الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجامع الكبير:
ثمّ إنّ المسجد الأعظم لمّا تطاولت الأزمنة، واستولى على البلاد الخراب من الميورقي والنّصارى وإبن كيداد (30) الخارجي، والطّاعون، والأعراب، وغير ذلك - حسبما مرّ مفصّلا - إستولى الخراب على معظم المسجد، فاختصروه بتعمير الجانب الشّرقي منه وألغوا الباقي.
فلمّا منّ الله على الخلق بدخول العساكر العثمانية أذهب عن البلاد والعباد الفساد بقطع أيدي الجور والعدوان، والبغي والشّقاق والعناد، ولا سيّما دولة سيدي حسين باي رحمه الله فعمّت البلاد، واطمأنّت العباد، فظهر فضل في غلات أوقاف المسجد (31) مع ما زاده أهل الخير من أموال وأوقاف، فاسترجع في كلّ زمان ما أمكن إرجاعه / من داثر المسجد، بل قد وجد في بعضه إحداث حوانيت ودور فاشتريت من أيدي أربابها إذ بأيديهم حجج إشتراء الأرض من أهل الجور من المستولين على البلاد، وكلّما استرجع جانب أدخل في المسجد ببناء على قدر الطّاقة في ذلك الوقت.
وكان الخطيب إذ ذاك سيدي عبد العزيز الفراتي الأكبر (32) الآتي ذكره - إن شاء الله - فقام في هذا الأمر غاية القيام مع مساعدة أهل الفضل من رجال البلد.
ولمّا وصلوا إلى آخر ما دثر وأرادوا إدخاله وجدوا أساس المسجد الأصلي فاستبشر النّاس بذلك، ثمّ إنهم لمّا فرغوا من ذلك جعلوا على بعضه سقفا من خشب وأبقوا بعضه بلا سقف على صورة الصحن، وبقيت أسطر عمد المسترجع غير مناسبة لأسطر عمد الذي كانوا أبقوه لأنّ الأصلي كان قبوا بالجير والحجر (33) فاسطواناته على قالة واحدة وأسطر إسطوانات المسترجع لمّا كان سقفه بالأخشاب، والأخشاب أقلّ من قالة القبو، بل الخشب تارة يوجد طويلا وتارة قصيرا، وبقي المسجد على غير نظام مناسب، فرغب أهل الخير في جعله على قالة واحدة بنقض بناء المسترجع، ولأنّ سقف الخشب كثر فيه القاطر وخيف عليه السّقوط، فاجتمع أهل الفضل من البلد ورأوا الصّلاح في نقض
(30) مخلد بن كيداد صاحب الحمار.
(31)
كانت له أوقاف واسعة داخل المدينة وخارجها، ويملك متحف صفاقس وثيقة في تعداد أحباس الجامع مؤرخة في 23 رجب 1251/ 14 نوفمبر 1835 والمحتسب إذ ذاك الحاج محمّد الشّعبوني.
(32)
بن محمد (1050 - 1131/ 1641 - 1719) درس بهذا الجامع بعد تخرجه من الأزهر الشّريف.
(33)
ساقطة من ط.
ذلك البناء، وجعله مناسبا للسابق، ويكون سقفه قبوا بالجير والحجر.
ولمّا وجدوا غلات الأوقاف كثيرة خافوا أن تدخل بواطن الوكلاء فتعيّن ما رأوه صلاحا، / فانتدبوا لذلك أكبر المهندسين ممّن له خبرة ونصح للمسلمين، وهما المعلّمان الأكبران أمين البناء الحاج الأبر سعيد القطيّ، والمهندس المتقن المعلّم أسطى طاهر المنيف (34)، فتقدّما للقيام بشؤون الصّنعة، وقدم للقبض والصرف الأمين علي العذار وخطيب ذلك الوقت الشّيخ سيدي حسن الشرفي - رحم الله جميعهم -.
فشرع المهندسون والفعلة في النّقض وحفر أساس الإسطوانات وتقوية ما يحتاج للتّقوية لأنّهم ربّما وجدوا موضع بعض الإسطوانات كان صهريجا أو بئرا أو مرحاضا فتتبّعوا ذلك كلّه بالحجر الصّلب والجير (35) الافراغ (36).
ولمّا أتقنوا مواضع الإسطوانات وضعوها في مواضعها مؤسّسة البنيان على قوة وإتقان، وما وجدوه من العمدان (37) السّابق غير لائق أتوا بعوضه (38) بالشّراء أو الهبة من أهل الخير. فجعل من عنده عمودا في داره مبنيا يعرضه للبناء في المسجد رغبة فيما عند الله من الأجر ولو مع أخذ الثّمن، لأنّ النّيّة الصّالحة تثبت الأجر كأمّ موسى أرضعت ولدها وأخذت أجرها، والأعمال بالنّيّات، فأكملوا بناءه على تقوى من الله ورضوان.
والفاصل بين المسترجع والذي قبله سطر العمدان الذي فيه بمكان الواحدة ثلاثة، وهو سطر أخذ من الحائط الجنوبي منتهيا لآخر المسجد.
(34) من الشّائع أنّ أسرة المنيف من أصل أندلسي، وقد اشتهر أفرادها أبا عن جد بإتقان صنعة البناء، وكانت الحكومة تختار بعضهم للقيام بمهمة أمين هذه الصنعة، وتركت لنا الوثائق المحفوظة بمتحف صفاقس، والنّقائش التي بالمعالم الأثرية عدّة أسماء، منهم زيادة على المعلّم الطاهر بن أحمد المنيف المشار إليه وابنه محمّد الذي كان بنى السقالة الدّفاعية في مقابلة مرسى المراكب.
(35)
يقصد اللّياط، ويعرف عاميا بالبغلي وهو خليط من الكلس (الجير) والرّمل بنسب معينة 3 نسب من الرمل و 2 من الجير ويقع تحضيره على طريقة خاصة. أنظر محمّد المصمودي
L' habitation traditionnelle dans la banlieue da Sfax. Cahiers des A. T. P. n° 1، 1968، p. 31.
(36)
في ط: «الافرا» .
(37)
في ط: «العمد» .
(38)
وهي عمد وتيجان أثرية من بقايا الرومان والرّوم كما نلاحظه اليوم، متناسقة مع العمدان التي بقيت قائمة في الجزء الأول من المسجد.
ونقل المحراب (39) من مكانه إلى الوسط، وفي المحراب (40) مكتوب قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ} (41) الآية، ومن تحتها مقطعة من كلام أبي الحسن الغراب وهي هذه /:
[الكامل]
ته يا صفاقس وافتخر طول المدى (42)
…
عجبا بمسجدك العديم مثاله
سيما بمحراب تكامل حسنه
…
ويزيد في نظر اللّبيب جلاله
أبدى المنيف به المعلّم طاهر
…
ما رقّ من نقش وراق جماله
حتّى تكامل قلت فيه مؤرّخا
…
محراب مسجدك انتهى اكماله (43)
وهو إثنان وسبعون ومائة وألف (44).
ثمّ بعد مدّة ضاق المسجد بأهله فطلبوا زيادة مسجد ثان بخطبة ثانية، فاستفتوا أهل العلم في ذلك فأجاز بعضهم لضرورة الضّيق، ومنع البعض تمسّكا بظاهر مشهور المذهب، فاضطرّ النّاس لزيادة في المسجد طلبا للتّوسعة، وكان في جهة الرّكن الشّمالي الغربي ميضاة يمكن الإستغناء عنها وبعض حوانيت ملك لأربابها وبعضها خلو للمسجد الأعظم، فأرضوا أصحاب الكلّ وأدخلوا الجميع في المسجد (45)، وجعلوا العمدان على قالة المسجد.
وهذه الزّيادة حائطها الشّرقي ملاصق لصحن المسجد الأصلي، ففتحوا فيه خمسة أبواب بهور وجعلوا عليها مصارع منقوشة بأبدع نقش (46)، وتاريخ الفراغ من جميع ذلك سنة ثمان وثمانين ومائة وألف (47).
(39) طمس المحراب القديم الذي كان يتوسّط الجامع ولم يعد كذلك بعد التّوسعة، وأظهرته التّرميمات الأخيرة ويرجع إلى الفترة الزّيرية.
(40)
أي المحراب الجديد.
(41)
سورة النّور: 36.
(42)
في الأصول: «المدا» .
(43)
ما تزال بالمحراب، وقراءتها به واضحة، أنظر أيضا ديوان علي الغراب الصّفاقسي: الدّار التّونسيّة للنّشر 1973 ص: 319، والتّاريخ بحساب الجمل 1171 وما أثبته مقديش هو الصّحيح.
(44)
1758 - 1759 م.
(45)
أثبتت الحفريّات الأثريّة داخل هذا الركن من المسجد صحّة قول المؤلّف إذ وقع إكتشاف آثار مباني هي بدون شك آثار الحوانيت والميضاة المشار إليها.
(46)
أضيفت إلى أبواب البهور الخمسة الّتي ببيت الصلاة الأولى، وبكلّ هذه الأبواب زخارف وكتابات منقوشة - لآيات قرآنية وأشعار وأخرى تخلّد من أذن بصنعها: وهما المفتيان عبد الرّحمان، والحاج حمّودة والقاضي عبد السّلام أحفاد الشّيخ الإمام عبد العزيز الفراتي.
(47)
1774 م.