الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكِتَابُ:
المُقَدِّمَةُ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن القرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، والسُنَّة هي المصدر الثاني، لأنها مبيِّنة له، مُفَصِّلةٌ لأحكامه، مفرِّعة لأصوله، وهي التطبيق العملي للإسلام على يد رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، دان المسلمون لأحكامها من لدُن الرسول الكريم إلى يومنا هذا، وستبقى إلى جانب القرآن مصدر الأحكام، ومعين الآداب والأخلاق، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد كان التمسك بهما سرَّ نجاج الأُمَّة الإسلامية، وتقدمها، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم «تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ ، وَسُنَّتِي» .
ولكنه لم يرق لأعداء الإسلام قديماً وحديثاً، أنْ يروا ازدهار الأُمَّة الإسلامية وتقدمها، فعملوا على هدم أسس الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم، وكان من الصعب أنْ ينالوا من القرآن الكريم، فوجَّهُوا سهامهم إلى السُنَّة، وحاولوا تشويهها، فوضعوا الأحاديث، وطعنوا في بعض الصحيح منها، واتَّهمُوا بعض الرُواة الثقات، ولكن هذا لم ينل من السُنَّة أمام يقظة الأُمَّة وعلمائها الذين ذبُّوا عنها وحافظوا عليها.
وسلك أعداء الإسلام سُبُلاً مختلفة لإنكار السُنَّة جملة بعد التشكيك فيها ،
فادَّعى بعضهم أن السُنّة أهملت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من قرنين إلى أنْ جمعها بعض المُصَنِّفين في كتب السُنن في القرن الثالث الهجري، فلم تحفظ كالقرآن الكريم منذ ظهور الإسلام، ولهذا تسرَّبَ إليها الوضع، وأصبح من الصعب تمييز الحديث الصحيح من الموضوع
…
!! وادَّعَى بعض المستشرقين أنَّ جانباً من الحديث قد وضعه الفقهاء ليدعموا مذاهبهم الفقهية!!! وادَّعَى آخرون أنَّ السُنَّة كانت أحكاماَ مؤقتة لعصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبحت الآن عديمة الجدوى، وتسرَّبت هذه الفكرة إلى بعض البلاد الإسلامية، وأخذت شكلاً منظماً، فظهر في الهند جماعة تنادي بعدم الاحتجاج بالسُنَّة، سَمَّتْ نفسها (أهل القرآن)، وألَّفَتْ كُتُباً ورسائل كثيرة لنشر أفكارها (1).
هذه بعض دعاوى أعداء الإسلام، الذين أرادوا من ورائها إبعاد المسلمين عن دينهم، وخلخلة العقيدة في نفوسهم، ليتمكَّنُوا من نشر مبادئهم في بلادنا الإسلامية الطيبة، والسيطرة عليها مادياً بعد السيطرة عليها فكرياً، ومما يؤسف له أنَّ بعض شبابنا الذين لم يُتَحْ لهم أن يتثقَّفُوا بثقافة الإسلام قد اعتنقوا هذه الأفكار التي تخدم أعداءنا، وتفرق صفوفنا، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التمسك بما جاء في السُنَّة من أحكام وأخلاق وآداب وتوجيه وإرشاد، كما تعتز الأمم بتراثها وتفخر به، ويشهد المنصفون من علماء الأمم الأخرى
(1) انظر مقالة «تحقيق معنى السُنَّة وبيان الحاجة إليها» للعلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله.
بعظمة تراثنا التشريعي، فكيف يتنكر له بعض المسلمين، ونحن أحوج ما نكون إلى التمسك به، بعد أن عانى المسلمون وطأة الإستعمار فترة طويلة، وذاقوا مرارة التفرقة والهوان، بعد أن كانوا سادة العالم.
نحن - في نهضتنا - بحاجة إلى الرجوع إلى شريعتنا، إلى قرآننا وسُنَّة رسولنا، بعد أن حطمنا القيود، ونقضنا غبار الجهالة، ومزَّقنا عصابة العماية عن العيون، فلا بد لإتمام تحرُّرنا من أنْ نتخلَّص من هذه الأفكار التي تسرَّبت إلى صفوفنا، وحملها بعض إخواننا وأبنائنا، سواء أكان هذا عن حسن نية منهم أم عن سوء نية، لأنها تخدم أعداءنا الذين لا يسرهم اجتماع كلمتنا وسعادتنا.
ولما كانت السنة مُبيِّنة للقرآن الكريم، ولا يمكن الاستغناء عنها، ولما كان الواقع في حفظ السُنَّة يخالف ما ادعاه المغرضون، كان لا بد من تناول السُنَّة بدراستها وبحث تاريخها، وقد بيَّن الأصوليون وبعض المُحدِّثين مكانة السُنَّة من التشريع الإسلامي، وبقي أن تُبيِّن الحقيقة التاريخية للسُنَّة وكيف اعتنى السلف الصالح بها وحفظها ونقلها قبل أن تصلنا في كتبها المشهورة.
وقد رأيت أن أتناول هذا الجانب من البحث في فترة ما قبل التدوين، وأقصد بالتدوين هنا التدوين والتصنيف المشهور، الذي كان في مطلع القرن الهجري الثاني تمشياً مع عرف علماء الحديث، والذي يعود الفضل فيه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، فليكن هذا هو التدوين الرسمي، ذلك لأنه قد ثبت تدوين جانب من السُنَّة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة.
تلك أسباب لاختيار هذا الموضوع، وسبب آخر هو أنه لم يسبق لأحد أنْ بَحَثَ كيف اجتازت السُنَّة تلك الحقبة بحثاً دقيقاً وافياً، إنما كان بحث السلف في هذه الناحية لا يعدو ذكر لمحات عن تلك الحقبة، لاقتناعهم واقتناع المسلمين بأنَّ
السُنَّة قد حفظت على أحسن وجه، بفضل حُفَّاظها وعلمائها، لهذا توزعت مادة البحث في مراجع كثيرة، في كتب الحديث وشروحها، وكتب مصطلحه وعلومه، وفي تراجم الرُواة، وكتب التاريخ والأصول وغيرها، وإذا كانت هذه النتف تشكل معظم مادة الموضوع، فإنها لا تعطي - كما هي - صورة كاملة عن حقيقة السُنَّة وحفظها آنذاك.
هكذا أقدمت على دراسة السُنَّة في تلك الفترة، من خلال أمهات المصادر، المخطوط منها والمطبوع، قديماً وحديثاً، ويممت شطر أمهات دور الكتب العامة والخاصة، في دمشق وحلب والقاهرة .. ورجعت إلى مخطوطات نادرة، كما صَوَّرْتُ بعض المخطوطات من البلاد التي لم تتيسَّرْ لي زيارتها، فكان البحث شاقاً من جهة، ويتطلَّب الدقة من جهة أخرى، واضحاً حيناً، ومُعَقَّداً أحياناً، ومع هذا تابعت البحث بروح علمية، يحدوني الصبر، وتعللني ومضات الأمل. وكان لإشراف فضيلة الأستاذ علي حسب الله وتشجيعه، أثر طيب في إخراج هذا الموضوع بثوب جديد، يصوِّرُ السُنَّة في تلك الفترة تصويراً دقيقاً، من حيث عناية الأمَّة بها وحفظها، والاهتمام بنقلها، والتثبت في روايتها على أسلم القواعد العلمية، وكتابتها ونشاط العلماء في تبليغها، وحرصهم على صيانتها، وعوامل انتشارها، ودراسة الأسباب التي كادت تسيء إليها، وجهود العلماء في سبيل حفظها.
وقد تعرضتُ لكثير من الشبهات والآراء، وناقشتها، ورددت عليها، وبيَّنت وجه الحق مدعماً بالأدلة والبراهين، فكان الموضوع في تمهيد وخمسة أبواب وخاتمة.
التمهيد، وفيه:
أولاً: التعريف بالسُنَّة لغة وشرعاً.
ثانياً: موضوع السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم.
الباب الأول: السُنَّة في العهد النبوي.
وفيه تحدَّثتُ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث هو معلم ومربّ، وبيَّنتُ موقفه عليه الصلاة والسلام من العلم، ومنهجه في التبليغ، وتعليم أصحابه رضي الله عنهم، وكيف كان الصحابة يتلقون السُنَّة عنه عليه الصلاة والسلام.
الباب الثاني: السُنَّة في عصر الصحابة والتابعين، وفيه فصلان:
الفصل الأول، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تأسِّي الصحابة والتابعين بالرسول صلى الله عليه وسلم وتمسُّكهم بسُنَّته.
المبحث الثاني: احتياط الصحابة والتابعين وورعهم في رواية الحديث.
المبحث الثالث: ثتبُّت الصحابة والتابعين في قبول الحديث.
المبحث الرابع: كيف رُوِيَ الحديث في ذلك العصر باللفظ أم بالمعنى؟
الفصل الثاني، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين.
المبحث الثاني: انتشار الحديث في عصر الصحابة والتابعين.
المبحث الثالث: الرحلة في طلب الحديث.
الباب الثالث: الوضع في الحديث، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: ابتداء الوضع وأسبابه.
الفصل الثاني: جهود الصحابة والتابعين ومن تبعهم في مقاومة الوضع وحفظ الحديث.
الفصل الثالث: آراء بعض المستشرقين وأشياعهم في السُنَّة ونقدها.
الفصل الرابع: أشهر ما أُلِّف في الرجال والموضوعات، وهو ثمار جهود العلماء في المحافظة على الحديث.
الباب الرابع: متى دُوِّن الحديث؟ وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: حول تدوين الحديث، وفيه أخبار حول كتابة السُنَّة، وأخرى حول كراهية كتابتها، ومناقشة الأخبار وخلاصة هذه المناقشة.
الفصل الثاني: ما دُوِّنَ في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صدر الإسلام.
الفصل الثالث: آراء في التدوين.
الباب الخامس: بعض أعلام رُواة الحديث من الصحابة والتابعين، وفيه فصلاة:
الفصل الأول: بعض أعلام الرُواة من الصحابة.
وفيه تعريف الصحابي، وعدالة الصحابة، ثم ترجمة المكثرين من الحديث منهم وهم:
1 -
أبو هريرة.
2 -
عبد الله بن عمر.
3 -
أنس بن مالك.
4 -
عائشة أم المؤمنين.
5 -
عبد الله بن عباس.
6 -
جابر بن عبد الله.
7 -
أبو سعيد الخدري.
الفصل الثاني: بعض أعلام الرُواة من التابعين:
1 -
سعيد بن المسيب.
2 -
عروة بن الزبير.
3 -
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
4 -
نافع مولى ابن عمر.
5 -
عبيد الله بن عبد الله.
6 -
سالم بن عبد الله بن عمر.
7 -
إبراهيم النخعي.
8 -
عامر الشعبي.
9 -
علقمة النخعي.
10 -
محمد بن سيرين.
وقد يتبادر للوهلة الأولى أنه يمكننا الاستغناء عن الباب الخامس، بما جاء في كتب التراجم، ولكني رأيت من الأهمية بمكان أن أدرس بعض رجال الحديث من الصحابة والتابعين، لأُقَدِّم نموذجاً عظيماً عن القلوب الواعية التي حفظت السُنَّة، والأيدي الطاهرية التي نقلتها بأمانة وإخلاص، على أسلم قواعد التثبت العلمي، وبخاصة أنَّ بعض أهل الأهواء والمستشرقين، كانوا قد طعنوا في مشاهير الرُواة منهم، فرأيت إتماماً للبحث أنْ أُفَنِّدَ طعونهم وافتراءاتهم حين أترجم لهم، وأبيِّنُ الحق من الباطل، بعد أنْ أصحبت أمهات كتب تراجم رجال الحديث في عصرنا نادرة جِدًّا، وقد يعْسر على طلاب العلم الرجوع إليها، فرجح عندي الإقدام على ضم هذا الباب إلى الموضوع، وبهذا أكونُ قد بيَّنْتُ حياة السُنَّة في هذه الحقبة، ودرست مشاهير حُفَّاظها ونَقَلَتِهَا.
وكانت الخاتمة خلاصة عامة للبحث.
وإني لأرجو الله الكريم أنْ أكون قد وُفِّقْتُ لعرض الموضوع بشكل يحقق الغاية منه، فإني لم آلًُ جهداً، ولم أدَّخِرْ وُسعاً للوصول إلى الحقيقة، وأنا مع هذا لا أدَّعي الكمال في بحثي، وكل ما قُمتُ به لا يعدو محاولة علمية لدراسة السُنَّة وتاريخها في فترة معينة على منهج علمي يسهل الرجوع إليه.
وأسأل الله عز وجل أنْ يوفق الأجيال إلى دراسة الشريعة الإسلامية الخالدة، وفهمها وتطبيقها، وأنْ يجمع العرب والمسلمين جَمِيعًا على كتاب الله وسُنَّة رسوله، ليهتدي بهديه، وتعيد للعالم نضارته، وتُحَقِّقَ سعادته، كما حقَّقَها أسلافنا العظام.
وأخيراً أشكر فضيلة أستاذي المشرف، الذي شملني بعطفه وتوجيهاته، مع كثرة واجباته وتبعاته، وضيق وقته، كما أشكر كل مَنْ ساعدني مِنْ أساتذتي وإخواني، وسهَّل مُهمَّتي.
وختاماً أرجو كل من يطَّلع على هذ البحث فيجد ما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، أن يفيدني بما عنده، والله أسأله الرشاد والسداد.
…
29 جمادى الأولى 1382 هـ
28 أكتوبر (تشرين الأول) 1962 م
محمد عجاج الخطيب