الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرّابع
في ذكر بعض أهل الخير والصّلاح من العلماء والأولياء المتقدّمين بصفاقس ووطنها
مفهوم الولي والكرامة:
إعلم أوّلا أنّ الله - جلّ ثناؤه - أرسل المرسلين رحمة للعالمين ولئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة، فيرسل بعد كلّ فترة رسولا يوقظ الخلق من سنة الغفلة (1) ويسوقهم لما خلقهم لأجله من نيل كراماته (2) في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ثمّ ختم الرّسالة بخيرة خلقه محمّد صلى الله عليه وسلم فجعل شرّ كلّ مائة (3) في آخرها فيضعف حملة الدّين إمّا بموت أو ظلم أو جور أو غير ذلك، وجعل على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها من العلماء والأولياء، فكانوا ورثة نبيهم (4) فلذا كانوا كأنبياء بني إسرائيل (5).
قال أبو عبد الله المغربي (6): «تقع في كلّ مائة سنة فترة، وتموت العلماء والحكماء ثمّ يبعث الله في هذه الأمّة على عدد الأنبياء قوما يذكّرون الخلق (7) ويردّونهم إلى الحقّ، فهم أنباء الزّمان» ، ذكره في معالم الإيمان (8) في ترجمة أبي عبد الله المغربي، فلهذا تعرّضنا لذكر شيء من العلماء والصّالحين ممّن حمل هذا الدّين في هذه البلاد (9)، ولكلّ بلاد حملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«يحمل هذا الدّين من كلّ خلف عدوّ له ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حملة هذا الدّين بصفتهم، فمن وجدت فيه العلامة فهو منهم.
(1) في ط: «العقبة» .
(2)
في ط: «نيل كرامته» .
(3)
في ش: «غير واضحة» .
(4)
إقتباس من الحديث الشّريف: «العلماء ورثة الأنبياء» .
(5)
إقتباس من حديث لم يصحّ: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» .
(6)
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي.
(7)
في معالم الإيمان: «يذكرونهم» .
(8)
2/ 286.
(9)
يقصد صفاقس.
ولمّا كان ذكر الأولياء (10) مستلزما / لذكر شيء من كراماتهم، دعت الضّرورة إلى ذكر مقدّمة مشتملة على بيان حقيقة الكرامة وجوازها وما قال النّاس في ذلك ليكون الواقف على ذكر شيء منها على بصيرة من أمره، فلا يسيء الأدب مع أولياء الله وإلاّ وقع في العطب من بعض الأولياء سيما من يعاصره، (وقد قيل)(11) إعتقد ولا تنتقد (12) فمن إعتقد سلم، ومن إنتقد ندم. فنقول في حدّها: هي أمر خارق للعادة يظهر على يد الولي مقرون بالطّاعة والعرفان بلا دعوى (13) نبوة، فخرج بقيد خرق العادة العاديات ولو قلّ وقوعها كالخسوفات، وبقيد الإقتران بالطّاعة والعرفان السّحر والكهانة لأنّهما كفر، والشعوذة لأنّها امّا من قبيل السّحر فهو كافر، أو غيره شبيه به فهو فسق (14) والإستدراج لعدم الطّاعة وبلا دعوى (13) نبوة المعجزة فإنها مقرونة بدعوى (13) النبوة وتكون الدّلالة على صدق الولي وفضله، أو لقوّة يقين صاحبها أو غيره، وحكمها الجواز والوقوع
(10) التّصوّف إنتقل على مرّ الزّمن من علاقة روحية بين الإنسان وربّه واتخاذ موقف معيّن من الحياة إلى ظاهرة إجتماعية طرقية، وانفتح هذا الميدان الدّيني الرّوحي الذي كان خاصا بالعلماء إلى شتّى أنواع النّاس حتّى العامّة والأميين، وعرف هؤلاء بالفقراء، «وكثر الأولياء والأدعياء ونسبت إليهم الكثير من الكرامات والخوارق ومعرفة علوم الظاهر والباطن، واختلط الأمر بين الأحياء والأموات. . . وكثرت المزارات. . . وخصّصت لذكرها الكتب والرسائل، وقد أصبح بعضها حرما آمنا وملاذا للمجرمين والهاربين من السّلطة وضاقت الفروق في اللهجة أو زالت بين مفردات الولي والدّرويش والمرابط. . . وسيطر التّصوّف في العصر الحديث على الحياة العقلية سيطرة بالغة وكثرت ألوان الأدب الصّوفي في مؤلّفات الطّبقات والمناقب والسّلاسل والأوراد والأحزاب والوظائف والمرائي وشروحها كما تعدّدت ألقاب السّلّم الصّوفي من نحو القطب والأوتاد والأبرار والنّقباء والنّجباء والأبدال. . . ومن المتصوّفة من كان في حياته صادق التّصوّف ولكنّ النّاس بعد مماته جعلوا منه وليّا ونسبوا إليه ما لم يدّع. . . وكما مارس رجال الطّرق الصّوفية نفوذا واسعا على النّاس فقد أتيح لهم كذلك - أحياء وأمواتا - نفوذ وسلطان على الحكّام وكانوا الوسطاء بينهم وبين الشعب، وقد تحالف العثمانيون مع بعض الطّرق الصّوفية في سبيل هذه الغاية» . فتمتّعوا بامتيازات مختلفة وقد تأثّر محمود مقديش بهذه المفاهيم كما سنلاحظه ممّا سيأتي من كلامه عن الصّوفيين والأولياء وكراماتهم في تحمّس عقائدي نستغربه من تلميذ تلاميذ الشّيخ علي النوري الصّفاقسي، الذي كان صوفيا، ولكنّه من الصّوفيين السّنيّين الصّادقين أفزعه ما آلت إليه النّزعة الصّوفية من إنحطاط فقاومها بإحياء طقوس السّنّة، وحذّر من إستعمال حلقات الذّكر والسّماع بآلات الطّرب والمنبّهات، ومنع بناء قبة على قبره حتّى لا تجعل العامّة منه وليّا.
(11)
ما بين القوسين ساقط من ط.
(12)
هذا مما تسرّب من المسيحية وإلاّ فالقاعدة الإسلامية الصّحيحة: «إنتقد قبل أن تعتقد» لأنّ الإعتقاد لا يكون إلاّ بعد النّظر والدّليل وإقتناع العقل.
(13)
في ش: «دعوا» .
(14)
في ش: «فسوق» .
عند أهل السنة ولو بقصد الولي على الأصحّ، وإن كان الغالب خلافه، ومن جنس المعجزات من الخوارق على الصّواب لشمول القدرة الإلاهية، لأنّ وجود الممكنات مستند إلى قدرته تعالى الشّاملة لكلّها فلا يمتنع شيء منها على قدرته تعالى ولا يجب.
ولا ريب أنّ الكرامة أثر ممكن إذ لا يلزم على فرض وقوعه محال لذاته، فهي جائزة وواقعة حسبما نطق به القرآن والحديث النبوي. أمّا القرآن فكقصّة أصحاب الكهف حيث / أقاموا فيه ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولا غذاء وليسوا بأنبياء بإجماع الفرق، وكقصّة مريم عليها السلام حملت بلا ذكر، ووجد عندها زكرياء رزقا بلا سبب، وتساقط عليها الرّطب من نخلة يابسة بلا موجب، وكقصّة آصف (15) حيث أحضر عرش بلقيس من مسافة بعيدة (16) في طرفة عين، وليست كرامة مريم معجزة لزكرياء، ولا إرهاصا (17) لعيسى عليهما السلام لأنّ المعجزة لا بدّ أن تكون مقصودة مقرونة بدعوى النبوّة تحقيقا ليدل على صدق مدّعي الرّسالة، ولا كذلك قصّة مريم إذ زكرياء لا علم له بها ولا بسببها فلذا سأل وإلاّ لما سأل بقوله:{أَنّى لَكِ هذا} (18)، ولو كانت إرهاصا لما علمت (19) مريم من أين حصل ذلك لها، ولا أجابت بقولها:{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} (20)، وأيضا فإن الخوارق إنّما سيقت في الآيات لتعظيم حال مريم، ولا ذكر فيها لزكرياء ولا لعيسى بالقصد، وليست قصّة آصف معجزة لسليمان إذ لم تقع على يده بل على يد آصف، نعم قيل إن المراد بالذي عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام فلا دليل حينئذ في الآية.
وأمّا المنّة (21) فلحديث جريج الرّاهب الذي كلّمه الصّبي في المهد، حيث قال له: يا غلام من أبوك؟ فقال: الرّاعي الذي زنى بأمّه ممّا هو مذكور في الصّحيحين (22)
(15) هو إبن برخيا.
(16)
من اليمن إلى القدس بطلب من سيّدنا سليمان النّبي الملك - ص: -.
(17)
هو الأمر الخارق للعادة الذي يظهر قبل النبيء.
(18)
سورة آل عمران: 37.
(19)
ساقطة من ش.
(20)
سورة آل عمران: 37.
(21)
في بقية الأصول: «السنة» .
(22)
عن أبي هريرة في ذكر الأطفال الذين تكلّموا في المهد، وهو حديث طويل، وصاحب جريح ترتيبه الثّاني في الحديث.
وكحديث الثّلاثة (23) الذين دخلوا لغار في جبل فوقعت (24) على فم الغار صخرة فانطبق عليهم، وذكر كل واحد منهم ما أنعم الله عليه به من طاعته، وتوسّل إلى الله بذلك، فانفرجت عنهم / وأنكرها المعتزلة والحليمي (25) بصيغة الكبر من الكرامية أتباع محمّد بن كرام (26) وهم محجوجون بما سبق من أدلّة العقل والنّقل ولا تظهر على يد الفسقة الفجرة باتّفاق القائلين بثبوتها فلا تقع إلاّ على يد الأتقياء البررة التّابعين للرّسل، وبذلك فارقت السّحر الواقع على (يد الكفرة كاليهود، والكهانة الواقعة على يد المتنبّي كمسيلمة، والإبتلاء الواقع على [يد] مدّعي الألوهية كالدّجّال (27) لكفرهم) (28) وكذا الشّعبذة إذ المتّقي يتنزّه عن فعلها، وكذا المعجزة إذ الرّسول مستقلّ بأمره، وإن أمر بشرع من قبله فهو متّبع لما أمر به لا للرسول الذي كلف بشرعه بخلاف الولي فإنه منقاد للرّسول. وقول القاضي أبي بكر الباقلاني (29): يجوز ظهور الخارق على يد الفاسق إستدراجا وعلى يد الرهبان وأهل الصّوامع مع أنّهم مقيمون على الكفر، فقال إمام الحرمين (30): هذه ليست كرامة، فإن الخارق أعمّ، نعم تظهر الكرامة على يد غير التّقي فتخرجه من الضّلال إلى الهدى والتّقوى، وتسمّى إعانة كما تسمى كرامة، كأهل الكهف حيث أنقذهم الله من ملّة آبائهم إلى الهدى والإيمان.
(23) حديث أصحاب الغار مخرج في الصّحيحين عن عبد الله بن عمر وهو حديث طويل.
(24)
في الأصول: «فوقع» .
(25)
الحليمي أشعري ليس من الكرامية، وهو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني، أبو عبد الله، فقيه شافعي قاض كان رئيس أهل الحديث فيما وراء النهر، مولده في جرجان (338/ 950) ووفاته في بخارى (403/ 1012) له منهاج في شعب الإيمان (خط) رأيت منه مجلدا ضخما في المكتبة النورية التي نقلت إلى المكتبة الوطنية بتونس، قال الأستوي: جمع فيه أحكاما كثيرة ومعاني غريبة أظفر بكثير منها في عسر، أنظر: الإعلام 2/ 234.
(26)
إبن كرام - بكسر الكاف - أو كرام بتشديد الراء، وهو محمد بن كرام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السخري إمام الكرامية من فرق الإبتداع في الإسلام، كان يقول بأنّ الله تعالى مستقرّ على العرش، وأنّه جوهر، فهو من المجمعة، ولد في سجستان وجاور بمكة خمس سنين، وورد نيسابور، فحبسه طاهر بن عبد الله ثمّ انصرف إلى الشّام وعاد إلى نيسابور فحبسه محمد بن طاهر، وخرج منها سنة 251/ 865 إلى القدس فمات بها سنة 255/ 869 الاعلام 7/ 14 (ط.5).
(27)
هو المسيح الذي ينتظره اليهود وهو عندهم من نسل داود - ص: - يعيد لهم ملكهم بفلسطين.
(28)
ما بين القوسين في مكانه في ط وت وب: «مدعى الألوهية كالدجال لكفره» .
(29)
هو سيف أهل السّنّة.
(30)
هو عبد الملك بن يوسف الجويني الشّافعي من أئمة أهل السّنّة ومن نظّارهم من شيوخ الإمام الغزالي.
ولا تشتبه المعجزة بالكرامة في أعصارنا هذه إذ لا نبي بعد نبيّنا عليه الصلاة والسلام ومن أظهر خارقا مدّعيا للرّسالة قطعنا بكفره وسمّينا ما وقع على يده كهانة كمسيلمة الكذّاب وإن لم يدّع رسالة فهو إمّا سحر أو كهانة أو إستدراج على ما مرّ.
وقد ظهرت الكرامة على يد الخيرة / من هذه الأمّة:
فمنها ما ظهر على يد الصّدّيق - رضي الله تعالى عنه - من إخباره في مرض موته بمولود يولد له انثى، وتكثير الطعام القليل فأكل هو وأضيافه من قصعة صغيرة حتى شبعوا وصار ما فيها أكثر ممّا قبله.
ومنها ما ظهر على يد عمر - رضي الله تعالى عنه - من مخاطبته - وهو على منبر الرّسول - لسارية أمير جيشه وهو بنهاوند بقوله: يا سارية، الجبل، تحذيرا له ولمن معه من كمين المشركين في الجبل، فسمع سارية وجيشه صوته فحذروا (31) ونجوا، وجرى النّيل بكتابه لمّا كانت عادة أهل مصر أن يلقوا فيه أوان الزيادة بكرا، ونهاهم عن ذلك فوقف ولم يزد حتى أشفوا على الجلاء، فكتب للنّيل كتابا فيه: إن كنت تجري من قبلك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأله تعالى ذلك، وألقى فيه الكتاب فزاد فورا، وكذا ضربه الأرض بدرته، بكسر الدال، عصاة، لما ارتجّت (32) وقال: قرّي (33)، ألم أعدل عليك؟ فقرّت وسكنت؛ وكذا حبسه للنار التي كانت تخرج من الجبل فتحرق ما أصابت فخرجت في زمنه فأمر أبا موسى (34) أو تميما (35) فجعل يسوقها بردائه حتى دخلت الكهف فلم تعد بعد ذلك، وكذا ردّه لطائفة من الجيش مرة بعد أخرى لما عرضوا عليه، فتبين بعد موته أن منهم قاتل عثمان - رضي الله تعالى عنه -.
ومنها قول عثمان - رضي الله تعالى عنه - لرجل لقي إمرأة في الطّريق فقابلها بشهوة: أيدخل عليّ أحدكم وفي عينيه أثر الزّنا؟.
ومنها قول إبن عمر لأسد / قطع الطّريق على قافلة هو فيها: تنحّ، فبصبص بذنبه وذهب.
(31) في الأصول: «فاحتذروا» .
(32)
في ط: «ارتحل» .
(33)
في الأصول: «أقرى» .
(34)
هو الأشعري صحابي جليل.
(35)
هو الداري، صحابي، كان نصرانيا.
ومنها مشي العلا الحضرمي على الماء هو وجيشه لما كان في غزوة وحال بينه وبين مقصده البحر، وكذا دعاؤه أن لا يرى أحد جسده إذا مات فلم يجدوه في اللّحد.
ومنها مشي جعفر إبن أبي طالب في الهواء (36).
ومنها تسبيح القصعة بما فيها بين يدي سلمان وأبي الدرداء.
ومنها سماع عمران بن حصين تسبيح الملائكة إلى أن إكتوى.
ومنها شرب خالد بن الوليد السّمّ فلم يضرّه.
ومنها إضاءة السّوط كالمصباح بين يدي أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر لمّا خرجوا من عند المصطفى صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة.
ومنها إيتان العنب لحبيب بن عدي وهو أسير عند مشركي مكّة فيأكل منه وليس بمكّة إذ ذاك عنبة واحدة.
ومنها عروض الأسد لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنا مولى رسول الله فمشى حتّى أوصله قصده.
ومنها إبرار قسم البراء بن عازب حالا إذ أقسم على الله.
ومنها عمي أروى بدعاء سعيد بن يزيد عليه بذلك لمّا كذب عليه.
ومنها طلب الأسود العبسي أبا مسلم الخولاني لمّا ادعى النبؤة فقال: أتشهد (37) أنّي رسول الله؟ فقال: لا، فقال: أتشهد (37) أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلّي وقد صارت عليه بردا وسلاما، فكان عمر بن الخطاب يقول: الحمد لله الذي لم يمتني حتّى رأيت من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم / من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.
ومنها أخذ عامر بن عبد قيس عطاءه في كمه فلا يجد سائلا إلاّ أعطاه بلا عدد، فلمّا رجع إلى بيته وجد الدّراهم كلّها كاملة العدد، إلى غير ذلك ممّا لا حصر له ولا حدّ.
واستمرّت الكرامة وهي وإن ظهرت على يد غير الصّحابة ولم تظهر على يد بعض الصّحابة لا تقتضي أفضلية غيرهم عليهم إذ المزية لا تقتضي أفضلية. قال الإمام أحمد ابن حنبل - رضي الله تعالى عنه - إنما كانت الكرامات بعد زمن الصّحابة لأنّ قوة إيمان
(36) في ش: «الهوى» .
(37)
في ط وت: «اشهد» .
الصّحابة لا يحتاج معها إلى الكرامة، ولأنّ الزمن الأول كان كثير النور فلو (38) حصلت لم تظهر كلّ الظهور لاضمحلالها في نور النبوّة بخلاف من بعدهم، ألا يرى أنّ القنديل لا يظهر نوره في القناديل بخلافه في الظلام، والنّجوم لا يظهر لها نور مع نور الشّمس.
قال الشّيخ عبد الرؤوف المناوي في طبقاته: قال السّبكي: إنّي لأعجب كلّ العجب من منكر الكرامة، وأخشى عليه المقت، ويزداد تعجّبي من نسبة إنكارها إلى الأستاذ الأسفرائيني (39) وهو من أساطين السّنّة والجماعة على أنّ نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب، والذي ذكره الرّجل في كتبه أنّها لا تبلغ مبلغ خرق العادة، وقال:
كلّما كان معجزة لنبيء لا يجوز مثله كرامة لولي، وإنما غاية الكرامة إجابة دعوة أو شربة ماء في مفازة أو كسرة في منقطعة وما يضاهي ذلك، وجرى على نحوه القشيري فقال: إن الكرامة لا تنتهي إلى وجود إبن بغير أب، وقلب جماد بهيمة، لكنّ الجمهور على الإطلاق / وقد أنكروا التفصيل على قائله حتّى ولده أبو نصر في الرّشد، وإمام الحرمين في الإرشاد، وقال: إنه مذهب متروك، وبالغ النووي فقال: إنه غلط وإنكار للحسّ، وإن الصّواب (40) وقوعها بقلب الأعيان ونحوه.
وقد عدّ بعض الأئمة الأنواع الواقعة من الكرامات عشرين، وهي أكثر بكثير.
النّوع الأوّل: إحياء الموتى وهو أعلاها، فمن ذلك أنّ أبي عبيد البسري غزا (41) ومعه دابّة فماتت، فسأل الله تعالى أن يحييها حتى يرجع إلى بلده، فقامت تنفض أذنيها، فلمّا بلغ بلده سقطت ميّتة.
ومنها أنّ مفرجا الدماميني الصّعيدي أحضر له فراخ مشويّة، فقال لها: طيري بإذن الله تعالى فطارت.
وكان للشّيخ الأهدل هرّة فضربها خادمه فماتت فرماها فسأله الشّيخ عنها بعد ثلاثة أيّام، فقال: لا أدري، فناداها فجاءت تجري.
ووضع الكيلاني يده على عظام دجاجة أكلها وقال: قومي بإذن الله الذي يحيي العظام، فقامت.
(38) كذا في ش، وفي بقية الأصول:«فلما» .
(39)
في ط وت: «الاسفراني» .
(40)
في ت وط: «والصواب» .
(41)
في ش: «غزى» .
ومات لتلميذ أبي يوسف الدّهماني ولد فجزع عليه، فقال الشّيخ: قم بإذن الله فقام وعاش طويلا، وسقط من سطح القاري (42) طفل فمات فدعا الله فأحياه.
النّوع الثّاني: كلام الموتى وهو أكثر مما قبله بكثير، ووقع ذلك للجيلاني ولجماعة أخرى منهم بعض مشايخ السّبكي، وقال: كان جدّنا يخاطب الإمام الشّافعي فيكلّمه من قبره.
النّوع الثّالث: إنفلاق البحر وجفافه والمشي عليه، وذلك كثير، وممّن وقع له ذلك إبن دقيق العيد.
الرّابع إنقلاب الأعيان: ومنه ما نقل عن المختار / اليمني أنّه أرسل إليه بعض المستهزئين بإنائين من خمر فصبّ من أحدهما عسلا ومن الآخر سمنا وأطعم الحاضرين.
الخامس: إنطواء (43) الأرض لهم، حكوا أنّ بعضهم كان بجامع طرسوس فاشتاق إلى زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثمّ أدخلها في الحرم. والقدر المشترك في هذا بالغ مبلغ التواثر، ولا ينكره إلاّ مباهت (44).
السّادس: كلام الحيوان والجماد، ولا شك في كثرته، ومنه أنّ إبن أدهم قعد تحت شجرة رمّان، فقالت: يا أبا إسحاق أكرمني بأكلك منّي فأكل منها، وكان رمّانها حامضا فحلى، وحملت في العام مرتين، وسمّيت رمّانة العابدين.
وأراد الشبلي أن يأكل من شجرة فلمّا مدّ يده قالت: لا تأكل منّي فأنا اليهودي.
وجاء العمدلي (45) رجلان يختصمان في بقرة، وكان قاضيا بالصّعيد، فأقام كلّ منهما بيّنة أنّها له، فقالت له: أنا لفلان.
قال ومن ذلك أنّ جدنا (46) الشرف المناوي زار الشرف الأنصاري وجلس معه بمنطرة (47) بيته ببولاق فشكى إليه كثرة زرق (48) الطّيور على الكتب والفرش، فرفع رأسه إليها وقال: يا أيّها الطّيور لا تحوموا حول هذا الحمى إلاّ بخير، فلم تعد بعد ذلك.
(42) في ش: «الغارفي» ، وفي ط:«الغار بطبل» .
(43)
في ش: «انزواء» .
(44)
في ت: «مناهب» في ش: «مباهب» وفي ط: «متاعب» .
(45)
في ط وت: «الغمرلي» .
(46)
في ط: «خبرنا» .
(47)
في ط: «بنظره» .
(48)
في ط: «زق» وهي المعنى العامّي لزرق. وزرق الطّائر رمى بما في جوفه.
السّابع: إبراء العليل كما روي أنّ الجيلاني قال لصبّي مقعد مفلوج أعمى: قم بإذن الله تعالى، فقام لا عاهة به.
الثّامن: طاعة الحيوان لهم، كما حكي أنّ اليمني وغيره كان يركب الأسد، بل وطاعة الجماد كما في قول إبن عبد السّلام في واقعة الافرنج: يا ريح خذيهم، فأخذتهم.
التّاسع والعاشر والحادي عشر: طي الزّمان ونشره وإجابة الدّعاء وذلك كثير.
الثاني عشر: / إخبارهم (49) ببعض المغيّبات والكشف وهو درجات تخرج عن حدّ الحصر، وذلك موجود الآن بكثرة (50) ولا يعارضه قوله تعالى {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ} (51) لأنّا لا نسلّم عموم الغيب فيجوز أن يخص بحال القيامة بقرينة السّياق.
الثّالث عشر: الصّبر على عدم الطّعام والشّراب الأمد الطّويل وهو كثير مشاهد.
الرّابع عشر: مقام التّصريف وهو كثير في كلّ زمن ولا ينكره إلاّ المعاند.
الخامس عشر: القدرة على تناول الكثير من الطّعام كما نقل عن الشّيخ دمرداش أنّ بعض الامراء عمل له وليمة ودعاه وجماعته، فتوجّه إليه وحده فتشوّش لعدم حضور الفقراء وقال: من يأكل الطّعام؟ فمدّ السّماط فأكله الشّيخ كلّه.
السادس عشر: الحفظ عن الحرام أن يدخل الجوف كما حكي عن الحارث المحاسبي أنّه كان إذا أحضر له طعام فيه شبهة تحرّك فيه عرق، وكان المرسي (52) يتحرّك منه كلّ عرق.
السّابع عشر: رؤية الأماكن البعيدة من وراء الحجاب، فمن ذلك أنّ الشّيخ أبا إسحاق الشيرازي (53) كان يشاهد الكعبة وهو ببغداد.
الثّامن عشر: الهيبة التي لبعضهم بحيث مات من شاهده عند رؤيته كما وقع لأبي يزيد البسطامي مع بعض الفقراء، ووقع للشّيخ أحمد البدوي وغيره.
التّاسع عشر: قصم الله من يريدهم بشر، كما وقع لبعضهم أنّه زاحم رجلا
(49) كذا في ط، وفي بقية الأصول:«اخباره» .
(50)
ساقطة من ط وت.
(51)
سورة الجن: 26 - 27.
(52)
هو أبو العبّاس المرسي دفين الإسكندرية من أصحاب أبي الحسن الشاذلي.
(53)
هو إبراهيم.
فضربه على وجهه فطارت يده مع الضربة فأبصره رجل فشدّد النّكير عليه وقال له: كف كف إنّ هذا لشيء عظيم، فقال: والله ما أردته / وإنما ربّ الجثّة غار عليها.
العشرون: التّطور بأطوار مختلفة وأشكال متباينة ومنه ما وقع لقضيب البان الموصلي أنّ فقيها أنكر عليه لكونه لم يصلّ، فتطوّر له في الفور في صور مختلفة، فقال: في أي صورة من هذه الصّور لم ترني أصلّي.
والصّوفية يثبتون عالما متوسّطا بين عالم الأجسام والأرواح يسمّونه عالم المثال (54) واستأنسوا بقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} (55).
ووقع أن بعض العلماء رأى فقيرا يتوضّأ في المدرسة الصّوفية وضوءا مشوّشا غير مرتّب فقال: حرام عليك، فقال: لم أتوضّأ إلاّ مرتّبا وإنما أنت أعمى لو أبصرت لأبصرت هكذا، وأخذ بيده فأراه الكعبة والطّائفين وهو بمصر.
قال في روض الرّياحين (56): وقد سمعت سماعا محقّقا أنّ جماعة شوهدت الكعبة تطوف بهم طوافا محقّقا قال: ورأيت من شاهد ذلك من الثّقات (57) بل من السّادة العلماء وقال: قال بعض الكاملين: إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النّظر لأصلها وفرعها، فمن عبّر عن بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربّه، ومن عبّر عن بساط إحسان الله إليه لم يصمت إذا أساء، وقد صحّ إظهار الكرامة من قوم، وثبت العمل في إخفائها عن آخرين كالمرسي في الإظهار وابن أبي جمرة في الإخفاء، حتّى قال بعض أتباع إبن أبي جمرة: إن طريقهما مختلف فبلغه، فقال: والله ما اختلفت طريقتنا قطّ لكنه بسطه بالعلم وقبضني بالتّورّع، وقال بعضهم: من النّاس من يغلب / عليه الفناء بالله فيظهر الكرامات وينطلق لسانه بالدعاوي من غير احتشام ولا توقّف، فيدّعي بحقّ عن حقّ لحق في حقّ، كالكيلاني وأبي يعزى وعامة متأخري الشّاذلية، ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله تعالى فيكلّ لسانه ويقف مع جانب الورع، ومنهم من تختلف أحواله فتارة وتارة، وهو أكمل الكمال لأنّه حال المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنّه أطعم النّاس على صاع وشدّ الحجر على بطنه، ثمّ قال: قال في روض الرّياحين: النّاس في الكرامة أقسام:
(54) لعلّهم أخذوه عن أتباع أفلاطون لأنّ أفلاطون هو المثبت لعالم المثال.
(55)
سورة مريم: 17.
(56)
هو لليافعي وهو مطبوع.
(57)
في ش: «الثقاة» .
منهم من ينكرها مطلقا وهم أهل مذهب معروفون، وعن الهدى والتّقى (58) مصروفون، ومنهم من يصدّق بكرامة من مضى دون أهل زمنه، وهم كبني إسرائيل صدقوا بموسى حين لم يروه، وكذّبوا محمدا حين رأوه مع كونه أعظم، ومنهم من يصدّق بالأولياء في زمنه لكنّه لم يصدّق بأحد معيّن وهذا محروم من الإمداد لأنّ من لم يسلم لأحد مؤمن (59) لا ينتفع بأحد أبدا.
ثمّ إن ظهور الكرامة لا يدلّ على أفضلية صاحبها بل على فضله، وقد يكون غيره أفضل منه، فالأفضلية إنّما هي بقوة الإيقان وكمال العرفان، ولهذا قال سيّد الطائفة الجنيد: مشى (60) رجال على الماء ومات بالعطش أفضل منهم.
ولمّا كانت رتبة النبيء أعلى وأرفع من الولي، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبيء على وجه الإعجاز والتحدي أدبا معه، وقال السّبكي: معاذ الله أن يتحدّى نبيء بكرامة ظهرت على يد ولي، بل لا بدّ أن يأتي النبيء / بما لا يوقعه على يد الولي، وإن جاز وقوعه، فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا اهـ.
قال الشّيخ إبن عربي: الشّيخ أبو السّعود إبن شبل أعلى مقاما من شيخه عبد القادر الجيلاني لإعراضه عن التّصرف الذي يفعله الشّيخ عبد القادر، وقال عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام: من أدل دليل على القوم (61) قعدوا على أساس الشّريعة، وقعد غيرهم على الرّسوم ما يقع على أيديهم من الخوارق، ولا يقع شيء منها من فقيه إلاّ أن سلك طريقهم.
وقال الشّاذلي (62): لا يعطى الكرامة من طلبها ولا من حدث بها نفسه، وقال:
إبتلى الله هذه الطّائفة بالخلق سيّما أهل الجدال، فلما ينشرح صدر واحد منهم للتصديق بولي معين من معاصريه يقول: نعم إنّ لله أولياء لكن أين هم؟ وقال: لكلّ ولي ستر أو ستور، فمنهم من ستره بالأسباب، ومنهم من ستره بظهور العزّة والسطوة والقهر على حسب ما يتجلى الحقّ سبحانه وتعالى لقلبه، فيقول النّاس: ما هذا بولي وهو في هذه النّفس، وذلك أنّ الحق إذا تجلى في قلب عبد بصفة القهر أو بصفة الإنتقام كان
منتقما، أو بصفة الرّحمة والشّفقة كان رحيما شفيقا وهكذا!.
وقال المرسي: ربّما دخل في طريق الرّجل بعد وفاته أكثر ممّا دخل في حياته، فما دام بين أظهر النّاس لا يلقون إليه بالا، وقال أيضا: طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة بل واحد عن واحد إلى الحسن بن علي، وهو أوّل الأقطاب / وقال: إنّما يلزم الرّجل تعيين مشايخه إذا كان طريقه ليس الخرقة لأنّها رواية، والرّواية يتعيّن رجال سندها، وطريقتنا هداية، وقد يجذب الله العبد فلا يجعل عليه منّة للأستاذ، وقد يجمع شمله برسوله فيكون آخذا عنه وكفى بذلك منّة، وقال: والله ما كان إثنان من أهل هذا العلم في زمن واحد قط إلاّ واحد بعد واحد إلى الحسن بن علي، وقال: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه ولم يشاركونا فيما نحن فيه، وقال: إذا ضاق الولي (63) هلك من يؤذيه حالا وإن اتّسع الحمل أذى الثقلّين، وقال: لحم الولي سمّ فإيّاك وإيّاه، وكان بخط المقسم من القاهرة، وكلّ ليلة يأتي إسكندرية فيسمع ميعاد الشاذلي ثمّ يرجع للقاهرة من ليلته.
وذكر الشّيخ المناوي في ترجمة قضيب البان: إنّ أبا النجا المغربي خرج من بلده يريد المشرق ومعه أربعون وليّا، فكان يستوعب ما في كل بلد من الرّجال حتى وصل الموصل، فسأله قضيب البان عن كلّ رجل لقيه، فذكر رجالا وقضيب البان يقول:
وزنه ربع رجل، ونصف رجل، وهذا وازن، وهذا كامل، وهذا وان ملأ صيته ما بين الخافقين لا يساوي عند الله جناح بعوضة، قال: وسئل عن قضيب البان الشّيخ الجيلاني فقال: هو ولي مقرّب ذو حال مع الله، وقدم صدق عنده، فقالوا: ما نراه يصلي، فقال: إنه يصلّي من حيث لا ترونه، وإني أراه إذا صلّى بالموصل وبغيرها من آفاق الأرض يسجد عند باب الكعبة، ثم قال: قال الشّيخ خليل المالكي / صاحب المختصر المشهور: الولي إذا تحقّق في ولايته تمكّن من التّطور في روحانيته (ويعطى من القدرة التّطور في صور عديدة وليس ذلك بمحال لأنّ المتعدّد هو الصّور الروحانية)(64) قال:
وقد اشتهر ذلك عند العارفين، كما حكى عن قضيب البان لما أنكر عليه بعض الفقهاء عدم الصلاة في جماعة، ثمّ إجتمع ذلك الفقيه به فصلّى بحضرته ثمان ركعات في أربع صور، ثم قال له: أي صورة لم تصلّ معكم؟ فقبّل يد الشّيخ وتاب، ثم قال: ولا
(63) ساقطة من ط.
(64)
ما بين القوسين ساقط من ط وت وب.