الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنجاله أيضا وجميع من ذكر من تلاميذ سيدي أحمد النّوري، وأمّا أهل الأوطان فلا يحصون كثرة، ولقد أدركته رحمه الله وهو شيخ مسنّ أزهر اللّون، حسن الوجه، عليه جبّة خضراء، وعمامة الفقهاء إلاّ أنّها لطيفة، وهو عاجز عن المشي إستقلالا فيعتمد على العصا، وقد يركب على حمار عند خروجه من داره للمدرسة، فلا أدري أكان ذلك لكبر سنّه أو ليبس عرض في أعصاب رجليه.
توفّي - رحمه الله تعالى - سنة سبع وخمسين ومائة وألف لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة (117).
وبعد الفراغ من دفنه دخل النّاس للمدرسة وقرأوا عليه ختما ثمّ تكلّموا على من يتولّى المدرسة فاتّفقوا على إبنه أبي العبّاس الشّيخ سيدي أحمد / فجعلوا فيه وثيقة، وشهد فيه أناس كثيرون بصلوحيته لذلك، وكتبت الوثيقة ورفعت لقاضي الوقت ليطبع فيها فأبى، قيل لرغبته في تولّيها، فذهب الشّيخ سيدي أحمد بها لتونس من غير طبع (118) ودخل هو وشقيقه الشيخ سيدي طيّب على الباشا (119) وأخبراه بموت الشيخ والدهما وطلباه في توليتهما المدرسة (فولّى الشيخ)(120) سيدي طيب (121) لشهادة شيخه شيخنا أبي محمّد عبد الله السّوسي فيه، فرجع سيدي أحمد وأقام بالمدرسة مقام أخيه، وبقي الشيخ سيدي طيّب بتونس إلى أن قضى مآربه بها وختم كتبه التي ابتدأ قراءتها على مشايخه، ثم قدم إلى صفاقس - حسبما يأتي إن شاء الله تعالى -.
ترجمة الشّيخ أحمد الشّرفي:
ومن أجلّ أعيان فضلاء صفاقس الشّيخ أبو العباس سيدي أحمد الشّرفي إبن الشيخ الخطيب المفتي أبي عبد الله محمد إبن الشيخ الخطيب المفتي حسن الشرفي.
كان رحمه الله من نوادر الزّمان، أخذ عن الشّيخ سيدي محمّد إبن المؤدّب وتمكّن من علوم الدّين، فكان إماما هماما عمدة ثقة، فاق أهل العصر في الفتاوي والأحكام والتّوثيق والفرائض والحساب واستحضار جزئيات الفقه، فهو غصن تأصّل عن أصل أصيل (في ذلك)(122) فهو من بيت علم تمكن أصلا وبسق غصنا، عاش بعد أقرانه (من
(117) 21 ديسمبر 1744 م.
(118)
في ط: «طابع» .
(119)
علي باشا الأول.
(120)
ما بين القوسين ساقط من ط.
(121)
في ت: «الطيب» .
(122)
ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول.
فقهاء إفريقية) (123) فحاز الرئاسة فيما ذكر من أوصافه، وسارت فتاويه وتوثيقاته في بلاد إفريقية، ولا يفتي إلاّ بمشهور المذهب، فاعتمده النّاس / وقبلوا كلامه حتى في العاديات (124) لصحّة نظرة ودقّة فكره، فاعتمدوه في أمر دينهم ومعاشهم.
وكان حسن الخلق والسّياسة والسّيرة، يعود المرضى ويشيّع الجنائز ويهني (125) بالخير ويودّع المسافرين ويدعو لهم بالسّلامة، ويقبل الشّكوى، ويسعى كثيرا في إصلاح ذات البين لجميع الخلق، وقلّ من أدخله في حكومة وخالفه أو خرج عن إشارته لما يعلمون من نصحه للفريقين، بعيد عن الميل والجور في الحكم، يعفو عن المسيء ولا (126) يؤاخذ الجاهل ويعظه، فأقبلت القلوب عليه، وتوجّهت الرّغبات إليه، وكان حسن الإعتقاد، ملازما لدراسة دلائل الخيرات والنّظر في كتب الحديث ومناقب الصّالحين.
وقد حضر بين يديه ذات يوم خصمان فوقع بينهما لجاج (127) وخصام، وكان بين يدي الشيخ الجامع الصغير للحافظ السيوطي، فرفع أحد الخصمين يديه وضرب بهما على نسخة الجامع الصّغير وقال: إن وقع منّي كذا وكذا فلا أقوم من هنا إلاّ على أشرّ الحالات، أو ما (128) هذا معناه، فما استتمّ كلامه حتّى صرع وغاب عقله واعوجّ فمه، ورفع إلى داره فبقي كذلك أشهرا (129)، واستمرّ به كذلك (130) إلى الممات - عافانا الله من ذلك - فمن ذلك الوقت كثر خوف النّاس منه وصاروا يقولون للشّيخ: أعطنا الكتاب الذي حلف به فلان نحلف به فلم يجبهم لذلك.
وقد نقل أنّه لمّا كان صغيرا أوان تعلّمه العلم دخل على الشّيخ الصّالح المجذوب سيدي محمّد عبّاس (131) - نفعنا الله به - وهو بجنانه المجاور له، فوجد / الشّيخ عبّاس يشرب الدّخان، فلمّا وصل إليه ناوله الدّخان وأمره بشربه فأبى ذلك لما يرى في الظّاهر
(123) ما بين القوسين ساقط من ط.
(124)
في ط: «القيادات» ، وفي ب:«الغاديات» .
(125)
في ط: «يمني» .
(126)
ساقطة من ط.
(127)
في ط وب وت: «الجاج» .
(128)
في بقية الأصول: «وما» .
(129)
في ط: «شهرا» .
(130)
في بقية الأصول: «كذلك» .
(131)
في بقية الأصول: «محمد بن عباس» .
من أنّه دخان فاجتنبه تورّعا لما وقع فيه من اختلاف الأيمة، فلمّا رجع إلى والده عرّفه بما وقع له مع الشّيخ، وكان والده حسن الإعتقاد في أهل الخير سيما والشّيخ مجاور له مطّلع على أحواله، فقال له: يا بنيّ إذا ناولك مرّة أخرى فاقبل منه وافعل ما يأمرك به فلعلّ الله يفتح عليك، (فإنّ الشّيخ يشربه دخانا ظاهرا)(132) والله أعلم بما يكون عليه في باطن الأمر لأنّ أحوال الأولياء تخفى على أهل الظّاهر، فأثّر كلامه في قلبه تأثيرا عظيما ميلا للخير وطمعا في العلوم الموهوبة من الله كما قال القائل:
[الهزج]
رأيت العلم علمين
…
موهوب ومكسوب (133)
ولا ينفع مكسوب
…
إذا لم يك موهوب
كما لا تنفع الشّمس (134)
…
وضوء العين مسلوب
فلمّا اجتمع بالشّيخ عبّاس مرّة أخرى وناوله الدّخان إنتهز (135) الفرصة لما رأى على آلة الشرب أثر ريق الشّيخ فالتقمه بهمّة ونيّة صالحة عملا بوصيّة والده، فلمّا شرب قال له الشّيخ: زد، فزاد، ثمّ قال له: زد، فزاد، وكرّرها (136) ثلاثا، ثمّ قال: فيه بركة، فقال الشّيخ: وفيه البركة وكرّرها ثلاثا، فمن ثمّ ظهرت منه ينابيع العلم بأمور خارقة للعادة فيما قصده ممّا هو بسبيله من علوم الفقه والأحكام والتّوثيق والفرائض وما يتبع ذلك من علوم الدّين حتّى فاق أهل العصر ممّن كدّ وتعب وكدح (137) أكثر منه أضعافا مضاعفة ببركة الإعتقاد في الشّيخ.
وكان - رحمه الله تعالى - امتحن بما امتحن به إخوانه الفقهاء - رحمة الله عليهم أجمعين -، أشخصهم الباشا (138) - عفا (139) الله عنه - من أوطانهم، وذلك أنّه
(132) في ط: «يشربه دخانا ظاهما» .
(133)
في بقية الأصول: «مكسوب وموهوب» .
(134)
في ب: «كما لا تنع عن الشمس» ، وفي ت:«كما لا تنفع عين الشمس» ، وفي ط:«كما لا تنفع عين الا» .
(135)
ساقطة من ط.
(136)
في ط: «كررها الشيخ ثلاثا» .
(137)
في ط: «كرع» .
(138)
علي باشا الأول.
(139)
في ش: «عفى» .
لمّا وقعت الفتنة بينه وبين سيدي حسين (140) - رحمه الله تعالى - واختلفت النّاس، فسعى بعض أهل الشّرّ من كلّ بلاد بفقهائهم (141)، فأقاموا بتونس حتّى أطلق الله سراح من طال عمره، ومن عجلت منيّته إنتقل لرحمة الله (142)، ولمّا أشخص الشّيخ سيدي أحمد صاحب التّرجمة ظهرت فتاويه بتونس واشتهر فضله وتبيّنت نزاهته من كلّ سوء، وبلغ ذلك للباشا فعفا (139) عنه وأذن له في الرّجوع لوطنه على ما كان عليه (143) من فتواه وسراحاته.
وكانت ولادته رحمه الله آخر المائة الحادية عشرة وأوّل الثّانية عشر (144)، وتوفّي برمضان سنة خمس وتسعين ومائة وألف (145) وأنشد في تاريخه نجله الشّيخ أبو العبّاس سيدي أحمد قوله:
[مجزوء الرّجز]
هذا الضّريح قد حوى
…
جسما لعالم عظيم
مفتي الأنام المرتضى
…
أحمد ذو القلب السّليم
الشّرفي كان في
…
حياته غوث اليتيم
وقائما مجتهدا
…
في طاعة الله الرّحيم
وبات (146) لمّا أن قضى
…
مجاور الرّب الكريم
فقلت في تاريخه
…
سيرا لجنّة (147) النعيم
(140) أي رئيس الدولة عم علي باشا.
(141)
في ط: «بفتهائها» .
(142)
في ط: «إلى رحمة الله تعالى» .
(143)
ساقطة من بقية الأصول.
(144)
1689 م.
(145)
أوت سبتمبر 1781 م، وفي ط:«سنة خمس وسبعين» .
(146)
في بقية الأصول: «ومات» .
(147)
في بقية الأصول: «سير» .