الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لابن أخيه ولم يبق مع رمضان باي إلاّ ما قلّ من النّاس، ففرّ لسوسة لقصد ركوب البحر ومعه مزهود، فتبعه القوم وصاحوا بمزهود فتمسّك ببرنس سيّده رمضان باي، فخلع رمضان البرنس وتخلّى عنه في يده وهمز فرسه وخلّفه في أيديهم، فحملوه لمراد باي على أشرّ الحالات في ثمان من رمضان سنة عشر ومائة وألف (457).
ثمّ نزل مراد باي للقيروان وبايعوه بها وبعث لسوسة أمرا بقتل عمّه فوجدوه بزاوية سيدي أبي راوي - نفعنا الله به - فخنقوه بالقلعة وقطعوا رأسه ودفنوه بها، فأمر بنبشه وإخراج رأسه / والبعث به لتونس ليطاف به في (458) الأسواق، فكانت مدّة رمضان باي ثلاثين شهرا.
مراد باي بن علي:
وبايع (459) النّاس مراد باي، فعزل محمّد خوجة الدّاي، وولّي محمّد (460) آغة الصبايحية دايا فبايعه النّاس، ولمّا دخل مراد تونس بايعه النّاس بها بيعة (461) عامّة يوم الإثنين وسنّه ثمان عشرة سنة.
وكان مراد في بداية أمره يظهر الشّكوى للنّاس من عينينه ويبدي لوائح العدل والإنصاف، فصدّقه النّاس ولاموا عمّه وهم لا يعلمون ما انطوى عليه باطنه، فلمّا تمكّن تصرّف بعنف وقساوة قلب وعسف، فسفك الدّماء بغير حقّ، وكان يوقف الرجل ويقطّعه قطعا بيده حتّى يفرغ من لحمه فيدخل يده في جوفه وأمعائه، ويتصرّف فيها تصرّف الجزّار في الشّاة، وانهمك في خموره وجاهر بمعاصيه، ولم يفارق السّلاح ليلا ولا نهارا، وكلّ من معه كذلك، فصار ذكره مفزعا للاسماع مسهلا للأمعاء، وكل يوم تزداد القلوب منه رعبا بظهور أمور لم تعهد.
(457) 11 مارس 1699 م، وفي الأصول:«سنة إحدى عشرة ومائة وألف» والتّصويب من الحلل السّندسيّة 2/ 636.
(458)
في ش وت: «على» .
(459)
في ش: «وبلغ» .
(460)
دالي محمّد آغة صبايحية الترك، وكانت ولايته يوم الأحد 23 رمضان 1110/ 25 مارس 1699 م.
(461)
في اليوم الموالي لتولية دالي محمّد دايا.
ثمّ جمع أكابر دولة عمّه ومن جملتهم مزهود فكحّل أعينهم بالنار كما تسبّبوا له في ذلك، ثمّ فقأ أعينهم وعذّبهم بما لم يعذّب به أحد، وقبل العمي (462) ألزمهم أن يلعبوا برأس عمّه بأن يتلقّفوه بين أيديهم، وألزمهم سبّه بجميع أنواع الفحش، وألزمهم يغنّون كما كانوا يغنّون لعمّه، وهو يقطع لحومهم بيده ويعبث بذلك، ثمّ نكّل بهم وثقّلهم بالأغلال، فلمّا كانت ليلة العيد قطع رؤوسهم وأمر رجاله أن يقفوا / على أهل كلّ رأس ليعطوا البشارة على موت أعداء سيّدهم مراد باي ولا ينفصلوا إلاّ بجائزة لها بال، ويفعلون ذلك بالأسواق، فجمعوا أموالا عظيمة.
وليلة ثالث العيد أظهر من القتل والخمور والفواحش ما عظم على البلاد أمره، ثمّ إنّ الحقوق ضاعت لخوف الخلق من الوقوف بين يديه، وتمادى على قبيح أفعاله وهو ينتقل من غار الملح لبنزرت إلى غير ذلك، ويقتل الخلق ذبحا ورميا بالرّصاص وغير ذلك، ثم ظفر بالأستاذ مفتي المالكية أبي عبد الله محمد العواني القيرواني (463) فقتله وأكل من لحمه مشويّا وأطعم خاصّته منه (464)، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
وضيّق الأمر على العباد وتعطّلت الأحكام الشرعيّة والأسباب، فهلكت البلاد، ثمّ توجّه لسوسة فأمر بإحضار كثير من الحطب فأوقد نارا، وأخرج عمّه من قبره وألقاه فيه، وباتت النّار يحطّم بعضها بعضا ومن الغد أمر بجمع رماد عمّه ووضعه في مركب وألقاه في وسط اليمّ كي لا يعرف له قبر (465).
وأرسل إلى الجزائر بهديّة فردّوها عليه وأظهروا له العداوة لما بلغهم من قبائح أفعاله الّتي تذهل العقول، فلمّا بلغه ذلك شرع في تجهيز محلّته الصّيفيّة واجتمعت عليه جموع لا نهاية لها، فدخل باجة ونقم على أهلها ففروا منه، فردّ العقوبة على ما وجد من دوابهم بجعلها هدفا للرّصاص حتّى أفناها.
ثمّ توجّه نحو الجريد / على طريق القيروان فخافوا شرّه لما بلغهم من جوره وما فعل بباجة، وتشوّشت بواطنهم لما يعلمون من عسفه فأعلنوا بالخروج عن طاعته، فلمّا نزل
(462) في الأصول: «العما» .
(463)
وهو شريف النّسب، وعائلة العواني من كرائم العائلات بالقيروان ومن أقدمها والمترجم ولاّه رمضان باي الفتيا بتونس.
(464)
الحلل 2/ 641.
(465)
الحلل 2/ 644.
بهم أغلقوا الأبواب دونه فقاتلهم حتّى كاد يفنيهم فاستأمنوه، فأظهر الأمن ثم نقض العهد ومسك منهم الشّيخ الإمام خطيب الجامع الأعظم أبا العباس أحمد بن إبراهيم الرمّاح، والشيخ أبا الحسن علي بن أحمد الغرياني، وحملهم أموالا عظيمة.
ثمّ استمرّ للجريد ورجع لتونس، وعقد ديوانا على السّفر للجزائر فامتثلوا أمره فأمر بتجهيز آلات الحرب وما يحتاجه من العساكر (466)، وتوجّه بذلك نحو قسنطينة ونزل بها، فخرج له أهلها وبايها علي خوجه بمحلّته واستنفر من حولها فجاء بجيش عظيم، فلمّا التقى الجمعان وقعت الهزيمة على علي خوجة سنة إثنتي عشرة ومائة وألف (467). وقتل من كان معه (468)، فأقام مراد باي على قسنطينة وحاصرها (469)، ثم أرسل لهم الأمان فلم يقبلوا لما يعلمون من عسفه وشدّة بطشه ونقمته، فاحتوى على القلعة الّتي بخارج البلد فنهبها وقتل جميع من بها، وأخذ منها ستّة مدافع نحاس فبعث بها إلى تونس، ثمّ هدّم القلعة، ثم أرسل إلى خليل، باي طرابلس (470)، مستنجدا به، فقدم عليه واجتمع معه على قسنطينة، فأكرم نزله وأعطاه فوق من كان يؤمل، وأحاطوا بالبلد من جميع جهاته، وطالت محاصرتهم له، إلى أن رفعوا عرض حالهم لعساكر الجزائر فتأهّبوا للخروج لدفع مراد باي / وجموعه عن قسنطينة وعزلوا الداي الذي كان سامعا ولم يدفع الضّرر عن رعيّته وولّوا دايا غيره، ولم يزل مراد على المحاصرة والمقاتلة إلى أن سمع بقدوم عساكر الجزائر، فتلقّاهم بعد محاصرة قسنطينة خمسة أشهر فسار ثلاثة أيّام متوالية من الزروق (471) إلى الغروب، فأتعب عسكره وانقطعوا ضجرا من السير ومع ما هم عليه ألزمهم المقاتلة رابع يوم، فأشار عليه بعض نصحائه بالإمهال لتحصيل راحة النّاس فلم يقبل، ورآى ذلك جبنا، فلمّا التقى الجمعان بالحجار الحمر كانت الهزيمة أوّلا على
(466) مع الرّغبة في أخذ ثأر والده الذي قتل في مؤامرة شارك فيها الجزائريون، راجع:
Charles Ferraud، Annales tripolitaines، p. 188.
(467)
1700 - 1701 م.
(468)
أي مع علي خوجة.
(469)
عن حصاره لقسنطينة راجع تاريخ حاضرة قسنطينة للحاج أحمد المبارك ص: 12، التذكار لإبن غلبون (ط. 1) ص:152.
(470)
هو قائد جيش طرابلس لا بايها بعد أن وافقه على ذلك محمّد الإمام داي والد زوجته. راجع عن هذه الأحداث: حوليات ليبية 1/ 317 - 318.
(471)
كلمة عامية يقصد بها طلوع الشمس.
عساكر الجزائر ففزع خليل، باي طرابلس، ففرّ بمن معه، فانثلم عسكر مراد باي، فظن النّاس أنّ مراد باي فرّ مع خليل باي وتبع الخيول بعضها، وبقيت رجالة العسكر وحدها، فعظم الأمر في الإزدحام، ولم يبق الاّ ضرب السّيوف فانهزمت عساكر مراد باي في تسعة عشر من ربيع الثّاني سنة إثنتي عشرة ومائة وألف (472)، فرجع مراد باي لتونس وظنّ أنّ أهل الجزائر يتبعونه، فاستنفر أهل الكاف بأهاليهم فأدخلهم تونس، وكذا فعل بتبرسق وتستور (473) وما حولها بلدا بلدا، وأخذ يتأهّب للقائهم، فلم تتبعه عساكر الجزائر، ولكن قطعوا رؤوس من كان معه من الزواوة (474) وغيرهم من العرب (475)، وردّوا عسكر مراد حفاة عراة بعد أن ألزموهم بجر المدافع السّتّة والعشرين الّتي استصحبها مراد باي عند خروجه من تونس عوض الخيل إلى أن وصلوا بها إلى قسنطينة على ظهورهم /.
ولمّا ورد عسكر مراد باي من قسنطينة وفّاهم مرتبهم وانتخب منهم خمسمائة نفر وكساهم كسوة عظيمة وبذل لهم من الإحسان فوق الحصر بحيث يأخذ قفة مملؤوة بأكياس الأموال ويخرج يده من طاق الصّراية ويضرب الكيس بالسّيف فينتشر ما فيه من الأموال، فيتخطّفها الرّجال وهو يضحك، ثمّ كيسا آخر وآخر فاستجلب بذلك ودّهم، وكان يأتيه الجندي بحمامة أو أرنب فيجازيه بما يكفيه مؤونة سنة، فصحّح خيله ورجاله وحصّن أبوابه وانتظر من يأتيه من عساكر الجزائر فلم يأته أحد، فلمّا تحقّق رجوعهم لوطنهم أخذ يتحدث في الرجوع إليهم.
وفي تلك الأيّام أرسل خليل باي إلى القيروان فتمّم سبيها وهتك حرمها، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأخرج من بقي بها من الرّجال فجمعهم بذراع التّمّار فاستأصل رقابهم، ورجع جند طرابلس ومعهم أبناء المسلمين من القيروان وبناتهم، وأمر مراد باي بهدم القيروان لتجعل محترثا عدا المساجد والزّوايا.
ثمّ جهّز ثلاثة مراكب ليأتوه بالعسكر من برّ الترك وأمّر عليهم إبراهيم الشّريف وكان آغة صبايحية الترك، فاتفق أن كان هناك مراكب الجزائر فالتقى الجمعان بالحضرة
(472) كذا بالحلل الّتي ينقل عنها المؤلّف 2/ 649، الموافق 2 أكتوبر 1700 وفي الإتحاف السّابع عشر منه 2/ 75 - 76 والتّحريف كثير بين سبعة وتسعة، وصاحب الإتحاف يعتمد على الحلل السّندسيّة في أخبار الدّولة المراديّة.
(473)
في ش: «تاستور» .
(474)
كذا في ب وط وت، وفي ش:«الزواودة» ، وفي الحلل:«الزواويين» 2/ 649.
(475)
في الحلل: «ومن انضاف إليهم من جنس العرب» .
الخاقانية، وعرض كلّ من الفريقين أحوالهم واشتكوا من الآخرين فخرج التّوقيع على إيجاب الصّلح بينهم، فافترقوا على ذلك، فلمّا قدموا عليه بذلك أبى قبوله وقويت عزيمته على تحريك الفتنة معهم وأنّه يقصدهم.
وفيها عزل دالي محمّد الداي / وولّى عوضه قهواجي محمّد (476)، وانفرد مراد بالأمر والنّهي في البلاد.
وفيها أمر أن لا يدخل عليه أحد من النّاس مطلقا إلاّ بعد نزع برنسه ومسك إثنين له من اليمين والشّمال، وكان يرسل خلف العلماء وأرباب المناصب ويسألهم عن سيرته فمن ساعده وزيّن له عمله وحسّن له قبايحه سقاه طوعا أو كرها شيئا من المسكرات، ومن أنكر وثبت على قدم الحقّ والصّدق هدّده بالموت.
ومن جملة عتوّه أنّه جهّز محلّته الصّيفيّة أوائل محرّم سنة أربع ومائة وألف (477)، فلمّا خرج بالمحلّة المذكورة وقع نظره على الشّيخ محمّد شيشار رئيس المؤذّنين بجامع جدّه حمّودة باشا فقال له: ألست عسكريّا؟ ما لي أراك بغير سلاح في مثل هذا الموكب؟ وأمر خدمته بوثاقه ثمّ أرسل به من الغد إلى الدّيوان فجلده ثلاثمائة سوط وردّه للسجن مع كبر سنّه وعجزه عن حمل السّلاح، ثمّ أرسل لجميع المؤذّنين بجوامع الحنفية المعدودين من جملة العسكر فسجنهم وبعث بهم إلى الديوان، وأوصل كلّ واحد منهم خمسمائة سوط، ثمّ أرسل لهم طبيبا يختبرهم فمن وجده لم يؤثّر فيه الضرب أعاده عليه فتفطّرت من ذلك الأكباد، وضجّت العباد، واقشعرّت البلاد، وربّك بالمرصاد.
فاتّفق أنّه مكر بهم يوم السّبت فما أتى السّبت الّذي يليه إلاّ ورأسه على رمح يطاف به في الأسواق، وسبب ذلك أنّه لمّا خرج بتلك المحلّة، توجّه لنحو باجة مصرّا على الإرتحال للجزائر / ولم يرتض ذلك أحد من العسكر، فلمّا نزل وادي الزّقاق جدّد ذكر عزمه للجزائر، وبيت تلك اللّيلة على الرّحلة، وركب من الغد في كرّوصته وسار على عادته إلى أن بلغ وادي الزّرقاء (478) ويسمّى وادي البول هجم عليه إبراهيم الشّريف الّذي كان وجّهه لجلب العساكر من برّ الترك فرماه ببندقية (479) زنتها أربعة وعشرون
(476) في ط وب: «محمّد الدّاي» .
(477)
أواخر ماي 1702 م.
(478)
في الأصول: «الزرقة» ، والتّصويب من الحلل 2/ 673.
(479)
في الأصول: «بندقة» .