وقد تراجع الدوائر الحكومية في سفارة بلدها ذات الحصانة الدبلوماسية، وقد حكم عليه في بلدها بحضانة الابن فهرب به إلى المملكة ليعيش مسلما وبين المسلمين. وقد حكم لها بالزيارة مع الخوف الشديد من أن تأخذه إلى بلادها، والأب لا يستطيع الخروج من هذه البلاد المباركة، فإن خرج قبض عليه البوليس الدولي. وهنا المأساة.
أما في حال غير ذلك فالأفضل للمسلم التزوج بالمسلمة المأمونة الجانب في الدين والخلق {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (1). وهذا هو الأسلم للمسلم في دينه وخلقه ودنياه والله أعلم.
فائدة:
حذر ابن تيمية رحمه الله من طاعة النساء وأورد أحاديث
(1) سورة النور الآية 26
كثيرة في النهي عن طاعتهن ومنها: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1)» .
وقوله صلى الله عليه وسلم «هلكت الرجال حين أطاعت النساء (2)» وقوله صلى الله عليه وسلم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (3)» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكن صواحبات يوسف (4)» يريد صلى الله عليه وسلم أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما في الحديث الآخر «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن (5)» وقوله صلى الله عليه وسلم: «هن شر غالب لمن غلب (6)» .
وعند الإمام أحمد من رواية أبي ذر: «ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء. إلا المتزوجون أولئك المطهرون المبعدون من الخنا، ويحك يا عكاف إنهن صواحب أيوب وداود ويوسف وكرسف فقال له بشر بن عطية: ومن كرسف يا رسول الله؟ قال: رجل كان يعبد الله بساحل البحر ثلاثمائة عام يصوم النهار ويقوم الليل ثم إنه كفر بالله بسبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من
(1) فتح الباري ج9 ص137 والحديث من رواية أسامة بن زيد، وصحيح مسلم حديث رقم 1740 بيان الفتنة بالنساء.
(2)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 45).
(3)
صحيح البخاري المغازي (4425)، سنن الترمذي الفتن (2262)، سنن النسائي آداب القضاة (5388)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 45).
(4)
صحيح البخاري الأذان (687)، صحيح مسلم الصلاة (418)، سنن الترمذي المناقب (3672)، سنن النسائي كتاب الإمامة (833)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1232)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 34)، موطأ مالك النداء للصلاة (414).
(5)
صحيح البخاري كتاب الزكاة (1462)، الحيض (304)، صحيح مسلم الإيمان (80)، سنن أبو داود السنة (4679)، سنن ابن ماجه الفتن (4003)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 67).
(6)
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص224 وانظر تحقيق وتعليق د. ناصر بن عبد الكريم العقيل، فقد أشار إلى المراجع ج2 ص726.
عبادة ثم استدركه الله ببعض مما كان منه فتاب عليه (1)».
وفي هذه الأحاديث التحذير من طاعة النساء كما قال ابن تيمية رحمه الله: وإن طاعتهن تجر إلى المهلكة والشر، وقد قال تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (2)، فحذر ربنا سبحانه وتعالى من النساء وأمرنا بأن نحذرهن، فمن أطاعهن سقنه إلى الهلاك وعدم الفلاح. أقول وقد تأثر كثير من رجال المسلمين في هذا الزمان باختلاطهم باليهود والنصارى وغيرهم في العمل دون أن يتزوجوا من كتابيات: فكيف لو تزوجوا منهن، فإن التأثر سيكون أكثر والخوف على ابن الإسلام أكثر وأعظم، ومن المعلوم أن الميل إلى الزوجة ومحبتها شيء جبلي وطبيعي فتحصل المودة، وتحصل الولاية والبطانة المنهي عنهما فكان الأفضل للمسلم الابتعاد عن نكاح الكتابيات دون تحريم ذلك. والله أعلم.
(1) مسند الإمام أحمد ج5 ص164.
(2)
سورة التغابن الآية 14