الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وإلى الآن ما زالوا متمسكين ببغيهم وبدعتهم، وسبب طول مدتهم مع أن العساكر العثمانية - نصرهم الله على كل من عاداهم - هو إشتغال العساكر العثمانية بعدوّ الدّين من النّصارى لقرب داره وخوفا على حوزة الإسلام بخلاف قزلباش فإنه بعيد الدّيار ونكايته أضعف، والسّبب في الحقيقة هو إرادة الله {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} (359).
أخذ سليم الأوّل لبلاد الشّام ومصر:
ولمّا استقرّ السّلطان سليم - رحمه الله تعالى - بدار سلطنته سأل عن سبب تأخّر قوافل (360) الذّخيرة عنه فأخبر أن سبب ذلك سلطان مصر الغوري فإنه كان بينه وبين شاه إسماعيل محبّة أكيدة ومراسلات حتى اتهم الغوري بالرفض في عقيدته بسبب ذلك، فصمّم السّلطان سليم على قتال الغوري أوّلا فإذا استولى عليه وعلى بلاده توجّه إلى قتال شاه إسماعيل ثانيا، فتجهّز لأخذ مصر وإزالة دولة الجراكسة (361) منها بقتل الغوري وأتباعه.
والجراكسة جنس من الترك في مشارق الأرض لهم مدائن عامرة، وفيهم الجمال البارع، ولهم في بلادهم أغنام يرعونها ومزارع يزرعونها، وهم أتباع سلطان سراي (362) قاعدة ملك خوارزم، وملوك هذه الطّوائف / لملك سراي كالرعية، فهم يقاتلونهم ويسبون منهم النّساء والأولاد، ويجلبونهم إلى أطراف البلاد والأقاليم، ذكره المقريزي في عقوده، وقد أسلفنا أنهم ملك منهم طائفة مصر بعد الأتراك.
وآخر الجراكسة هو الغوري المذكور، وذكروا لتوليته أمرا غريبا وذلك أن عساكر مصر لما ولّوا (363) عليهم طهمان الملقب بالملك العادل فما استكمل يوما واحدا حتى هجموا
(359) سورة هود: 118.
(360)
رجع إلى النقل من الإعلام للنهروالي ص: 277.
(361)
إنتهى نقله من الإعلام.
(362)
جاء في معجم البلدان: «سراو، مدينة بأذربيحان بينها وبين أردبيل ثلاثة أيام، وهي بين أردبيل وتبريز» 3/ 204.
(363)
في ط: «ولي» .
عليه وقتلوه، فما أقدم (364) أحد على السّلطنة، وكانت الأمراء متوفرة، وكلّهم (365) يشير لصاحبه بالجلوس على تخت الملك خوفا على نفسه من الموت إذا تولّى، فاتفقوا على أن يولّوا قانصوه (366) الغوري، ولقّبوه بالملك الأشرف، وإنما إتفقوا عليه لكونه في أول أمره كان ليّن العريكة، سهل الإزالة فأي وقت أحبّوا إزالته أزالوه لقلّة ماله وضعف حاله، فأشاروا له بالتقدم فأبى فألزموه بذلك، فقال: لا أقبل ذلك منكم إلاّ بشرط أن لا تقتلوني، فإذا أردتم خلعي من السّلطنة أخبروني وأنا أوافقكم على ما تريدونه وأترك لكم الملك، وأمضي حيث أشاء، فعاهدوه على ذلك، فقبل منهم ما طلبوه، فتولّى السّلطنة سنة ست وتسعمائة (367)، ففرح العسكر بولايته لأنهم يسموا بتبدل (368) السّلاطين، وسرعة تقصي صرفهم، بل فرح (369) العامة ووطنوا الأمن على أنفسهم وأموالهم، وكان كثير الدّهاء ذا رأي وفطنة وتيقظ، إلاّ أنّه كان شديد الطّمع فظلم وعسف وبخل، وكان مغرما مولعا بالعمارات والأبنية، فمن جملة عماراته الجامع والتربة / المشهورين بالغورية في وسط القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر وما بين القصرين، وكان في نيته أن يدفن بتربته فأوقف عليها أوقافا كثيرة، وما قدر له دفنه فيها {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (370) فلمّا حضرت منيّته ذهب تحت سنابك الخيل - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى -.
وكان يبسط حرمته على الأمراء بالتنزل معهم من غير تشديد عليهم، ولا إظهار عظيم أمر ولا نهي في ابتداء أمره إلى أن تمكّن من قوّته وبأسه حتى حكي أنه توهّم من عساكره مبادئ فتنة أراد الأمراء إحداثها ليجعلوها مقدّمة لخلعه من السّلطنة، فعمل ديوانا جمع فيه الأمراء والمقدّمين وأمرهم بالجلوس، وجلس بينهم كأحدهم، وكانت عادة الأمراء الوقوف معه إلاّ على سماط الأكل فقط، فلمّا جلس بينهم إستنكروا ذلك منه فجعلوا يسألون عن سبب ذلك فرفقهم وصاروا كلهم مصغين لما يقوله متوجهين إليه
(364) كذا في ط، وفي ش وت وب:«قدم» .
(365)
في ط: «وكل منهم» .
(366)
في ش وت وب: «قانوصاه» ، وفي ط:«قانوصوه» .
(367)
1501 م.
(368)
في ط: «يسرون بتبديل» .
(369)
في ش: «خرج» .
(370)
سورة لقمان: 34.
غاية التّوجّه فقال لهم: إنما جمعتكم لأسألكم الآن عن سؤال خطر ببالي وأريد منكم جوابه على الوجه الّذي ترونه صوابا، فقالوا: نعم، فقال: أسألكم عن جماعة جاؤوا إلى رجل بوديعة مربوطة مختومة، وطلبوا إيداعها عنده، فقال: لا أستودعها إلاّ بشرط أنكم إذا طلبتموها أخذتموها بلا نزاع ولا خصومة فأردّها إليكم، فقالوا له: نعم، فأودعوها على ذلك الشرط ومضوا، ثم عادوا إليه بعد مدّة وقالوا له: نريد الوديعة بنزاع شديد / ومخاصمة ومضاربة، فقال لهم: هذه وديعتكم خذوها بلا نزاع عملا بمقتضى الشّرط فأبوا قبولها إلاّ بمقاتلة، فأيّهم على الباطل وأيّهم على الحقّ؟ فعلموا مراده، واستحيوا منه، وقال لهم: ما جلست معكم إلاّ لتعلموا أنّي كأحدكم لا أمتاز عنكم بشيء، وهذه السلطنة أسلّمها إليكم بلا نزاع، وأنا واحد من الجند، فقبّل كلّ منهم يده وأذعنوا له وسألوه البقاء على السّلطنة، فسكنت الفتنة دهرا ثم استعلوا عليه بضروريات أخر، فطاولهم (371) بالحيل إلى أن أخذهم واحدا بعد واحد، ويتغافل ثم يجعل حيلة أخرى فيأخذ هذا بهذا ويوقع بينهم الدّسائس، ويدسّ لهم السّمّ في العسل حتى أفنى قرانصتهم (372) ودهاتهم إلاّ قليلا منهم ممّا لا بدّ له، واتخذ لنفسه مماليك جددا واستجلب جلبانا وأعدّ عددا وعددا، فصاروا يظلمون النّاس ويعسفونهم ويعاملونهم غشما وصار هو يقضي عن مماليكه فأظهروا الفساد وأهلكوا البلاد والعباد حتى أن أحدهم يأكل فإذا خرج إلى الطّريق ووجد أحدا من الناس مسح يديه في أثوابه فأعدّ النّاس لهم الفوط على أكتافهم، فإذا لقوا أحدا منهم وأراد مسح يديه بثيابه ناوله تلك الفوطة، فمن أجل ذلك إستعمل النّاس الطّيالس على أكتافهم عوضا عن تلك الفوطة الّتي إعتادوها بعد زوال تلك المحنة، ثم إن الغوري صار يصادر النّاس بأخذ أموالهم غصبا وقهرا، وكثرت السّعاية / في أيامه بالنّاس لكثرة ما يصغي إلى مماليكه، فصاروا إذا شاهدوا واحدا توسّع في دنياه أو أظهر التّجمّل في ملبسه ومثواه سعوا به إلى الغوري، فيرسل إليه الأعوان ويطالبه بالعرض ويستصفي ماله ويسلّمه إلى الأعوان والضوباشي ليأخذ ماله، ويهتك أهله وعياله ويعذّبه بأنواع الأسلحة إلى أن يصير فقيرا، فجمع من هذا أموالا كثيرة وخزائن وسيعة فذهبت في آخر الأمر سدى (373)، وتفرقت للعداء، وهكذا كلّ مال أخذ
(371) في ط: «فعالجهم» .
(372)
لعل الصواب: «قراصنتهم» .
(373)
في الأصول: «سدا» .
ظلما لا ينفع من جمعه بل يكون سببا لهلاكه لأن القدرة غيورة. قال الشّاعر:
[الطويل]
ألا إنّ مالا كان من غير حلّه
…
سيخرب يوما دار من كان جامعه
وأبطل في أيامه الإرث فإذا مات أحد أخذ الغوري جميع ماله وترك أولاده عالة (374) يتكففون ومن رفق بهم أبقى لهم شيئا يسيرا يسدّ الرّمق، فاشتد طلبه على الحطام الفاني، وتهالك على الظلم والفساد فعتا عتوا كبيرا، فاستجاب الله تعالى فيه دعاء المظلومين بقطع دابره، وذلك إنه لمّا سمع بخروج السّلطان سليم لقتاله جمع الغوري جنوده وخزائنه وخرج إلى حلب لملاقاة السّلطان سليم. فلمّا التقى الجمعان بمرج دابق (375) قرب حلب إشتد القتال بين الفئتين، وقامت الحرب على ساقها ودارت (376) الدّائرة على الّذين ظلموا، ونصر الله من نصر دينه فغار (377) الغوري (378) تحت سنابك الخيل ولم يظهر له خبر إلى الآن وذهبت ظلمات ظلم الجراكسة، فكانوا هباء / منثورا، وكأنهم لم يكونوا شيئا مذكورا.
فأقبلت (379) رايات السّلطان سليم على قلعة حلب الشّهباء، فطلب أهلها منه الأمان، فأجابهم إلى القبول لطفا وكرما، فخرجوا إلى لقائه بالمصاحف وهم يجهرون (380) بالتّسبيح والتّكبير يتلون:{وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} (381)، فقابلهم بالإحسان والإكرام، وتصدّق بأنواع الصدقات، وحضرت صلاة الجمعة فخطب الخطيب باسمه الكريم، ودعا له ولآبائه وأسلافه، وبالغ في المدح والتّعريف، فلمّا سمع قول الخطيب في وصفه «خادم الحرمين الشريفين» سجد شكرا لله تعالى وقال: الحمد لله
(374) كذا في ط، وفي ش وب:«عالي» . وفي ت: «عراي» .
(375)
«بكسر الباء وقد روي بفتحها وآخره قاف، قرية قرب حلب من أعمال عزار. . . عندها مرج معشب» . معجم البلدان 2/ 416.
(376)
كذا في ط وت، وفي ش وب:«ودايرت» .
(377)
في ت: «فصار» .
(378)
وسبب هزيمة الغوري وقوع الخلاف بين فرق جيشه المؤلف من المماليك، وساعدت المدافع العثمانيين على النصر، وقتل الغوري أثناء انهزام الجيش وسنه 80 سنة وكان ذلك في يوم الأحد 25 رجب سنة 922/ 24 أوت 1516 م. أنظر تاريخ الدّولة العليّة ص:192.
(379)
رجع إلى النّقل من الإعلام للنّهروالي بتصرف ص: 278.
(380)
كذا في ط والإعلام. وفي ت: «يجرون إليه بالتسبيح» ، وفي ش وب:«يجرون بالتسبيح» .
(381)
سورة الأنفال: 17.
الذي يسّر لي أن صرت خادم الحرمين الشريفين، وأظهر الفرح والسرور بتلقيبه بهذا اللقب المنيف (382) والاسم الشريف، وخلع على الخطيب الخلع المتعددة وهو على منبره، وزاد في إحسانه بعد ذلك، ثم أقام بحلب أيّاما يسيرة وهو يمهّد الملك (383) ويجري أحكام العدل والسياسة، ويحسن إلى العرب والعجم من كافة الأمم، ثم انتقل بجيوشه إلى الشّام، فعاملهم بالإكرام معاملة أهل حلب، وأمر بعمارة قبة (384) الشّيخ محيي الدّين ابن عربي - رحمه الله تعالى - وأوقف عليه مرتبات كثيرة وجعل] له [مطبخا يطبخ فيه الطّعام للفقراء المجاورين للضريح المذكور، وجعل عليها متولّيا وناظرا لجمع غلات الأوقاف ويصرفها (385) في وجوهها حيث ما عيّن السّلطان (386).
وهذا الشّيخ محيي الدّين هو الّذي / نوّه (387) بشأن السّلطان سليم تنويها عظيما ونصّ عليه وعلى وقائعه وفتوحاته ونصره وتمكين الله له في الأرض، فمن جملة ما نصّ عليه ما وجد على قبره، وذلك أن السّلطان أوّل ما وصل إلى المدينة وجد عند بابها تلاّ عظيما من مزابل النّاس الّتي يطرحونها خارج البلد حتى كادوا يزاحمون الباب ويغمرونه في المزابل، فأمر السّلطان بإزالة تلك المزابل في الحين ليفرج عن باب المدينة، فما زالوا يزيلون شيئا فشيئا حتى انكشف لهم قبر الشيخ، وإذا عليه مكتوب: إذا دخل السين الشين ظهر محيي الدّين، ففسّره أهل المعرفة بكلام الرّموز بأنه إذا دخل السّلطان سليم الشام ظهر أمر الشّيخ محيي الدّين (388)، فأظهر السّلطان أمر الشيخ غاية الظّهور، ولم يزل إلى الآن أمره قائما ظاهرا ببركته، وبركة السّلطان سليم - رحم الله الجميع ونفعنا بهم وببركاتهم وبركات أمثالهم -.
(382) ساقطة من ش.
(383)
في الأصول: «الممالك» والتصويب من الإعلام ص: 279.
(384)
في الإعلام: «تربة» .
(385)
في الأصول: «صرفها» .
(386)
إنتهى نقله من الإعلام.
(387)
قال النّهروالي: «ولا شكّ أنّ روحانية الشّيخ رضي الله عنه هي الّتي جلبت السّلطان سليم طيّب الله ثراه إلى سلطنة بلاد العرب، وحصل له الإمداد العظيم بالبركة والتأييد في حصول ما أمّله وطلب. . .» الإعلام ص: 479.
(388)
الكلام المتعلّق بالشّيخ محي الدّين بن العربي يصدر عن عقلية مغرقة في التقديس لا عن عقليّة مؤرخ، ومناقشة كلّ هذا الكلام أمر يطول، مع العلم بأنّ الأتراك يقدّسون الصّوفية كالشّيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ محي الدّين بن العربي.