الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيستمع للتّلاوة ويبكي ويظهر الخشوع والبكاء / والتّضرّع، فإذا سمع آية رحمة فرح واستبشر وبسط يديه للسّؤال، وإذا سمع آية عذاب غلبه الفزع والرّعب وأشار بيده إلى الإستعاذة منها. وكان محبا لكثرة الصّلاة محافظا على الفرائض في أوقاتها، محبّا لسماع الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان محبّا للشّيخ سيدي طيّب الشّرفي رحمه الله وللشّيخ فيه اعتقاد زائد، وكانا يتزاوران كثيرا، فإذا احتجب زاره الشّيخ في داره، وإذا خرج زار الشّيخ في مدرسته إن وجده وإلاّ ففي داره، وإذا كان يوم جمعة قرأ له الشّيخ دلائل الخيرات فيستمع له ويظهر السّرور عند سماع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولمّا توفّي صار الشّيخ يذهب يوم الجمعة إلى ضريحه فيقرأ بإزاء قبره. وبعد وفاة الشّيخ رحمه الله قام ولده الشّيخ سيدي عبد الرّحمان رحمه الله مقام والده فيذهب لضريح الشّيخ الجرّاية فيقرأ دلائل الخيرات كوالده - رحمة الله على الجميع -
ولمّا حضرت وفاته توجّه إلى القبلة بنفسه وأطبق عينيه وفاه بنفسه بعد أن أوصى أن يتولّى غسله، وكفنه الشّيخ سيدي طيّب الشّرفي، وتشهّد كلمة الحقّ وفارق الدّنيا - رحمة الله عليه - سابع ربيع أوّل المشرّف بولادته صلى الله عليه وسلم سنة خمس وتسعين ومائة وألف (645) وله من العمر أربعون سنة. وكتب بعضهم على تابوته قوله:
[الطّويل]
فهذا الّذي قد كان يعبد ربّه
…
ويخشى إلى أن مات في خلواته /
حليف التّقى والصّوم والصّمت دهره
…
ففيها نجاة المرء من هفواته
لقد مات في تسعين مع خمس خلت
…
وألف ومائة قل ذاك عام وفاته
ترجمة الولي أبي عبد الله محمّد أبو مغارة:
وممّن رأيناه وعرفناه من مجاذيب الوقت الرّجل الصّالح العارف بالله تعالى أبو عبد الله سيدي محمّد أبو مغارة إبن الرّحّال السوسي.
كان في ابتداء أمره قدم من بلد السّوس إلى صفاقس فأقام بها وحفر مغارة في وسط المقابر فينزل إليها ويبيت بها ليلا وحده منفردا فيدخل البلد نهارا يطلب قوته، فإذا جنّ اللّيل خرج وبات بها، فمن ثمّ سمّي أبا مغارة. ثمّ أخذ يتعلّم الحروف حتّى تمرّن عليها
(645) 2 مارس 1781 م.
واستخرج الخطّ كما يتعلّم الأطفال من غير داع يدعوه بل سوق إلاهي، فلمّا استمرّ على الخطّ صار لا يسمع بآية من كتاب الله واعظة زاجرة إلاّ كتبها، وكتب سورة «يس» و «المفصل» ، وأضاف إلى ذلك مواعظ بعض الصّالحين ممّا يناسب تلك الآيات الكريمة كقوله:
[مجزوء الرمل]
إنّما الدّنيا كبيت
…
نسجتها (646) العنكبوت
إنّما يكفيك منها
…
أيّها الرّاحل قوت
ثمّ بعد مدّة إنتقل لجربة، فحفر بها مغارة تحت الأرض كما فعل بصفاقس، ونزل بحفرها حتّى وصل الماء فوجده عذبا فصار يملأ منها ويسقي النّاس مجانا.
وله إشارات كثيرة، فمنها أنّه إذا ملأ الماء وصبّه على وجه الأرض إستبشر النّاس بقرب نزول الغيث، فإن صبّ كثيرا نزل الغيث الكثير، وإن صبّ قليلا نزل القليل، وإذا صرخ في الأسواق دلّ على نزول بلاء بالمسلمين / جرّب مرارا فصحّ، وكان يكثر الغلث (647) في إشاراته ولا يفهمها إلاّ من مارسه، وربّما لا تفهم إشاراته إلاّ بعد وقوع ما أشار به، فمن إشاراته أنّه وقعت قرّة شديدة بالشّتاء بات النّاس منها في كرب فأصبح الشّيخ مصفرّ الوجه من شدّة البرد لأنّه كثيرا ما يدخل البحر لغسل ما يلحقه من الوسخ والقمل، فيأتي المحاويج (648) فيأخذون ثيابه ولا يتركون منها إلاّ ما يواري السّوءة فيلبسه ويدخل الأسواق فيكسوه أهل الخير، فلما نزلت القرّة أذاه البرد أذى شديدا، فجاء وجلس بجانبي واشتكى البرد وتمنّى ما يقي به مهجته من الثّياب، وكنت في شغل، فخطر في بالي أنّي إذا أفضيت (649) أذهب إلى محلّي أعطيه برنسا قديما كان عندي، فما استتممت الخاطر إلاّ وهو ينادي، وكان يسمّيني بسيدي عبد العزيز التّبّاع، وقال لي: هل تعرف مناسك الحج؟ فقلت: نعم! فقال: كم أركانه؟ فقلت: قل نسمع، وقلت: لعلّه يتكلّم بكلام غير ما يقوله (650) الفقهاء، فقال: هي أربعة، فقلت: نعم، وهي كذلك، فقال:
أوّلها الإحرام، والإحرام يمنع المخيط بالعضو، فقلت: نعم، ثمّ دخل وخرج وزاد في
(646) في الأصول: «أنسجتها» .
(647)
أي التخليط.
(648)
ج محتاج.
(649)
أي صار لي من الوقت فراغ.
(650)
في الأصول: «يقله» .
الكلام لغوا ثمّ رجع وقال: الجديد يحبّه الرّبّ، ويفرح به القلب، ثمّ دخل في كلامه وخرج وجعل يكرر الإحرام وممنوعاته فسرى ذهني للبشارة بحجّ جديد، ثمّ فكرت في مقتضى الحال الموجب لكلامه فإذا هو البرد / وأنّي خطر ببالي أنّي نكسوه برنسا قديما فهذه إشارة منه لترك هذا البرنس لأنّه مخيط قديم، وأنّه يطلب عباءة جديدة كما يلبسه المحرم، فلمّا استقر في ذهني هذا المعنى التفتّ إليه وقلت له: أركان الإحرام أربعة نشير إليه أنّي قد فهمت إشارته، فأعرض عنّي وكأنّه لم يصدر منه ما قال، ثمّ خاطب نفسه مكنيا عني بقوله: هذا ما بقي يفوته شيء، قاع، ولفظة قاع (651) يستعملها أهل السّوس (652) لمعنى الإحاطة والشّمول فكأنّه يقول: لا يفوته شيء من الأشياء كلّها، فلمّا فهمت مراده إشتريت عدّة عبائن (653) وخيّرته في جميعها فاختار واحدة تليق بحاله فأخذها ودعا بخير وانصرف.
ومن إشاراته أنّي كنت خائفا فوات شيء يترتّب عليه ضرر كثير في الدّين والدّنيا، وتحيّرت من ذلك كثيرا مدّة، وارتقبته فأبطأ مجيئه ولحقني من ذلك حرج في الصّدر، وفكّرت في شأنه ليلا ونهارا حتّى أقلقني وطلبت من الله الخلاص وتطمين السّرّ، ولم يطلع على سرّي إلاّ علاّم الغيوب، فبينما أنا جالس ذات يوم وإذا به ينادي: من يكسوني قميصا يرى الآية الكبرى، فنادى بذلك فلم يجبه أحد ولا فهم له أحد مقصودا، فألهمني الله إلى مراده وقلت: هذا رجل من رجال الله ساقه الله وكانت ليلة عيد الفطر، وهذا عريان يطلب سترا، ولعلّ الله / يجعل على يديه الفرج وهذا بشارة من الله بحصول المقصود، فلا بدّ من جبره لعلّ الله يجبرنا، فناديته وقلت له: أحقّا ما تقول؟ فقال:
نعم، نعم، نعم، فأكّدت عليه، فقال: جرّب ترى، فناولته قميصا جديدا يليق به وأكملت (654) بقيّة يومي ونمت وأنا بين اليأس والرجاء، فو الله ما أصبح الصّبح إلاّ وقد أتى البشير بحصول المقصود فكان يوم سرور بعيد الإسلام وبحصول ما كنت خائفا فواته.
ومنها أنّه دخل عليّ خارجي (655) حال قراءتي مختصر الشّيخ خليل (656) وباحثني في
(651) القاف المعقدة كالجيم المصرية والذي سمعناه من المغاربة «قع» بدون ألف.
(652)
يستعملها أهل المغرب الأقصى قاطبة لا خصوص أهل السّوس.
(653)
عباءة، وفي ط:«عبيان» .
(654)
في ط: «كملت» .
(655)
أي إباضي.
(656)
بالزّاوية المرادية بجربة.
مسألة الكلام، وقال: كيف تقولون بقدم كلام الله، والله يقول: ذكر محدث (657) فأجبته بأن الحدوث في تنزيله ولا يلزم منه حدوثه في نفسه فإنّ المعنى القائم بالذّات الأقدس باق على ما هو عليه من القدم، والحادث هو التّنزيل على أنّ النّازل اللّفظ الدّال عليه، ونزول اللّفظ الدّال نزول المعنى من حيث الدّلالة، فالحادث والنّازل هو اللفظ، ثمّ أكثر من تخليطاتهم، وأجبته عمّا سأل فخرج وانصرف وبقيت كالمتفكّر في هذا المذهب وفي حال أهله، وتعجّبت من قوم يرغبون بأنفسهم عن المنهج القويم ويرضون لأنفسهم بشنائع البدع، فما مضت ساعة أو ساعتان فإذا به قادم من السّوق كأنّه طالب لأمر أو كأنّ سائقا يسوقه وهو يتلو قوله تعالى {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (658){وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (659) فحمدت الله وازددت يقينا وتحقّقت أنّ مذهب السّنّة لا يعلمه إلاّ خواص خلق الله، ورسخت مسائل السّنّة في قلبي رسوخا أغنى عن الدّليل من حيث أنّ الله أطلع هذا الشّيخ عن هذا الخاطر وألهمه للنّطق بهذه الآية الكريمة المناسبة لحال ما كنّا فيه، وتبيّن لي أنّه من الرّجال العارفين بالله، القائمين على الحقّ ومذهب السّنّة.
ومنها أنّي كنت متوجّها لبرّ المشرق (660) فجاء بعض الإخوان وقال لي: قم لنأخذ خاطر الشّيخ وتحصل لنا بركة زيارته، ومن عادته أنّه لا يحب من يأتيه لمكانه مخافة كثرة النّاس عليه، ولأنّه إذا كشف الله له عن شيء من حال أحد وسخّره الله للإعلام به قصده وأشار إليه من غير أن يتعرّض له السائل وإن لم يطلعه أو لم يسخّره فلا فائدة في السّؤال، فلمّا رآنا قادمين عليه أظهر الإعراض عنّا وكأنّه ما رآنا ولا عرفنا قطّ، وكان كثيرا ما ينشد كلام العارفين بالله ويتواجد بذلك، وكان رفيقي يعرف من ذلك الكلام الّذي يقوله الشّيخ ويتواجد به، فلمّا رآى إعراض الشّيخ تكلّم صاحبي بذلك الكلام على الصّناعة الّتي يقول الشّيخ بها فإذا بالشّيخ تلقّف ذلك الكلام وصار يقول هو بنفسه واعتراه حال وتمادى في كلامه وحاله، فلمّا فرغ وسكن ما به إنبسط لنا بعض انبساط فعند ذلك قال له / زوّد أخانا هذا صالح دعائك، فإنه متوجّه للسّفر، فقال: أعطاه
(657) مستوحاة من الآية 2، سورة الأنبياء، أو من الآية 5، سورة الشّعراء.
(658)
سورة لقمان: 25.
(659)
سورة يوسف: 21.
(660)
في ش: «إلى المشرق» .
الصّالحون إثنتي عشرة خبزة، وبسط يديه للدّعاء والفاتحة، وبسطنا أيدينا لذلك، فدعا ما تيسّر وقرأنا فاتحة الكتاب وانصرفنا، فلم ندر هذه الإثنتي عشرة ما هي، بل ولم نلتفت إليها كبير التفات، فلمّا عملنا على السّفر إستعمل الأهل خبزا للسّفر فلمّا أحضروه عدّوه من غير وعد ولا سؤال وأنا أنظر فإذا هو إثنتا (661) عشرة خبزة. فلمّا شرعنا في السّفر جعلنا نأكل كلّ يوم واحدة فما فرغت الإثنا (661) عشرة خبزة إلاّ وإسكندريّة أمامنا في إثني عشر يوما، وكان ربح المال إثني عشرة مائة، ومدّة الغيبة عن الأهل إثني (662) عشر شهرا.
ومن إشاراته أنّي تزوّجت بصفاقس، ودخلت جربة بعد ذلك فجلست بإزاء بعض الإخوان فإذا بالشّيخ وارد علينا، وسأل الأخ: أين كان هذا؟ فقال له: تزوّج بصفاقس، فقال له الشّيخ: أعطوه ناصريا وموزونتين فلم نلتفت لقوله ولم نفهم مراده، فقال ذلك الأخ: لا تلد لك هذه المرأة إلاّ ولدا ذكرا وبنتين، فو الله ما وقع إلاّ ما أشار إليه، وانتقلت لرحمة الله بالطّاعون.
ولقيته يوما في مكان خال فوقف وقال: كانت شينة وتعود إن شاء الله زينة، وكرّر ذلك فعلمت أنّ الله ساقه لي وأنّ هذه بشارة بالهداية في ساعة إجابة، فسألته الدّعاء الصّالح زيادة على ما قال، فزادني / فمن تلك السّاعة والحمد لله أقبل الله بقلبي للخير ولم نزل (663) نجد بركة ذلك الدّعاء وإنّا نتوسّل إلى الله العظيم بنور وجهه الكريم، وبنبيّه الرّحيم، وبملائكته المقرّبين، والشّهداء والصّالحين أن نقبل (664) بقلوبنا لما يحبّه ويرضاه.
وكان - رحمه الله تعالى - يطلب قوته من النّاس، وقد يسأل شيئا معيّنا فتارة يعين قليلا وتارة يعين كثيرا، وعادة النّفس أن تسمح بالقليل وتبخل بالكثير، فيقول: لا عليك، القليل بالمكسب القليل، والكثير بالكثير، فو الله ما يكون إلاّ ما يقول، فلمّا جربنا ذلك صرنا نتمنى أن يسأل الكثير لأنّ النفس تحبّ المال حبّا جمّا ولا يرغب أحد عن فضل الله. هذا بعض ما شاهدت من إشاراته ولو تتبّعنا جميعها لطال بنا الحال، وفي هذا القدر كفاية.
ومن أغرب ما وقع أنّه قدم أبناء جلود قيادا على جربة، وسعوا في قطع أعيان أهل
(661) في الأصول: «إثني» .
(662)
في ش: «إثنتي» .
(663)
ساقطة من بقية الأصول.
(664)
في الأصول: «يقبل» .