الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي العبيدلي:
ولمّا جرى ذكر الشّيخ العبيدلي فلا بدّ من ذكر شيء من التّعريف به وبمقامه ليعلم مقام الشّيخ صيد عقارب، ويعلم أنّ له أصلا في الطّريقة مبنيّا عن معرفة محقّقة، ثمّ بعد ذلك ننتقل للكلام على صيد عقارب لأنّ هذه رسوم اندرست وعفت معالمها وانطمست آثارها، فلا بدّ من بيان ما يمكن بيانه، والله وليّ الهداية والتّوفيق فنقول: الشّيخ العبيدلي هو أبو / الحسن علي بن عبد الله بن عياش بن العبيدلي (467)، أصله من العرب (468)، وجاء إلى القيروان كبيرا فتعلّم بها القرآن، وقرأ على الشّيخ الرماح، وكان فقيها صالحا ناسكا ورعا مهابا، لا ينظر إلى وجه السّلطان ونحوه من أولي الأحكام ممّن لا تأخذه في الله لومة لائم، كثير الخوف من الله عز وجل. قال في معالم الإيمان: سمعت شيخنا أبا محمد عبد الله الشبيبي يقول: كان العبيدلي إذا دخل المحراب يدخله بوجهه، فإذا سلّم وانفتل رجع بوجه آخر (469)، وكان إذا حجّ يعمل الميعاد، فإذا فرغ منه أخذ الرّكب في الرّحيل، وكان من اعتقاد النّاس فيه تتوب البوادي على يديه ولا يقبل (470) توبتهم حتّى يخرجوا جميع ما عندهم من المظالم، فقد يبقى من يتوب هو وعياله بلا شيء فيلحقهم الضيق ابتداء، فإذا تاب آخر أخرج ما له عنه لمن قبله، وهكذا فتراد (471) النّاس مظالمهم، وحسنت أحوالهم، وكان فقراؤه الذين يعرفونه بزاويته وغيرها نحو ستّين أو سبعين بحسب الأوقات، فتارة يقلّون وتارة يكثرون، وكانت حومة الشّيخ تسمّى حارة المرابطين لسكنى من ذكر بها، وكانوا إذا تزوّج واحد منهم أو زوّج لا يشهد في عقد نكاحه إلاّ أصحاب الشّيخ، ولا يشهد عند (472) العدول المعينين لأنّهم عندهم ليسوا بعدول لما يسمع عليهم من كلام النّاس، فشقّ ذلك على قاضي الوقت والعدول / فأتى الشّيخ أبو الحسن علي الشّريف شهر العوّاني، وكلّم الشّيخ في ذلك فقال: أصحابي هم العدول لا غيرهم (473)، فلا يعقدون (474) نكاحا بالمعيّنين بحال، فما زال يلاطفه حتى
(467) له ترجمة في شجرة النّور الزّكيّة ص: 211، معجم المؤلّفين 7/ 139، هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي 1/ 719.
(468)
أي من أعراب البادية.
(469)
في ش: «أخرى» .
(470)
في ط: «تقبل» .
(471)
في ط: «فترى» .
(472)
بعدها في ط: «عند العقد عقد» .
(473)
في ط: «لا يجبرهم» .
(474)
في ب وت: «يعقد» .
قال له: يا سيدي، نجمع بين الحالين، يحضر عدول القاضي وخواص أصحابكم، فعندكم أنتم إنما انعقد النّكاح بالخواص من أصحابكم، وعند القاضي إنما انعقد بعدوله فوافقه على ذلك بعد توقّف، ولو تمادى رحمه الله على تمنّعه لنفذ ذلك.
وكان رحمه الله لا يرى وجه السّلطان ولا قائد ولا قاض لما يسمع عن القضاة من أخذهم مرتّبهم من القيّاد، وغير ذلك.
ولمّا وصل أبو يحيى أبو بكر أمير إفريقية القيروان بمحلّته ووصل إليه الشّيخ أبو محمّد الرّمّاح والنّاس فقال: هل في القيروان من يزار؟ فقالوا له: الشّيخ العبيدلي، فهمّ بالمشي إليه، فقيل له: إنّه لا يفتح لك الباب ولا ينظر إليك، فعمل على الإجتماع به ليلا، فأتى هو وقائده إبن سيّد النّاس، ومحمّد بن عبد الحكيم، فدقّ الباب فقالت امرأة من خلف الباب: من هذا؟ فقال لها: قولي للشّيخ إنّ أميرك بالباب ينتظرك، فلم يخرج له، فتعوّذ وقرأ بلسان عال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (475) فأجابه الشّيخ وكان يصلّي بلسان عال حتّى سمعناه (476){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} (477)، ولم يخرج له، فقال: لا بدّ لي / من رؤيته، فقيل له: إنّك لا تراه إلاّ يوم الجمعة لخروجه للصّلاة، فوقف في مكان، فلمّا رآه ترجّل عن جواده وانفتل الشّيخ بوجهه إلى حائط السّور ولم ينظر إليه، فقال له: يا سيّدي أحبّ منك أن تدعو لي، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم من ولي أمرا من أمور أمّتي فشقّ عليهم فاشقق اللهم به، ومن ولّي أمرا من أمور أمّتي فرفق بهم فارفق اللهم به» (478)، فركب ولم يوله وجهه، وحضر لمشهد هذا اليوم الشّيخ الصّالح العدل أبو العبّاس أحمد إبن الشّيخ العدل المؤلّف أبي عبد الله محمّد بن عثمان بن غانم الحضرمي، فقال في نفسه:
هذا رجل بدوي أنظر كيف أعطاه الله ولم ينظر للسّلطان وجها، ونحن أصحاب طريقة وزوايا، عرفنا السّلطان وأخذنا مرتّبه، وتملّقنا له ولا يليق بنا ذلك، فرجع إلى داره وانقطع عن السّلطان وغيره، ولزم المحراب حتّى مات - رحمه الله تعالى -.
ولمّا دخل السّلطان أبو الحسن (479) القيروان قال الشّيخ العبيدلي للشّيخ الرمّاح:
(475) سورة النّساء: 59.
(476)
في ش وب: «سمعاه» ، وفي ط:«سمعه» .
(477)
سورة الحج: 41.
(478)
رواه مسلم عن عائشة.
(479)
المريني.
اتركني أخطب موضعك وأصلّي حتى أسمعه ما يلزمه، فأبى عليه طلبا للعشرة.
قال الشّيخ أبو عبد الله محمّد الشقانسي: كان الشّيخ الفقيه الورفلي (480) من أهل قابس ينزل عنده الشّيخ العبيدلي إذا مشى للحجّ، فتولّى بعد ذلك الورفلي (480) قضاء القيروان فلم يصل إليه، فطلب هو أن يصل إلى الشّيخ فأبى عليه، فبعث له في ذلك، فقال للرسول: قل له لكونك قاضيا، فأجابه انّي إنما تولّيت مكرها / وحلف له على ذلك، فقال للرسول: قل له اعمل الحق تعزل، فعمل الحق، وضرب نائب القائد بموجب شرعي وقائده إبن أبي الرّبيع، فتركه القائد إلى يوم الجمعة، وفزع عليه بخدامه، وهرب خدّام القاضي وأتى له لداره، وكان يسكن قرب الجامع الأعظم بالدّار المعروفة للقضاة، فتحصّن بالجامع ودخل فيه، وأغلق بابه عليه، فسلّمه الله منه، فخرج العبيدلي بأصحابه يدعون في جبابن القيروان، وقال: لا أسكن بلدة جرى فيها هذا المنكر، وكتب الشّيخ الرماح لقاضي الجماعة وللسّلطان وللشّيخ الزبيدي وعرّف كلاّ منهم بالواقع وبخروج الشّيخ العبيدلي، وكتب القائد يعرّف السّلطان بضرب القاضي لخديمه، وكتب أيضا لقائد الاعنّة محمّد بن عبد الحكيم الذي كان يعتمد عليه، وبقي النّاس ينتظرون ما يجيء من الأمر، فجاء رسول السّلطان وأخذ القائد وكبّله ورفعه لتونس، فلمّا وصل به لقيه قائد الأعنّة المذكور فقال له: بعثناك للقيروان قائدا وأرحناك من تعب السّفر في المحلّة، فظلمت القاضي ففزعت عليه حتّى خرج العبيدلي يدعو على مولانا أبي يحيى الذي قدّمك، وأمر من معه بقتله فقتلوه بالرّماح، ثمّ جاء قائد ومعه قاض، فلمّا خرج الورفلي (480) معزولا خرج العبيدلي وودّعه.
وحدّث أبو بكر بن يعقوب الضاعني قال: خرج العبيدلي مع جماعة من أصحابه بجبل ماكوض، جرت العادة أنّه يتعبّد به ويجتمع فيه الأولياء، وهو بالجزيرة / على شاطئ البحر، فغارت خيل عليه وعلى أصحابه فجرّدوا بعضهم، فقال للخيل: هذا الشّيخ العبيدلي فاعتذروا بأنّه (481) لا علم عندهم به، وردّوا ما أخذوا إلاّ رجلا من أصحابه قال: هذا الفارس أخذ لي سبعة دنانير ذهبا، وأنكر الفارس ذلك إنكارا كليّا وقال: نحلف، قال له الشّيخ: لا تحلف إلاّ على يدي الحاكم وليس هو ههنا ولكن الفقراء يعلّمونك دعاء تدعو به ويؤمّنون عليك مرّتين، هذا حقّهم، فقال: نعم، فقال
(480) في ش: «الروفلي» .
(481)
في ط: «بأنهم» .
له الشّيخ: يا غانم، قل اللهم إن كان غانم سالما فسلم، وإن كان كاذبا فاهتك السّتر وعجّل، فقال ذلك، فقال الشّيخ وأصحابه: آمين وكرّرها ثانيا، (وقالوا:
آمين) (482)، وانصرف (483) الشّيخ وأصحابه، وكان غانم هذا قتل والد فارس معه في الخيل، وعفا عنه فقال له ولد المقتول: يا ابن عمّي فضحتنا بين العرب، يقول العرب والنّاس إنّ الفلانيين أخذوا العبيدلي وهو شيخ إفريقية، فقال له: وأي فضول أدخلك في هذا؟ فتغالى معه في الكلام، فضرب الفارس غانما بمزراقه فقتله، وفتّشوا جيبه فوجدوا السّبعة دنانير فيه، فلحقوا الشّيخ وأعلموه بموته، وأعطوا لصاحب الدّنانير دنانيره.
ونقل عن الشّيخ ثعلب عن الفقيه أبي عبد الله محمد الجذامي قال: كنا نجوّد على الشّيخ العبيدلي بعد صلاة العشاء الأخيرة وإذا برجل دخل على الشّيخ فقال له: إن عجوز السّلطان من أولاد أبي يحيى / أبي بكر، دخل القيروان، وإنّ النّاس خافوا منه أن يقيم عندهم فقال: انصرفوا، وغلق الباب، فلمّا بقي السّدس الأخير من الليل جئنا للقراءة عليه فقال: عجوز خرج أم لا؟ فقلنا: ما نعرف، فقال: إن رجلا يقرأ عليه المؤمن من الجنّ، قالوا (484) له: ما تريد نعمل في عجوز؟ أتقتله أم تخرجه؟ فقال:
أخرجوه، والغالب أنّه يخرج، فظهر أنّه سرى بالليل وأصبح في بعض قرى السّاحل، وقال بعض أهل ذلك الموضع: سلموا على الشّيخ العبيدلي وقولوا له: بلدة أنت فيها ما نزاحمك فيها، فعرفنا أنّ الرجل الذي ذكر هو نفسه.
وقال لي أبو عبد الله الجذامي المذكور: مرض الشّيخ العبيدلي فأشفق النّاس أن يموت من مرضه ذلك، فدخلت عليه أنا والحاج عبد الرّحمان الشّيحي والحاج أبو بكر الطّرّي، فقال أحدهما: يا سيدي رجل رأى في منامه أنّ السلطان أخذك والنّاس خافوا، فقال: أنعرفكم (485) ولا تعرفوا بي حتّى نموت؟ قلنا: نعم، قال: أطلعني الله على ما مضى من عمري وما بقي، وأنا ما نموت من هذه المرضة حتّى نحجّ، فكان كذلك.
وكان رحمه الله فقيها عارفا بالأحكام الشّرعية على غاية ونهاية، فمن فقهه أنّه يقول: قبول الهديّة أفضل من قبول الزّكاة وخالفه أبو عبد الله الرماح (486) شيخه (487)،
(482) ما بين القوسين ساقط من ب وت وط.
(483)
في ط: «وانصر» .
(484)
في ط: «قال» .
(485)
في ط: «أنا أعرفكم» .
(486)
محمد بن عبد الرّحمان الرماح، أخذ عن إبن زيتون وغيره، الفقيه العمدة مع ديانة وصلاح، درس العلم نحو من 60 عاما (ت. سنة 749/ 1348) شجرة النّور ص:211.
(487)
ساقطة من ط وب وت.
وأبو العباس أحمد الدّباغ، وأبو عبد الله علي العواني (488)، وأبو إسحاق إبراهيم الخطيب، واحتجّ العبيدلي بفعله عليه الصلاة والسلام / من أنّه كان يقبل الهديّة ولا يأخذ من الزكاة، وأجابه الآخرون (489) بأنّ الهدية في حقنا موقوفة على ثلاثة شروط: حلية المال، وطيب نفس صاحبه، وحصول ما يظنّ المعطي في المعطى، وللزّكاة شرط واحد وهو الفقر. قال (490) أبو بكر الضاعني: عمل عبد الواحد الحنظلي طعاما ونادى عليه أربعة: أبا عبد الله محمد الرماح، وأبا الحسن العبيدلي، وخليفة اللواتي، وعمر الحسيني، فقال خليفة وعمر: نحن صيام، فقال صاحب الطّعام: وأنا ما عملت إلاّ من أجلهما لكمال فقرهما، فقال العبيدلي: بكم تشتري فطرهما؟ فقال:
بثلاثة أقفزة قمحا، قفيزان للفقراء وقفيز لك. فأمرهما بأن يغسلا أيديهما ويأكلا، ففعلا، فأوصل من الفور بعد الأكل قفيزا لدار الشّيخ العبيدلي، وقفيزين للفقراء، ففرّقهما الشيخ، وهذا الذي فعل تبع فيه قول عيسى بن مسكين لصديقه وقد دخل عليه وهو يأكل طعاما وقال: إنّي صائم، قال: إدخالك السّرور على أخيك المسلم أفضل من صومك، ولم يأمره بقضائه، وقال عياض: وقضاؤه واجب وإنّما لم يذكره لوضوحه.
قال إبن ناجي وكان شيخنا أبو الفضل البرزلي لا يرتضيه ويحمله على نفيه كقول الشّافعي، وهذا لا يقدح في قولي (491)، كان متورّعا لأنّه لم يستعمله في نفسه.
واختلف الشّيخان الرّماح والعبيدلي هل يجوز التّخطّي حالة نزول الإمام من على المنبر في خطبة الجمعة أم لا؟ وكان الشيخ إبن عرفة يجري القولين فيها / من نقل إبن العربي قولي مالك في جواز الكلام حينئذ، وله اختلاف مع الفقهاء في مسائل غير هذه.
وللشيخ العبيدلي تأليف في الفقه أصل مستقل، وعقيدة في التّوحيد.
وتوفّي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة (492) ودفن بباب تونس، وقبره مزار مشهور.
(488) هو الشّريف القيرواني من بيت علم وفضل، الفقيه العالم القاضي العادل، (توفّي في ربيع الأوّل سنة 757/ 1356) شجرة النّور ص:224.
(489)
في ط وب وت: «الآخر» .
(490)
في ط: «كان» .
(491)
في ط: «قول» .
(492)
1347 - 1348 م.