الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة:
في ذكر ما يتعلق بصفاقس ووطنها
وفيها أبواب
الباب الأوّل
في ذكر وضعها وما يتعلّق بذلك
تأسيس سور صفاقس:
أقول: كانت صفاقس في ابتداء أمرها محرسا من المحارس، برجا في موضع قصبتها الآن (1)، وهو البرج الأحمر المحاذي لسيدي جبلة (2)، وكان هناك أناس يقال لهم الأعشاش (3)، وآخرون يقال لهم النواولة (4) ساكنون في أخصاص من خوص، لا كسب لهم هناك إلاّ صيد السّمك، وكان حوالي ذلك المكان بسواحل البحر وما قاربه من الأراضي قرى كثيرة متّصلة ومتقاربة، ولهم في ذلك الموضع في كلّ يوم جمعة سوق
(1) لقد أدّت الحفريات الأثرية الّتي قام بها المعهد القومي للآثار والفنون داخل القصبة الّتي تقع في الرّكن الجنوبي الغربي من سور مدينة صفاقس إلى إكتشاف بقايا مسجد سفلي له طراز مساجد الرّبط القديمة بإفريقية في هندسته وبنائه، ولعلّه مسجد المحرس الّذي يشير إليه المؤلّف، وإن صحّ هذا تصحّ نظريّة مقديش من أنّ إنطلاق تأسيس مدينة صفاقس كان محرسا من المحارس.
(2)
الشّائع على الألسنة سيدي جبلة بكسر الجيم وسكون الباء الموحدة وفتح اللاّم، وبالفصحى بفتح الأحرف الثّلاثة.
(3)
آل العش وآل عشيش من الأسر المعروفة في صفاقس إلى حدّ اليوم.
(4)
أسرة انقرضت من صفاقس، وبقي لنا مسجد الشّيخ سالم النوالي داخل المدينة المسوّرة وذكر أبو بكر عبد الكافي «تاريخ صفاقس 1966 ص: 22: «أنّه تفرع على هذه الأسرة آل الجرّاية والعمّوص وعبّاس» .
يجتمع فيه أهالي تلك القرى، فاتّخذوا له فنادق لحفظ دواب الواردين وأمتعتهم، وأحدثت (5) هناك مرسى للقادمين من البحر كأهل قابس وجربة وطرابلس وقرقنة وغير ذلك، فابتنى النّاس لهم مساكن وكثرت النّاس.
فلمّا كان زمن أبي إبراهيم أحمد بن الأغلب رحمه الله وكان له اعتناء بأفعال الخيرات وإنشاء الحصون والمحارس، أمر ببناء سور من الطوب على ما اجتمع من المساكن والفنادق والسّوق على يد علي بن سلم (6) جد سيدي أبي إسحاق الجبنياني - نفعنا الله به -.
وسبب بناء أحمد بن الأغلب رحمه الله على ما نقل في معالم الإيمان (7) عن أبي بكر التّجيبي (8) أنّه كان رحمه الله أجمل بني الأغلب، وكانت له شعرة يعني شيئا من شعر في وسط رأسه، فكان إذا جلس للشّرب مع الجواري نظّمت شعرته بالجوهر / المصنّف، ويجعل من فوقها التّاج المكلّل بالدّرّ والياقوت الأحمر، وكذلك يفعل الجواري، فنظر إلى وجهه في المرآة فتكلّم بكلمات (9) كفر فلمّا أفاق أخبر بذلك، فبكى وندم وأمر برأسه فحلق شعرته وتاب، ووجّه في طلب القاضي سليمان وجمع علماء المدنيين والعراقيين (10) وسألهم فصعّبوا عليه، وركب إلى دمنة، وهو إسم مكان يجتمع فيه الزّهّاد والمرضى، قال: ركب إلى دحيم (11) الضرير (12) المتعبّد وكان مستجابا، فأخبره وسأله الدّعاء، ثمّ ركب إلى قصره في قضاته ووزرائه حتّى دخل على محمّد بن يحيى بن سلام التميمي الفقيه، فسأله عمّا صدر منه، وهل له من توبة؟ فقال له: إن كنت اعتقدت ما تكلمت به فهو عند الله عظيم، وإن كنت لم تعتقده فالتّوبة
(5) في الأصول: «حدثت» .
(6)
كذا في الأصول كما في بعض نسخ الحلل (أنظر هامش 2 من المناقب ص: 2) والدّيباج وفي بعض نسخ المناقب «مسلم» و «أسلم» ، وفي رحلة التجاني، وبعض نسخ الحلل (1/ 313) والمناقب «سالم» .
(7)
2/ 147 بتصرف.
(8)
أبو بكر عتيق بن خلف الفقيه الواعظ المؤرّخ (ت.422/ 1031) أشهر مؤلّفاته «كتاب الطّبقات» ، و «كتاب الإفتخار بمناقب شيوخ القيروان وما تعلّق بهم من تاريخ فقهاء الأمصار» وهما مفقودان. أنظر معالم الإيمان 3/ 158 والإعلام 4/ 362 ومعجم المؤلّفين 6/ 248 وتراجم المؤلّفين التّونسيين 1/ 224.
(9)
في المعالم: «بكلمة» .
(10)
هم أتباع مذهب أبي حنيفة.
(11)
ساقطة من ت.
(12)
في ط: «دحيم الغريق» ، وفي المعالم: أبي عبد الضرير.
مبسوطة فتب إلى الله تعالى، وتقرّب إليه بالصّدقة، فقال له: جزاك الله خيرا كما دلّيتني على الله تعالى، ولم تؤيّسني من رحمته التّي وسعت كلّ شيء، فظهرت من أبي إبراهيم آثار جميلة من أفعال البرّ والصّدقات وبناء المساجد والمواجل حتّى مات، ولم يترك في بيوت أمواله شيئا بأن أخرج ثلاثمائة ألف دينار من بيت مال المسلمين فأمر ببناء ماجل باب تونس، وبنى في جامع القيروان القبّة الخارجة عن البهور (13) مع الصفتين اللّتين تليانها من جانبيها جميعا، وبلاطها الّذي بين يديها مفروش، وعمل المحراب جلبت له تلك القراميد (14) المهيئة (15) لمجلس أراد أن يعمله، وجلب له من / بغداد خشب السّاج ليعمل له منه عيدان الملاهي فعملها منبرا للجامع، وجاء بالمحراب مفصّلا رخاما من العراق عمله في جامع القيروان، وجعل تلك القراميد في وجه المحراب وكمّل له رجل بغدادي قراميد زادها إليها وزيّنه تلك الزّينة العجيبة بالرّخام والذّهب والآلة الحسنة، وبنى ماجل باب [أبي](16) الرّبيع، وأمر ببناء ماجل القصر الكبير بسوسة، وبنى جامع مدينة تونس، وبنى سور سوسة، وبنى دار الملك بسوسة، وبنى قصر لمطة (17)، وبنى سور صفاقس، وتصدّق بباقي المال على الفقراء والمساكين، قال: وملك إفريقية وهو إبن عشرين سنة، وعاش بعد هذه الحادثة خمس سنين (18) اهـ.
وقد تقدّم أنّ وفاته كانت سنة تسع وأربعين ومائتين (19) فيكون بناء سور صفاقس في سنة خمس وأربعين (20) وما بعدها.
وذكر (21) الشّيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمان بن محمد اللّبيدي الحضرمي - رحمه الله تعالى - «أنّ علي بن سلم جدّ سيدي أبي إسحاق الجبنياني - رحمه الله تعالى - كان من أهل العلم من أصحاب سحنون بن سعيد رضي الله عنه وهو ولد سحنون من الرّضاعة، أرضعته أمّ محمد بن سحنون مع محمّد، ثم ولاّه سحنون قضاء
(13) في المعالم: «البهو» .
(14)
ج قرمد.
(15)
في المعالم: «اليمنية» .
(16)
ساقطة من الأصول.
(17)
لمطة: بلدة بالسّاحل التّونسي، وقصر لمطة يدخل في جملة الرّباطات الّتي أحدثت في القرن الثالث، واشتهرت به وكان أمر ببنائه الأمير أبو إبراهيم أحمد ورابط به جماعة من العلماء والعبّاد منهم أبو هارون الأندلسي، ويرجع تأسيس البلدة إلى العصر القرطاجي.
(18)
المعالم 2/ 147 - 148.
(19)
863 م.
(20)
859 م.
(21)
في مناقب أبي إسحاق الجبنياني.
صفاقس وسائر السّاحل (22)، وهو، فيما ذكر لي أحمد وغيره، كان بنى (23) جامع صفاقس وسورها بالطّوب (24) وبنى المحرس الجديد (25). قال: وكان يعدل في أحكامه، وكانت له دنيا عريضة، ومنازل كثيرة، منها / جبنيانة وغيرها له بها رباع عجيبة، وكان له بصفاقس رباع كثيرة، ولقد وقع في مكاتبات سحنون إلى علي بن سلم قاضي صفاقس أنّه بلغني أنّ قبلك قوما ينكرون المنكر بأنكر منه، فازجرهم عن ذلك والسّلام» (26) اهـ.
ثمّ بعد ذلك جعل النّاس على السّور المذكور أوقافا، إبتغاء لوجه الله، فكلّما وقع جانب من سور الطّوب ردّوه بالحجر والجير، وفي أيّام السّلطان أبي فارس (27) الحفصي - رحمه الله تعالى - جدّد الباب الجبلي وما يليه من السّور، واسمه مكتوب على الباب في حجر (28) وهو باق إلى الآن، واعتنى النّاس ببناء السّور وترميم ما انهرش منه إعتناء كثيرا، وإلى الآن والحمد لله لا ينقطع منه الفعلة دائما وأبدا، فقد صار في غاية المنعة (29) والحمد لله.
(22) صفاقس من السّاحل، وما يعبّر عنه بالسّاحل فهو المنطقة السّاحلية الممتدّة من بوفيشة إلى المحرس آنذاك ويحدّده الجغرافيّون حاليا من بوفيشة إلى الشّابة.
(23)
في الأصول: «بنا» .
(24)
كشفت لنا الحفريّات الأثريّة في الرّكن الجنوبي الغربي من السور، بقايا من الطوب المبني به هذا المعلم قبل تجديده.
(25)
في المناقب: «الذي يعرف بمحرس علي، وهو الآن يعرف بمحرس علي» ، ص: 3، هو البلدة المعروفة الآن ببلدة المحرس.
(26)
المناقب ص: 2 - 3.
(27)
أبي فارس عبد العزيز كما جاء في النّقيشة الّتي تعلو الباب من الدّاخل.
(28)
نقرأ في هذا الحجر: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا الخليفة الامام أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز، عمل هذا الباب بمكانه في أوائل محرم فاتح شهور ثلثة وعشرين وثمانمائة غفر الله لمن وقف وصرف» . الموافق جانفي - فيفري 1420 م. وجدّد الباب مرّة أخرى في شعبان 1224 / سبتمبر 1809 م على يد محمّد المنيف والتّاجر الأمين إبراهيم السّلاّمي.
(29)
كانت للسّور أوقاف ورباع ووكيل - مقدّم - يقوم بالإنفاق على السّور من أمواله، لإصلاحه وترميمه بمشورة أهل الحلّ والعقد، وفي سنة 1161/ 1748 كان الحاج عبد العزيز السّلاّمي مقدّما على السّور حسب النقيشة الّتي تعلو باب الدّيوان من الدّاخل المقابل لجامع العجوزين.