الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحاله، فقال:{لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (580)، فاستشفع به لسلطان طرابلس في إرساله زوجه له، فقبل شفاعته وأرسلها له مع جدّها فاستقرّت به الدّار، وجعل له سيدي إبراهيم مرتّبا من الباشا رحمه الله ليقرئ دروسا (581) بجامع الغرباء من جربة، ويقدّم للطّلبة حسبما مرّ آنفا، فانتظم حاله واستقامت أيّامه وبذل مهجته في العلم غاية البذل، وترك الدّنيا وما عليه أهلها، وكانت سنين مخصبة في أمن وعافية.
وفي سنة سبع وستّين ومائة وألف (582) كانت قراءتنا المختصر على شيخنا سيدي إبراهيم وشيخنا سيدي أحمد بن عبد الصّادق، وكان للشّيخ سيدي أحمد قوّة غوص على غوامض الفقه وحلّ عقد مشكله لقوّة حفظه ونقله وتفريغ سرّه، فاستفدنا منه خيرا كثيرا، وامتحنه أبناء جلود / كما امتحنوا سيدي إبراهيم إلاّ أنه لم يقدر على الفرار بنفسه فأشخصوه مقيّدا فحصل لنا من الغمّ ما لا يعلمه إلاّ الله. ولمّا وصل لتونس تلقّاه أبو عبد الله الشّيخ أبو عتّور فشفع له عند السّلطان فشفّعه فيه وأعطاه مدرسة ببير الحجار من تونس الذي استجدّها الباشا رحمه الله وجعل له بها مرتبا يكفيه مؤنة عياله فرجع إلينا مسرورا مجبورا، ودخل جربة فاستخرج أهله وقدم علينا بهم في أمن وسلامة، فأنزلناهم بسيدي علي عبد النّاظر واكترينا لهم إبلا وبغالا وركبنا معهم لتونس، فحصل لنا بسفرنا معهم أنس وسرور حتّى أوصلناه تونس، فنزل بدار قرب المدرسة وودّعناه وسافرنا، فأقام بها إلى أن حضرت منيّته سنة نيف وتسعين ومائة وألف (583) - رحمه الله تعالى -.
ترجمة الشّيخ علي بن الشّاهد المنيي:
ومن أجلّ من أخذ عن الشّيخ سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني شيخنا سيدي علي ابن الشّاهد المنيي - رحمه الله تعالى - كان بإفريقية أشهر من نار (584) على علم لأنّه طالت مدّته، وطارت فتاويه بها شرقا وغربا، وكان مسدّدا في فتاويه لا يتوقّف في
(580) إقتباس من الآية 25 سورة القصص.
(581)
كذا في ت، وفي ش وب:«دارسا» ، وفي ط:«درسا» .
(582)
1753 - 1754 م.
(583)
بعد سنة 1776 بقليل. أنظر شجرة النّور الزّكيّة 351.
(584)
في الأصول: «منار» .
الفتوى لأنّه أحضر موادها، وجعل على النّوازل قطع ورق علامة عليها، فإذا أتى السّائل يضع يده على الكتاب الذي يعلم فيه نازلته، ويفتح مظنتها (585) فيجد كأنّه وضع العلامة بعد السّؤال، ولا يكتب جواب السّائل حتّى يقرأه عليه، فإذا فرغ من كتب الجواب ناوله السّائل ما تيسّر فيأخذه ويضعه تحت / جلد هو جالس عليه، وهكذا يفعل مع كلّ سائل، فإذا فرغ النّاس من أسئلتهم أتاه قريبه فيعطيه ما حضر فيأخذ ما يحتاجه من حطب وخضرة وزيت وفاكهة، ولحم إن فضل شيء للحم، فيضع ذلك على حمارة ويرجع لأهله. هذا شأنه رحمه الله فكان متقلّلا من الدّنيا لا يأخذ منها إلاّ قدر الحاجة، ولمّا مات أعان أهل الفضل على كفنه.
وكان تفقّه على الشّيخ الصّالح سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني فتقدّم على أقرانه، واتّفق أنّ الشّيخ كان يوما في درسه فدخل إباضي (586) يسأل ويقول: إنّكم معشر الأشعرية لا تكفّرون بالذّنب وتقولون بالشّفاعة للمذنبين مع أنّ إبليس أبلسه الله من رحمته، وختم عليه الشقاوة والخلود في النّار، ولم تقع منه إلاّ معصية واحدة هي عدم السّجود لآدم، فكيف بمن وقع في محرمات لا تحصى وفظائع لا تستقصى؟ وكان الشّيخ رحمه الله مشغولا بتقرير مسألة فالتفت وقال: ما لهذا الرّجل؟ قالوا: هو يسأل عن كذا وكذا، فقال: من يجيبه منكم؟ فقال الشّيخ صاحب التّرجمة: أنا أجيبه بما نصّ عليه إبن عرفة - رحمه الله تعالى -: إنّ كفره وإبلاسه ليس من عدم السّجود بل من نسبة الباري - جلّ ثناؤه - لعدم الحكمة وتجويره وتخطئته في حكمه لأنّه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (587){لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (588)، ثمّ توعد بوقاحة ومعارضته لأحكام الحكيم العليم / فقال {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً} (589) إلى غير ذلك ممّا يدلّ على سوء أدبه مع الله، فقال: أجبه بذلك وأنت مفتي إفريقية، فكان غاية في فتواه.
وأخذ عنه خلائق لا تحصى، وأخذنا عنه «كشف الأستار عن علم حروف الغبار» تأليف الشّيخ أبي الحسن علي القلصادي - رحمه الله تعالى - فلمّا أكملنا الجزءين
(585) في ط وت: «فطنتها» .
(586)
في الأصول: «وهبي» .
(587)
سورة ص: 76.
(588)
سورة الحجر: 33.
(589)
سورة الإسراء: 62.