الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانت ولادته ببلدة جمّنة سنة سبع وثلاثين وألف (563)، وتوفّي ليلة الجمعة خامس أشرف الرّبيعين بمولده عليه الصلاة والسلام سنة أربع وثلاثين ومائة وألف (564)، فكانت مدّة إقامته بالمدرسة خمسين سنة، ولم يخلّف رحمه الله عقبا ودفن بالمدرسة (565).
فلمّا سمع سيدي حسين باي رحمه الله أمر ببناء قبّة على الشّيخ فبنيت وجاءت على أحسن ما ترى العين، وأبهج شيء عند النّفس مع أنّها بالحجر والجير، ولكن نور من الله قلّ أن يرى مثلها.
قيل إنّ بعض الأمراء أمر بعض المهندسين ببناء قبّة على بعض الصّالحين فجاءت في غاية الحسن والبهجة فأمره السّلطان أن يبني له مثلها، فبنى قبّة لم ير عليها ما على قبّة الصّالح من النّور فغضب السّلطان وقال: إنّما أمرتك ببناء مثل الأخرى فما هذه؟ فقال:
والله بذلت جهدي في إستقصاء الصّنعة في هذه أكثر من الأخرى، فهذه القبّة وأين الصّالح؟ لو نقلته لكانت كالأخرى، فتلك جسد بروحه وهذه جسد بلا روح، وشرف البقاع وحسنها إنّما هو بساكنها.
ترجمة الشّيخ عمر بن محمّد الجمّني:
وقام بالزّاوية بعد الشّيخ رحمه الله الشّيخ الهمام الفاضل والعمدة الكامل إبن أخيه، وهو الشّيخ سيدي عمر بن محمّد - المقدّم الذّكر - فكان قيامه أحسن قيام، وله مشاركة تامّة في المعقول والمنقول.
ترجمة الشّيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الجمّني:
وبعد وفاته / خلفه أخوه شيخنا الشّيخ أبو إسحاق سيدي إبراهيم بن محمّد، فقام بالزّاوية قيام أخيه ولحظه الباشا رحمه الله لحظا قويّا وأحبّه لحب الشّيخ الأكبر،
(563) 1627 - 1628 م.
(564)
24 ديسمبر 1721 م.
(565)
أنظر عن إبراهيم الجمّني: «مؤنس الأحبّة في أخبار جربة» ، ص: 95 - 96، شجرة النّور الزّكيّة 324، إتحاف أهل الزّمان 3/ 103، الحلل السّندسيّة 3/ 296 - 302. ويبدو أن المؤلّف إعتمده ونقل عباراته بنصّها، عدا التّحلية الطّويلة وبداية من الكلام عن غرق السّفينة. تصرّف في النّقل بالحذف أحيانا وبزيادات أحيانا أخرى.
وأمر ببناء دور في الزّاوية فوق الدّور الذي بناه مراد باي - رحمه الله تعالى -.
وفي أيّامه أرسل الشّيخ الصّالح سيدي عبد الرّحمان أبو سيف (566) مكتوبا للشّيخ يأمره ببناء الفسقيه الكبيرة خارج الزّاوية تحت الوكالة الصّغرى، وأرسل من المال مائة دينار وقال: كلّما تزيده عرّفني به أرسل لك به، فبنيت وكانت من الأعمال النافعة المتقبّلة إن شاء الله تعالى.
وفي أيّامه عظم النّفع وكثر الوارد على المدرسة حتّى بلغ عدّة الطّلبة سنة قراءتنا بها مائتين وسبعين طالبا، ما بين متعلّم للسّنّة ومتعلّم للقرآن الكريم، وعظم الإجتهاد مبلغا لم نره في غيرها شرقا ومغربا لأنّ عادتهم في قراءة المختصر أنّ يوم الإبتداء ينظر الطّلبة درسا من أوّله ودرسا من النّصف الثّاني وهو باب البيوع، فإذا جاء الليل دخل (567) نجباء الطّلبة وتبع كلّ واحد منهم طائفة من المبتدئين فيقدّمون الدرس الأوّل إلى جوف اللّيل ثمّ يذهبون إلى خلواتهم لاستراحة النّوم، فإذا قرب الفجر جاء رجل عيّنه الشّيخ بيده عمود يضرب به أبواب الخلوات فيوقظهم ولا ينتقل عن باب خلوة حتّى يفتح صاحبها بابها، فإذا فتح باب خلوته إنتقل لغيرها، فتوقد المصابيح ويقدّمون لهم درس البيوع فيوافق / فراغهم طلوع الشمس، فيدخل سيدي أحمد بن عبد الصّادق (568) بشرح الخرشي فيقرئ الدّرس الأوّل ثمّ يخرجون، ويرجع بعد الزّوال فيكمل الدّرس الثّاني، وإذا جاء الليل فعل المتقدّمون فعلهم الأوّل، فإذا أصبح الصّبح دخل سيدي إبراهيم بن محمد بالشّيخ عبد الباقي فيقرئ الدّرس الأوّل من المختصر ويخرج فيدخل سيدي أحمد بن عبد الصّادق فيقرئ ما قدّمه الطّلبة أوّل الليل، ويخرج قرب الزّوال فيأكلون نصيبا من تمر حبس الزّاوية ويسبغون وضوءهم، ويرجع سيدي أحمد بن عبد الصادق فيقرئ ما قدّمه الطلبة آخر الليل ثمّ يخرج فيدخل سيدي إبراهيم بن محمّد فيقرئ باب البيوع وهكذا يستمرّ الحال، فيقدّم المقدّمون ويقرئ سيدي أحمد ما قدّموه ويقرئ سيدي إبراهيم ما أقراه سيدي أحمد فتكون الختمة (569) الواحدة بثلاث ختمات في تسعة أشهر، والذي يظهر فيه التأهّل من المقدّمين يجيزه الشّيخ ويرجع إلى بلاده، فيذهب كلّ سنة منهم
(566) في ط وت: «ابن يوسف» ، وفي ب:«أبو يوسف» . وأسرة أبو سيف من بوادي ليبيا وهم أناس أماثل أفاضل متديّنون.
(567)
ساقطة من ط وت.
(568)
سيترجم له المؤلّف فيما بعد.
(569)
في ط وت: «التمة» .
طائفة قد تفقّهوا في الدّين إلى قومهم يفقّهونهم وينشرون الفقه في الآفاق ويأتي في السّنة التي بعدها طائفة غيرهم وهكذا. وأقلّ ما أقرأ الشيخ سيدي إبراهيم بن محمّد ستّين ختمة، وتفقّه به خلائق لا يحصون كثرة من جميع الآفاق، ولم يبق هذه الأيام من ذلك الذي كان إلاّ بقايا، فإنّ الطاعون جرف أكثر الفقهاء من بلاد إفريقية سنة تسع وتسعين ومائة وألف (570)، وسبحان من لا تغيّره / الدّهور.
ثمّ إنّ سيدي إبراهيم بن محمّد إمتحن بني جلود كبار الوهبية (571)، وذلك إنه رحمه الله كان لحظه الباشا فاستنقذ أكثر النّاس من البدعة (572) وأدخلهم في السّنّة، ورجع جملة من الخطب للسّنّة.
فلمّا فرغت أيّامه رحمه الله طلب بنو جلود أن يكونوا قيّادا على البلاد فأسعفوا بذلك لخفاء دسائسهم على الأمير، فلمّا تولّوا سعوا في الأرض ليفسدوا فيها (573) فسعوا بسيدي إبراهيم وأظهروا باطلا في صورة حقّ وحلفوا بأيمانهم فانخدع الأمير لهم، وجعلوا على الشّيخ أموالا ثقيلة غرامة وضايقوه في استخلاصها منه، فالتجأ إلى النّاس واستلف منهم الأموال، فلمّا عجز خاف من السّجن بغضا منهم لرجال السّنّة، فكمن الشّيخ وأرسل خلف الرئيس أحمد غربال الصّفاقسي، وكان رجلا شجاعا مقداما مجاهدا لا يبالي بالرّجال بحرا ولا برّا، قلّوا أو كثروا، فلمّا حضر بين يديه كشف له الشّيخ عن حاله وما هو فيه فأخذت الرئيس أحمد حميّة السّنّة وغيرة الإسلام، فقال له: ما الذي تريد نفعله لك؟ قال: تخرج بي من هنا لصفاقس نذهب للأمير ونعتذر له ونكشف له عن تلبيسات هؤلاء الظّلمة المفترين (574)، ونستشفع بأهل الفضل والخير، فقال له: على بركة الله، فلمّا جنّ عليه الليل التحف الشّيخ في صورة رجل من رجال البادية كي لا يعرف في الطّريق، ولمّا وصل البحر إلتحف بصورة إمرأة وحمله على ظهره ودخل به البحر لمّا جزر ماؤه، وكان دخوله من غير الإسقالة لئلاّ / يفطن به أحد، فلمّا وصل السّفينة أدخله فيها، واجتنبه النّاس لظنّهم أنّه حرمة مسافرة معهم، فأدخله في بيت في مؤخّر السّفينة وغلق عليه الباب وسافر به ولا شعور لبني جلود بذلك، فلمّا وصل
(570) 1785 م.
(571)
الوهبية الاباضية.
(572)
يقصد مذهب الاباضية.
(573)
مستوحاة من الآية 205 سورة البقرة.
(574)
في الأصول: «المفترون» .