الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرّبض وذلك بشهر جمادى الآخرة من سنة تسع / وتسعين ومائة وألف (638) وقد ناهز السّبعين سنة.
ترجمة الولي أبي الحسن علي الجراية:
ومن تلاميذ سيدي سعيد حريز الشّيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن سيدي علي الجراية.
كان في صغره من صيادي السّمك مع والده، قالت والدته: خرج مع والده على عادته لصيادة السّمك بجزيرة الكنائس بالبحر الغربي من البلد، (فلمّا نزلوا)(639) نزل الشّيخ معهم فشرعوا في نصب العمل لأخذ السّمك، فبينما هم في العمل إذ دخل الشّيخ ملججا في لجّة البحر أكثر من القدر الّذي يأخذون منه السّمك، فظهر لوالده على بعد أنّه تلقّاه رجل من البحر، فلمّا رجع جاء على حال غير الحالة التي ذهب عليها وهو كالولهان ويتكلّم بكلام لا يفهم وعلى فيه زبد كالجمل الهائج، فلمّا وصل إلى القارب التي يحمل فيها العمل (640) أراد والده إدخاله فيها فقال له شريكهم في العمل: ما لك تهدر وتحمق فعلى من تفعل هذا؟ وأظهر الكراهية والغضب على الشّيخ فانكسرت على رأسه قرية (641) القلاع فخاف ورجع عمّا صدر منه واستغفر الله وتاب، فلمّا رجعوا إلى البلد إستقبله الشّيخ سيدي سعيد حريز - رحمه الله تعالى - فأخذه معه وأدخله الخلوة فبقي عنده ما يقرب من خمسة أعوام ثمّ أخرجه وكساه جبّة خضراء، وهي في هذه الأعصار صارت شعار الصّالحين عوضا عن الخرقة شعار الصّوفية، فحمله لدار والدته فحجبه بها لمثل تلك (642) المدّة، فكانت خلوته في دار / أمّه.
وكان ملازم الصّوم والصّلاة لا يفطر إلاّ على زبيبة وقلب لوز مدّة احتجابه في خلوته، ثمّ خرج مختوما على فيه فلا يتكلّم إلاّ رمزا، فقدم رجل من أهل طرابلس يقال له محمود بن للّونة فاعتقد الشّيخ وصار يتردّد عليه وقال له: إنّي أريد الذّهاب لتونس للأمير سيدي علي باي يسرّح لي زوج مراكب قمح لأنّ بلادنا أصابها قحط فاسأل الله أن
(638) أفريل 1785 م.
(639)
ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول.
(640)
يعني أدوات الصّيد البحري.
(641)
عصا طويلة غليظة تستعمل لأغراض الملاحة.
(642)
في الأصول: «ذلك» .
يجعل لي قبولا عند الأمير ليقضي لي ما قصدته، ففتح الشّيخ يديه إلى السّماء على صورة الدّعاء إشارة إلى أنّ الله يقضي له مآربه، وقال: إن يسّر الله عليّ الأمر آتيتك بجبّة خضراء وكان جالسا على دكّة من ألواح وأخشاب، فقال: ونعطيك هذه الألواح والأخشاب يستعملونها لك تابوتا، وكان قد ابتنى له القائد أحمد أبو ديدح قبّة بالرّبض قرب تربة شيخه فذهب إبن للّونة لتونس، وحصل له ما أراد، فلمّا رجع إلى صفاقس، أعطى للشّيخ ما وعده من الجبّة واللّوح والأخشاب فصنع من ذلك تابوتا وحملوه إلى التربة، فخرج الشّيخ معهم وكذلك سيدي سعيد حريز فجاءه وجذبه من أثوابه فلم يقم، فضربه بيده خمس ضربات وهو يضحك، فكانت مدّة احتجابه الحجبة الثّالثة خمسة أعوام بعدّة الضّربات، واتّصلت حجبته بوفاته.
وكان رحمه الله خفيف الرّوح على النّفس، خفيف المؤنة، حسن الصّورة، عليه نور زائد، كثير النّظافة، يمشي بلا نعل فلا يعلق به شيء من قذر الطّريق، / وإن علق به ما ندر بادر بغسله محافظة على نزاهة الظّاهر، كما هو محافظ على نزاهة الباطن ولمّا سار الشّيخ لزيارة الصّالحين من أهل السّاحل، واستمرّ لزيارة الصّالحين بتونس، خرج أبوه في صحبته ليتولّى خدمته والقيام بشأنه، وكان أبوه فقيرا عاجزا عن الكسب، فذهب به إلى الأمير سيدي علي باي - رحمه الله تعالى -، فلمّا قدم عليه أحبّه وأقبل عليه وقال: هذا رجل عليه سيماء (643) الصّالحين فأخذه وأجلسه في حجره تبرّكا به، ثمّ سأل والده عن مطلوبه فعرّفه بضنك عيشه وقلّة ذات يده، فقال له: سل (644) تعط، فقال: تجعل لي نصيبا من زكاة الحبوب نقتاته، ولتكن زكاة أبي عرادة فقال له:
أعطيتك ذلك، فدعا بخير، ومدّ الشّيخ يده للدّعاء ونزل إلى تونس فصار أهل الخير يعطون والده ما تيسّر تبرّكا منهم بالشّيخ، فرآى الشّيخ ذلك فأشار إلى والده أن لا تأخذ شيئا وإلاّ قصمت ظهرك، فردّ على النّاس ما أعطوه، ولمّا أراد السّفر من تونس ذهب والده ليأخذ الظّهير من السّلطان فقال لهم السّلطان: اكتبوا له فإنّ الشّيخ علق حبّه بقلبي وما غاب عن بصري منذ رأيته حتّى في النّوم، فكتبوا له ورجع مجبور الخاطر بعد ما كساه هو ووالده وخديمه جبّة خضراء.
وكان الشّيخ محبّا لتلاوة كتاب الله العزيز ومحبّا لأهل الله وخصوصا حملة القرآن،
(643) في ط: «سمة» .
(644)
في ط وت: «اسأل» .