الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانسابت العربان لنهب (534) البلاد والعباد وأضرّوا بالبنين والنّساء ولم يحم منهم أحدا مسجد ولا زاوية، وأخربوا الدّور والمساكن (535). وتقدّمت العساكر حتّى نزلوا على تونس لتسعة عشرة خلت من جمادى الأولى، ورحلوا ليلة الأربعاء الثامنة عشر خلت من جمادى الثانية (536)، وصحبوا معهم إبراهيم الشّريف حيّا فبقيت البلاد بلا باي ولا داي.
فقام الخليفة المشار إليه مقامه مستمسكا بحسن عهده / حاكما بمقتضى خلافته عن إبراهيم الشّريف منتظرا قدومه، وبذل في استخلاصه أموالا حتّى خلص من سجنه ثمّ استقدمه لحضرة تونس تمسّكا بالعهد فاكترى مركبا وتوجّه فيها نحو الحضرة فأدركته منيّته قبل وصوله لتونس.
حسين بن علي وقيام الدّولة الحسينية:
فعند ذلك إجتمع أهل الحلّ والعقد من العلماء وأكابر العسكر بتونس فنصبوا ديوانا لتولية من يصلح للقيام بأمر الخلق، فلم يجدوا أصلح من المقام الأرفع والصّدر الهمام الأمنع ذو السّياسة اللّطيفة والمكارم المنيفة سيدي حسين باي بن علي - رحمه الله تعالى - ورحم أسلافه وبارك في عترته وأخلافه فجددوا بيعته (537) وأبقوه على ما هو عليه
(534) ساقطة من ط.
(535)
إنتهى نقله من الحلل السّندسيّة 2/ 708، وعن حصار الجزائر لتونس ومقاومة حسين بن علي لها أنظر مثلا: الحلل السّندسيّة 3/ 23 - 48.
(536)
وحاصروا تونس (العاصمة) مقدار الأربعين يوما، فضجروا وعجزوا عن المقاتلة ورحلوا بليل على حين غفلة وساروا على أشر حالة: ذيل بشائر أهل الإيمان ص: 108.
(537)
وقعت بيعة حسين بن علي في 20 ربيع أوّل 1117/ 12 جويلية 1705 م، الحلل 3/ 9 وفي ذيل البشائر ص: 108: «لثلاث بقين من شهر ربيع الأوّل» . «تزايد سنة ستّ وثمانين وألف 1086/ 1675، قدم والده من بلاد الرّوم وأصله من جزيرة كندية، كان أبوه قائدا لزمام العربان توفي سنة 1087/ 1676 ونشأ إبنه حسين في خدمة أمراء إفريقية وباياتها وخدم محمّد باي ومن بعده أخاه رمضان باي، ومن بعده حفيده مراد باي ثم بعده القائم إبراهيم الشّريف باي. . .» ذيل البشائر ص: 112. وانظر عن حياته قبل توليته الإتحاف 2/ 85 - 87.
من ولايته لما يعلمون من شفقته وعطفه وحسن عهده وسلامة صدره من المكر والحقد والغدر، ولما جبله الله عليه من اللّين والرفق وحسن التّدبير والسّياسة، ففرح الخلق عامّة من أهل تونس وأوطانها وعجمها وعربها وبلدانها بتوليته، وسقط في يد أهل الفساد ما كانوا يتمنّون، وازداد أهل الخير فرحا به لما كانوا منه يرتقبون، وهو الّذي بشّر به الأولياء والصلحاء، وارتقب دولته العلماء والفضلاء قبل توليه بل قبل وجوده كالشّيخ المجذوب الصّاحي سيدي عبد السّلام الأسمر الطرابلسي الفيتوري تلميذ سيدي أحمد زرّوق وسيدي عبد الواحد / الدّكالي وكان من أهل القرن العاشر فإنّه بشّر به وبعترته قبل وجوده وأنه صاحب تونس، وأنه به تعمر، وهو الّذي يسعد الله به البلاد والعباد، فوقع كما قال ونصّه:«وأمّا تونس فمن حين يموت سبطها المسمّى باسم ولد فاطمة وعترته لا خير فيها، آه آه، آه على أهل إفريقية بعد السبط حسين، ولا يأت أمير أحسن منه إلى انقراض الدّنيا» ونوّه بذكره في مواضع كثيرة من وصيّته، كما نوّه كثيرا بذكر أحمد باشا قرمانلي (538)، وكذا الشّيخ الفاضل أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الجمّني (539) رحمه الله ونفعنا به - بشّر سيدي حسين باي رحمه الله بالتّولية، وأوصاه بالرّفق بالرّعيّة، ودعا له بالبركة والتّأييد، فطلب من الشّيخ السّتر خوفا من أمير وقته فقال له:
لا عليك من بأس فإنّ الله تعالى أولاك ملكه واستخلفك في أرضه على عباده {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} الآية (540) وكذلك الشّيخ الفاضل أبو الحسن سيدي علي النوري (541) أوصاه بمثل ذلك، ومن ثمّ قوي إعتقاده في أولياء الله، وكثرت محبّته للأولياء والعلماء وأهل الخير المنتسبين لجنب الله، وعظمت رغبته فلاحظ الأحياء والأموات بكلّ ما تيسر من الخيرات، فمن ثمّ نمت بركاته، وتزايدت خيراته، وبارك الله فيه وفي عترته، فهو سبب سعادة أهل بيته، وفّقنا الله وإيّاهم لما يحبّه ويرضاه، وأجرى الصالحات / على أيديهم وبارك فيهم.
(538) في ت: «قرمالي» ، وفي بقية الأصول:«من مالي» وأحمد قرمانلي هو مؤسس الدّولة القرمانللية بطرابلس، وتولاّها من سنة 1714 إلى سنة 1745 م.
(539)
1037 - 1134/ 1628 - 1722 م، الفقيه الزّاهد صاحب المدرسة الجمنية بحومة السّوق بجربة، مؤلّف هذا الكتاب من تلاميذ تلامذته وسيترجم له المؤلف فيما بعد.
(540)
سورة آل عمران: 26.
(541)
علي النوري 1053 - 1118/ 1644 - 1706 م صاحب المدرسة النورية بصفاقس وصاحب الفضل عليها، سيترجم له المؤلّف فيما بعد.
وكان - رحمه الله تعالى - عفيف البطن من المسكرات والفرج من الفواحش والمنكرات. فاستقامت (542) أحواله وانتظمت آماله، وسعدت رعيّته بسعده، ودافع عنهم بجدّه وجهده، فجزاه الله عن نفسه وعن رعيّته ما هو أهله، ومزاياه وفضائله بحر لا ساحل له.
وهذه العجالة لا تفي باستقصاء مآثره، وقد اعتنى بجمع ذلك جماعة نبلاء كالشّيخ أبي عبد الله محمّد الوزير (543) وأضرابه (544) فذكروا من مزاياه ما يثلج (545) صدر أهل الخير والفضل الّذين يفرحون بالأمر الصّالحين المحسنين لرعاياهم، وامتدحه الشعراء من كل مكان فأحسن جوائزهم، ووفدت (546) عليه الوفود فأكرم نزلهم وأحسن وفادتهم.
وافتكّت عساكر الجزائر رحمهم الله وهران من يد عدوّ الدّين أواخر شوّال سنة ثمان عشرة ومائة وألف (547) ثمّ ارتجعها النّصارى حتّى افتكوها على يد الأمير محمّد، باي تلمسان، حسبما أشرنا إليه عند تعرضنا لذكر بلد الجزائر.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف (548) قدم خمسة أغربة من مالطة - دمّرها الله - دخلوا جزيرة الجنان بنواحي (549) البقالطة فنزلوا البر لأخذ الماء، فهجم عليهم أهل وطن المنستير، فدخلوا عليهم الجزيرة، فانهزم الكفّار ومات منهم نحو المائة والعشرين، وأسّر المسلمون منهم نحو المائتين، واستشهد من المسلمين اثنان وكانوا قبل / ذلك باتوا على صفاقس ليلة واحدة، فرموا عليهم بالمدافع فأصابوا سفينة كبيرهم ففرّوا هاربين مخذولين.
ولسيدي حسين باي - رحمه الله تعالى - مبان (550) عظيمة فمنها صهريجه العظيم الشأن بتونس، وهو مشهور باسمه، ومنها مسجده الأنور بمدينة تونس، ومدرسته المتّصلة
(542) في الأصول: «استقت» .
(543)
هو السراج الأندلسي الأصل في كتابه الحلل السّندسيّة في الأخبار التّونسيّة.
(544)
مثل الشّيخ محمد سعادة في قرة العين.
(545)
كذا في ط، وفي ت:«يلج» ، وفي ش وب:«ينج» .
(546)
في الأصول: «وفد» .
(547)
3 فيفري 1707 م.
(548)
1718 - 1719 م.
(549)
من ولاية المهدية.
(550)
في الأصول: «مباني» .
به على أبدع نظام وأبهج: منظر وإحكام، وبه تربته رحمه الله متّصلة به، وكذا مدرسته المشهورة بالنّسبة إليه في صفاقس (551) ولها نور زائد تنبسط النّفس وتميل إليها عند الدّخول إليها، وكذا جميع مبانيه - رحمه الله تعالى - وذلك يدلّ على حسن نيّته وخلوص طويّته، ومنها إحياؤه للمدرسة اللّطيفة بالطّيبيّين (552) من تونس قرب جامع الزيتونة (553)، وحبّس على كلّ بناء أحباسا تقوم به، وأجرى المرتّبات على أهل العلم القائمين بذلك من معلمين ومتعلمين، وغير ذلك من المباني العظيمة وتتبّع ذلك يطول.
وبالجملة فهو - رحمه الله تعالى - من غرر الزمان ونوادره، وعلامة ذلك أنّ الله جبل القلوب على محبّته، فكلّ من سمعه ترحّم عليه وودّ أنّه كان في زمانه لما يسمعون من حلمه ورفقه برعيّته واكتساب النّاس في أيّامه الدّين والدّنيا وأمن البلاد والعباد، وتطويع أهل البغي والفساد من العربان وقطّاع الطّريق.
وفي أيّامه - رحمه الله تعالى - رخصت (554) الأسعار، وعمرت الفيافي والقفار فضلا عن المدن والقرى والدّيار، / وتسارع العربان لطاعته لحسن سيرته وصالح نيّته وإرادة الخير لرعيّته.
وكان - رحمه الله تعالى - أوّلا أمّر على محاله وأسفاره المرحوم نجل أخيه محمّد رحمه الله سيدي علي باشا، وزوّجه إبنته وعلّمه من العلوم ما هو به مشهور، وأحسن إليه غاية المقدور، ثمّ كساه خلع الباشوية بالأوامر السّلطانية العثمانية، وأقامه بدار الباشا لدفع المرتّبات للعساكر والنّظر في أمورهم، وأقام في مقام البياية نجله الأسعد الأكبر سيدي محمّد بن سيدي حسين باي - رحم الله جميعهم - فاستمرّ الحال على ذلك إلى أن آن الأوان وأراد الله إبراز ما قدّر من تولية الباشا على تونس - رحمه الله تعالى وعاملنا وإياه بالعفو والغفران -، فتحرّك لما جرى وسطّر في أمّ الكتاب.
(551) وهي موجودة إلى الآن وقد صارت مدرسة إبتدائيّة منذ السّنوات الأولى للإحتلال الفرنسي.
(552)
هو سوق العطارين، وفي الأصول:«الطبيين» .
(553)
بعدها في ط: «وتسمّى الآن بمدرسة النخلة لكونها بوسطها نخلة» .
(554)
في الأصول: «رخست» .