الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ:
بَيْنَ يَدَيْ الفَصْلِ:
كان مصدر التشريع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وَسُنَّةَ رسوله: ينزل الوحي، فيبلغه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الناس كافة، وَيُبيِّنُ مقاصده، ثم يطبق أحكامه، فكان صلى الله عليه وسلم المرجع الأعلى في جميع أمور الأمَّة، في القضاء والفتوى، والتنظيم المالي والسياسي والعسكري: يعالج الأمور على مرأى من أصحابه رضي الله عنهم، وعلى ضوء القرآن الكريم، فإنْ وجد حُكْمًا للقضية فصل فيها، وإن لم يجد اجتهد فيها حِينًا، أو انتظر الوحي أحيانًا، ليعرف حكم الله تعالى، وقد يجتهد فينزل الوحي مُصَحِّحًا لاجتهاده، لأنَّ الله عز وجل لا يُقِرُّ رسوله على الخطأ.
ثم ما لبث أن انتقل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وانقطع الوحي. ولم يبق أمام الأُمَّةِ إلَاّ القرآن العظيم وَالسُنَّةِ الشَّرِيفَةِ، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم:«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ ، وَسُنَّتِي» (1) وتمسك الصحابة والتابعون بِسُنَّتِهِ عليه الصلاة والسلام اتباعًا لأوامر الله تعالى بطاعته وقبول حكمه في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
(1) أخرجه الحاكم في " المستدرك "، وانظر " جامع بيان العلم وفضله ": ص 180 جـ 2.
(2)
[سورة الحشر، الآية: 7].
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).
والاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد وفاته، وقد امتثل الصحابة لأوامر الله تعالى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وَنَفَّذوهَا مخلصين، وحموا الشريعة بالمال والدماء، وكذلك فعلوا بعد وفاته، وُقُوفًا عند وصيته عليه الصلاة والسلام، التي سمعها منه الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، ويرويها العرباض بن سارية رضي الله عنه فيقول:«وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعظةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأوْصِنَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثيرًا، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِيِّنَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ» (3). فأخذوا بِسُُنَّتِهِ عليه الصلاة والسلام، وتمسكوا بها ، وَأَبَوْا أنْ يكونوا ذلك الرجل الذي ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عز وجل، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ
(1)[سورة النساء، الآية: 65].
(2)
[سورة آل عمران، الآية: 132].
(3)
الحديث الثامن والعشرون من " الأربعين النووية ": ص 67 وقال: رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وأقول: رواه أَيْضًا الدارمي في " سننه "، انظر " سنن الدارمي ": ص 26، طبعة سنة 1293 هـ.
حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» (1)، بل وقفوا من السُنَّةِ موقفًا عظيمًا، وَرَدُّوا على كل من فهم ذاك الفهم، رَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ:«أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: حَدِّثُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا تُحَدِّثُوا عَنْ غَيْرِهِ. فَقَالَ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ!! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ صَلَاةَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لَا يُجْهَرُ فِيهَا [بِالْقِرَاءَةِ]؟، وَعَدَّ الصَّلَوَاتِ وَعَدَّ الزَّكَاةَ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ قَالَ: «أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ، وَالسُنَّةُ تُفَسِّرُ ذَلِكَ» (2)، وَقَالَ رَجُلٌ لِلْتَّابِعِيِّ الجَلِيلِ مُطَرِّفْ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لا تُحدِّثُونا إلَاّ بِالقُرْآنِ. فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: «وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ مِنَّا» (3).
وسنستعرض الآن تَأَسِّي الصحابة والتابعين بالرسول وَتَمَسُّكَهُمْ بِالسُنَّةِ المُطَهَّرَةِ، ثم احتياطهم وورعهم في رواية السُنَّةِ، ثُمَّ تَثَبُّتَهُمْ في قبول الأخبار والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)" سنن ابن ماجه ": ص 5 جـ 1 و " سنن البيهقي ": ص 6 جـ 1 رواه المقدام بن معدي كرب.
(2)
" كتاب العلم " للمقدسي، مخطوطة الظاهرية: ص 51 و " جامع بيان العلم وفضله " ص 191 جـ 2.
(3)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 191 جـ 2.