الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام علي بن أبي طالب (321) - رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين - ولم نظفر بتاريخ وفاته لكن يؤخذ من ذكر وفاة الملك السّعيد المتقدّمة تقريب وفاته (322).
ترجمة الشّيخ أبي مدين شعيب:
ولمّا جرى ذكر أبي مدين (323) فلا بدّ من ذكر التّعريف به وبعض كلامه فنقول: أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي أصلا، البجائي مولدا ومنشأ، المشهور بالغوث، كان من أعيان مشايخ المغرب وصدور المقربين. كان سلطان تلمسان لمّا بلغه خبره وما كان فيه من الشّهرة الّتي ملأت الآفاق وصيرورته إمام الصّدّيقين في وقته بلا شقاق، أمر بإحضاره من بجاية ليتبرّك به لتعذّر وصول السّلطان إلى زيارته خوفا من اختلال أمر رعيّته، فأجاب بالسّمع والطّاعة، ثمّ قال بخفض (324) صوته: ما لنا وللسّلطان الليلة نزور الإخوان، ثمّ نزل بتلمسان واستقبل القبلة ليلة دخوله وتشهّد وقال:
ها قد جئت {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} (325)، ثمّ قال: الله الحيّ (326)، ففاضت روحه ولم يمكث في تلمسان شيئا، فمات - كما تقدّم - في حدود تسعين وخمسمائة (327) عن نحو ثمانين سنة، فدفن بتلمسان في تربة العبّاد - رحمه الله تعالى ونفعنا ورحمنا به -.
وكان رأس العارفين في زمانه، فأخذ عن الكبراء كالعارف إبن عربي وأضرابه من أهل عصره، قال الشّعراني في طبقاته (328): كان الشّيخ / أبو الحجاج الأقصري - رضي
(321) وهذا السّند في الطّريقة ذكر قريبا منه إبن قنفذ في الوفيّات ص: 58 أثناء ترجمة جدّه لأمّه يوسف بن يعقوب الملاري (ت.764 - 773) سقط من السّند أبو يعزى وجعل أبا مدين أخذ مباشرة عن إبن حرزهم.
(322)
أنظر الحقيقة التاريخية للتّصوّف الإسلامي ص: 228 ويبدو أنّه اعتمد ما قاله المؤلف في وفاته لكنّه أثبت أنّه أخذ عن أصحاب أبي مدين كأبي سعيد الباجي وعبد العزيز المهدوي والدهماني.
(323)
تكنى باسم ولده مدين وهو مدفون بمصر.
(324)
في ط: «فخفض» .
(325)
سورة طه: 84.
(326)
في ط وب: «الخبير» .
(327)
1194 م.
(328)
الطّبقات الكبرى 1/ 157 - 159 ترجمة الأقصري.
الله تعالى عنه - يقول: سمعت شيخي عبد الرّزّاق (329) يقول: إجتمعت بالخضر عليه السلام سنة ثمانين وخمسمائة (330) فسألته عن شيخنا أبي مدين، فقال: هو إمام الصّدّيقين (331) في هذا الوقت وقد أعطاه الله مفتاحا من السّرّ المصون بحجاب القدس، فما في هذا الوقت (332) أجمع لأسرار المرسلين منه، ثم إنّ أبا مدين مات بعد ذلك بيسير.
وقال الشّيخ محيي الدّين بن عربي (333) - رضي الله تعالى عنه - ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف، فلمّا مررنا على الحيّة المحدقة به سلّمنا (334) عليها فردّت علينا السّلام ثمّ قالت: من أي البلاد أنتم؟ فقلنا لها: من بجاية من أرض المغرب، فقالت: ما حال أبي (335) مدين مع أهلها؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة ويؤذونه أشد الأذى (336)، فقالت: عجبا والله لبني آدم كيف يؤذون أولياء الله؟ والله ما كنت أظنّ أنّ الله عز وجل يوالي عبدا من عبيده فيكرهه أحد (337)، إنّه (338) والله ممّن اتّخذه الله وليّا وأنزل محبّته في قلوب عباده، فقلنا لها: ومن أعلمك به؟ فقالت: أعلمني به الله عز وجل (339) اهـ.
وقد أجمعت المشايخ على تعظيمه وإجلاله، وتأدّبوا بين يديه، وكان جميلا ظريفا متواضعا زاهدا ورعا محقّقا، قد إشتمل على أكرم الأخلاق - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول: ليس للقلب إلاّ وجهة واحدة، متى توجّه إليها حجب عن غيرها، وكان
(329) قال الشّعراني: «شيخه الشّيخ عبد الرّزّاق الذي بالإسكندرية قبره، من أجلّ أصحاب سيدي الشيخ أبي مدين المغربي، وله كلام عال في الطّريق، وزاويته وضريحه بالأقصر من صعيد مصر الأعلى.
(330)
1184 - 1185 م.
(331)
هذا القول غير موجود في ترجمة أبي الحجاج الأقصري في الطّبقات، وإنّما ذكره في ترجمة أبي مدين 1/ 154.
(332)
السّاعة.
(333)
في الفتوحات.
(334)
«فقال لي البدل: سلّم عليها فإنها تردّ عليك السّلام فسلّمنا عليها» .
(335)
في ش: «ابن» .
(336)
في ش وب وت: «الأذا» .
(337)
في ت: «اخوانه» ، وفي ط:«لعباده» .
(338)
ساقطة من ط وب.
(339)
تصرّف المؤلّف في نقل كلام إبن عربي.
يقول: من خرج إلى الخلق قبل وجود حقيقة تدعوه إلى ذلك / فهو مفتون، وكلّ من رأيتموه يدّعي (340) مع الله حالة لا يكون على ظاهره منها شاهد فاحذروه، وكان يقول:
من تحقق بمقام العبودية لله عز وجل شهد أعماله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى (341) وأقواله بعين الافتراء، وكان يقول: ما وصل إلى مقام الحرية من بقي عليه من نفسه بقية، ويقول: لا تنظر إلى مشاهدتك له وانظر إلى مشاهدته لك، وكان يقول: الفقر نور ما دمت تستره، فإذا أظهرته ذهب نوره، وكان يقول: كلّ فقير كان الأخذ أحبّ إليه من العطاء فهو كاذب لم يشم رائحة الفقر، وقال: من لم يصلح لخدمته شغله بالدّنيا، ومن لم يصلح لمعرفته شغله بالآخرة، وكان يقول: من لم يخلع العذار لم ترفع له الأستار، وكان يقول: إياكم أن تتعدوا مقاما قبل احكامه فان ذلك يقطعكم عن كمال الوصول إلى حقيقته، وكان يقول: إياكم وصحبة الأحداث المبتدئين في الطّريق ولو كانوا أبناء سبعين سنة إلاّ بعد تعيّن ذلك عليكم.
ومكث - رضي الله تعالى عنه - سنة في بيته لا يخرج إلاّ للجمعة، فاجتمع النّاس على باب داره وطلبوا منه أن يتكلّم عليهم، فلمّا ألزموه خرج، فرأته العصافير التي كانت على سدرة في داره ففرت، فرجع وقال: لو صلحت للحديث عليكم لم تفرّ منّي الطّيور، فجلس في البيت سنة أخرى ثمّ جاءوا إليه فخرج، فلم تفر منه الطيور، فتكلّم على النّاس ونزلت الطّيور تضرب بأجنحتها وتصفق حتّى ماتت منها طائفة كثيرة / ومات رجل من الحاضرين.
وكان يقول: كلّ فقير لا يعرف زيادته من نقصه فليس بفقير. وكان يقول:
نسيان الحقّ تعالى طرفة عين خيانة من العبد يستحقّ بها العقوبة، وكان يقول: الحضور مع الحقّ تعالى جنّة، والغيبة عنه نار، والقرب منه لذّة، والبعد منه حسرة وموت، والأنس (342) بذكره حياة، وكان يقول: من طلب الطّريق بلا توبة (343) من سائر الآثام (344) فهو جاهل. وكان يقول: من قطع موصولا بحضرة ربه قطع به، ومن أشغل
(340) في ط وب وت: «يدعو» .
(341)
في ش وت: «الدعوا» .
(342)
في ب: «الأقس» ، وفي ط:«الانسان» .
(343)
في ط: «تبرئة» .
(344)
في ط وب: «الأنام» .
مشغولا بربّه أدركه المقت في الوقت، وكان يقول: من شرط العارف أن يتحكم فيما بين العرش والثرى.
وكان الحق تعالى أذلّ له الوحوش فإذا رآه الوحش ارتعد من هيبته، ومرّ يوما على حمار والسّبع قد أكل نصفه، وصاحب الحمار ينظر إليه من بعيد لا يستطيع أن يقرب منه، فقال لصاحب الحمار: تعال (345)، فذهب به إلى الأسد وقال له: أمسك بأذنه واستعمله مكان حمارك حتى يموت، فأخذ بأذنه فركبه وصار يستعمله سنين مكان حماره حتى مات الأسد.
وفي طبقات المناوي نقلا عن إبن عربي: ان الشّيخ أبا مدين كان يقول: من علامة صدق المريد في إرادته فراره عن الخلق، ومن علامة صدق فراره عنهم وجوده للحق، ومن علامة صدق وجوده للحق رجوعه للخلق، وهذا هو حال الوارث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإنّه كان يخلو بغار حراء وينقطع إلى الله فيه ويترك بيته وأهله ويفرّ إلى ربه حتّى فاجأه (346) / الحقّ فبعثه الله رسولا مرشدا لعباده، فهذه حالات ثلاث ورثه فيها من اعتنى الله به من أمته، ومثله يسمى وارثا، فالوارث الكامل من ورثه علما وعملا وحالا.
ورأى بعض الأولياء إبليس فقال: كيف حالك مع أبي مدين؟ فقال: ما شبّهت نفسي فيما نلقي إليه (في قلبه)(347) إلاّ كشخص بال في البحر المحيط فقيل له: لم تبول فيه؟ قال: حتّى أنجسه فلا تقع به الطّهارة، فهل رأيتم أجهل من هذا؟ فكذا أنا وقلب أبي مدين، كلما ألقيت فيه أمرا قلب عينه، وقال الخواص: كان مذهب الشّيخ تقريب الطّريق على المريدين ونقلهم إلى محلّ الفتح من غير أن يمرّ بهم على الملكوت.
ووقع له في سياحته أنّه دخل على عجوز في مغارة فأقام عندها، فجاء إبنها آخر النّهار فسلّم عليه، فقدّمت العجوز سفرة فيها صحن وخبز، فقعد الشّيخ والإبن يأكلان فقال: تمنّيت أن لو كان هذا كذا، فقال له: سمّ الله وكل ما تمنّيت، فلم يزل يعدّد الفتى وهو يقول مقالته الأولى واللون الواحد ينقلب ألوانا كثيرة، ويجد طعم (348) ما تمنّى.
وكان إذا خطر له خاطر في نفسه وجد جوابه مكتوبا في ثوبه الذي عليه، فخطر
(345) في الأصول: «تعالى» .
(346)
في الأصول: «فجاه» .
(347)
ساقطة من ش.
(348)
ساقطة من ط.
له يوما أن يطلّق امرأته وكان بحضور العارف أبي العبّاس، فرأى مخطوطا في ثوب الشّيخ:
أمسك عليك زوجك.
قال إبن عربي: شيخنا أبو مدين (349) من الثمانية عشر نفسا الظّاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله من الأكوان، وهم أهل علانية وجهر / مثبتون للأسباب وخرق العوائد عندهم عبادة، قل الله ثم ذرهم، قال: وكان يقول لأصحابه: أظهروا للنّاس ما عندكم من الموافقة يظهر (350) للنّاس بالمخالفة، وأظهروا مما أعطاكم الله من نعمه الظاهرة والباطنة، يعني (351) خرق العوائد والمعارف، فإنه تعالى يقول {وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (352) وهذه الطّائفة اختصت باسم الظّهور لكونهم ظهروا في عالم الشّهادة.
وقال في موضع آخر: شيخنا أبو مدين الغالب على قلبه وبصره مشاهدة الحق في كل شيء، فكل حال عنده أعمال فيعلن بالصدقة كما يذكر في الملأ، فان من ذكره في الملأ فقد ذكره في نفسه، فان ذكر النفس متقدم بلا شك، وما كل من ذكره في نفسه ذكره في الملأ فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي لها مرتبة تفوق صاحب ذكر النفس، فان ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالين فهو سر بكل وجه، فصدقة الاعلان تؤذن بالاقتدار الإلاهي، فمن يخفيها أو يسرّها فهو الظاهر في المظاهر الإمكانية، فهذه كانت طريقة شيخنا.
وكان يقول: قل الله ثمّ ذرهم أغير الله تدعون (353) قال: وكان يقول لأصحابه:
أعلنوا بالطاعة حتّى تكون كلمة الله هي العليا كما يعلن هؤلاء بالمعاصي ولا يستحيون من الله. وكان يقول في قوله تعالى {فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (354)، فإذا فرغت من الأكوان فانصب قلبك لمشاهدة الرّحمان، وإلى ربك فارغب في الدّوام،
(349) بعدها في ط وب وت: «رضي الله عنه» .
(350)
في ط: «ينظر» .
(351)
في ط: «ففي» .
(352)
سورة الضحى: 11.
(353)
إقتباس من الآية 40 من سورة الأنعام.
(354)
سورة الشّرح: 7 - 8.