الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أحد، وعرف المسلمون قادتهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من السهل أنْ يُغيِّرَ بعضُ الصحابة والتابعين وجه الحق - كما زعم عبد الحسين - لإرضاء الخليفة وإشباع ميوله ورغباته، وإنَّ من يحاول إثبات صِحَّةَ هذا الخبر لَيَتَجَنَّى على الأُمَّة جميعها، ويجعل من عاصروا تلك الحوادث بُلْهًا مُغَفَّلِينَ، يعمى عليهم الحق بالدعايات الكاذبة والأخبار الموضوعة، والواقع يثبت خلاف ذلك، ويثبت وضع الخبر وعدم صِحَّتِهِ.
ثم إن الخبر الثاني - وهو قدوم أبي هريرة العراق -، من رواية الإسكافي، وهو مردود عندنا، لضعف راويه، ولو سلمنا صحته فليس في هذاما يضير أبا هريرة، لأنه يدفع عن نفسه ما أشاعه بعض خصوم الأمويِّين حوله، وإنَّ الحديث الذي رُوِيَ عن أبي هريرة ليس فيه الزيادة التي اختلقت في ذم الإمام عَلِيٍّ (1) لينال أبو هريرة أجره من معاوية أو غيره.
4 - كَثْرَةُ حَدِيثِهِ:
أخذ النَظَّامُ المعتزلي على أبي هريرة كثرة أحاديثه، وتابعه بعض المعتزلة قديمًا، ومنهم بشر المريسي، وأبو القاسم البلخي (2). وقد رَدَّ ابن قتيبة على النَظَّامِ في كتابه " تأويل مختلف الحديث "، ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الذي سَوَّدَ صفحات كثيرة من كتابه " أبو هريرة "(3)، يشكك في مروياته ويستكثرها، ويوهم القارئ أن ما رواه أبو هريرة أكثر مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة
(1) انظر " صحيح مسلم ": ص 999 حديث 469 جـ 2.
(2)
انظر كتابه " قبول الأخبار ومعرفة [الرجال] ".
(3)
انظر كتابه " أبو هريرة ": ص 45 وما بعدها.
وسياستها، ويثير هذه الشبهة نفسها محمود أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية "(1)، ويستشهد هؤلاء جَمِيعًا بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحيانًا، وبتأويلات وموازنات باطلة أحيانًا أخرى، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر) الذي استكثر أَيْضًا مرويات أبي هريرة (2).
وحمل لواء الدفاع عن الحق قديمًا وحديثًا بعض العلماء الذين كشفوا عن نوايا هؤلاء، وبينوا الحق من الباطل، ومازوا الخبيث من الطيب (3).
وخلاصة أقوالهم، أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[5374 حديثًا]، وهي أكثر كثيرًا مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام، ومما يقوله عبد الحسين في هذا: «فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة، وتأخُّره في إسلامه، وخموله في حسبه، وَأُمِيَّتِهِ، وما إلى ذلك مِمَّا يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة، وسبقهم، واختصاصهم، وحضورهم تشريع الأحكام، وحسن بلائهم في اثنين وخمسين سَنَةً، ثلاث وعشرين كانت بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسع وعشرين من بعده، ساسوا فيها الأمَّة وسادوا الأمم
…
فكيف يمكن والحال هذه أَنْ يكون المأثور عن أبي هريرة وحده أضعاف المأثور عنهم جَمِيعًا؟ أفتونا
(1) انظر " أضواء على السنة المحمدية ": ص 162 وما بعدها.
(2)
انظر " دائرة المعارف الإسلامية ": مادة - حديث -.
(3)
تعرض لهؤلاء قديمًا ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث "، والدارمي في كتابه " رد الدارمي على بشر المريسي "، وتفرقت بعض الردود في كتب الصحاح وشروحها كـ " فتح الباري ". ومن المعاصرين من تولى الرد على هؤلاء: فللدكتور مصطفى السباعي " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " رَدٌّ على المستشرقين وعلى أَبِي رَيَّةَ، ولمحمد عبد الرزاق حمزة " ظلمات أبي رية " ولعبد الرحمن المعلمي اليماني " الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة " رَدًّا على أَبِي رَيَّةَ.
يا أولي الألباب!!؟ وليس أبو هريرة كعائشة وإنْ أكثرت أَيْضًا، فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلام أبي هريرة بعشر سنين، فكانت في مهبط الوحي والتنزيل، ومختلف جبرائيل وميكائيل أربعة عشر عَامًا، وماتت قبل موت أبي هريرة بيسير».
ثم وازن بينهما في الذكاء والفطنة، ثم قال: «على أنها اضطرت إلى نشر حديثها، إذ بثت دعاتها في الأمصار، وقادت إلى البصرة ذلك العسكر الجَرَّارِ. ومع هذا فإنَّ جميع ما رُوِيَ عنها إنما هو عشرة مسانيد ومائتا مسند وألفا مسند، فحديثها كله أقل من نصف حديث أبي هريرة
…
».
ثم يرى بعد ذلك أن حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ» يعارض كثرة حديث أبي هريرة، ويرى أنه إقرار صريح من أبي هريرة بأنَّ ابن عمرو أكثر منه حَديثًا. وقد بلغ مسند عبد الله بن عمرو (700) حديث.
ثم يزعم أَنَّ العلماء حاروا في أمر أبي هريرة ولم يروا مَخْرَجًا له، اللهم إلَاّ ما عَلَّلَهُ ابن حجر القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري، بأنَّ عبد الله بن عمرو قطن مصر بينما سكن أبو هريرة المدينة مقصد المسلمين. ومع هذا يرى كلام أبي هريرة صَرِيحًا يحبط تأويل واعتذار القسطلاني والأنصاري.
ويعود ليقارن بين مقام أبي هريرة في المدينة وعبد الله بن عمرو في مصر ويغمز جانب أبي هريرة ويجعله من المُتَّهَمِينَ عند من يفد إلى المدينة ويقول: «وكثيراً ما كانوا ينقمون عليه إكثاره على رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيقولون إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لَا يُحَدِّثُونَ مثل حديثه
…
». وينتهي عبد الحسين من تحقيقه هذا في كثرة أحاديث أبي هريرة.
إلى النتيجة الآتية حيث يقول: «والحق أنَّ أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن مُفْرِطًا هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية حيث لا أبو بكر ولا عمر ولا عَلِيٌّ ولا غيرهم من شيوخ الصحابة الذين يخشاهم أبو هريرة» (1).
من الغريب أنْ يعجب الكاتب لكثرة حديث أبي هريرة، ومن العجيب أَنْ يثير هذا في القرن العشرين!! فهل يعجب من قوة ذاكرة أبي هريرة أنْ تجمع (5374) حَدِيثًا؟ أم يعجب أنْ يحمل هذه الكثرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث سنوات؟.
إذا كان يعجب من قوة حافظة أبي هريرة فليس هذا مجالاً للدهشة والطعن، لأنَّ كثيرًا من العرب قد حفظوا أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة، فكثير من الصحابة حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار، فماذا يقول المؤلف في هؤلاء؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة رضي الله عنها شعرهم؟ وماذا يقول صاحبنا في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، من شعر الجاهلية دون الإسلام (2)؟ وماذا يقول في حفظ حبر الأمَّة عبد الله بن عباس؟ وحفظ الإمام الزهري والشعبي وقتادة بن دعامة السدوسي؟ فحفظ أبي هريرة ليس بِدَعًا وليس غريبًا وخاصة إذا عرفنا أنَّ تلك الأحاديث الـ (5374) مروية عنه ولم تسلم جميع طرقها. فأبو هريرة لا يتهم في حفظه وكثرة حديثه من هذا الوجه.
(1) انظر " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 55 وما بعدها.
(2)
انظر " الأعلام ": ص 301 جـ 2.
وإذا كان المؤلف يعجب من تحمل أبي هريرة هذه الأحاديث الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث سنوات، فقد غاب عن ذهنه أنَّ أبا هريرة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في سنوات ذات شأن عظيم، جرت فيها أحداث اجتماعية وسياسية وتشريعية هامة، وفي الواقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ تَفَرَّغَ تلك السنوات للدعوة والتوجيه بعد أَنْ هادنته قريش، ففي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وما بعدها انتشرت رسله في الآفاق ووفدت إليه القبائل من جميع أطراف جزيرة العرب. وأبو هريرة في هذا كله يرافق الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرى بعينيه، ويسمع بأذنية، ويعي بقلبه.
ثم إنَّ ما رواه لم يكن جميعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل روى عن الصحابة رضي الله عنهم ورواية بعض الصحابة عن بعضهم مشهورة مقبولة لا مأخذ عليها، فإذا عرفنا هذا زال العجب العجاب الذي تصوره مؤلف كتاب " أبو هريرة " وغيره.
ومن الخطأ الفاحش أَنْ يُقَارَنَ الخلفاءُ الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية، لأسباب كثيرة أهمها:
1 -
صحيح أنَّ الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صُحْبَتِهِمْ وإسلامهم، وَلَمْ يُرْوَ عنهم مثل ما رُوِيَ عنه. إلَاّ أنَّ هؤلاء اهْتَمُّوا بأمور الدولة وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء وَالقُرَّاءَ والقضاة إلى البلدان، فَأَدُّوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شؤون الأُمَّةِ. فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قِلَّةِ حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم، وهل لأحد أنْ يلوم عثمان رضي الله عنه أو عبد الله بن عباس لأنهما لم يحملا
لواء الفتوحات شرقًا وغربًا!!؟ لا، فكل امرئ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.
2 -
انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم واعتزاله السياسة، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل ذات خطأ كبير.
ثم إنَّ عبد الحسين شرف الدين وأبا رية يطعنان عليه في هذا المجال في حَسَبِهِ ونَسَبِهِ وَأمِّيَّتِهِ، فهل لهذه النواحي أثر في كثرة الرواية وَقِلَّتِهَا؟ لم يقل بهذا أحد.
وما رَدَدْنَا به عليه بالنسبة لمقارنته بالخلفاء الراشدين، يرد بالنسبة لمقارنته بالسيدة عائشة رضي الله عنها، ونضيف أَنَّ السيدة عائشة كانت تُفْتِي الناس في دارها، وأما أبو هريرة فقد اتَّخَذَ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكًا بالناس من السيدة أم المؤمنين بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح، وأضيف إلى هذا أَنَّ السيدة الجليلة كان جُلُّ هَمِّهَا مُوَجَّهًا نحو نساء المؤمنين، وكان يَتَعَذَّرُ دخول كل إنسان عليها. ومع هذا لَمْ يَكُفَّ المؤلف لكتاب " أبو هريرة " لسانه عنها، بل رأى أنها أكثرت أَيْضًا!! وهو في هذا يناقض نفسه.
أما أنه يرى حديث أبي هريرة أكثر من حديث السيدة عائشة وأم سلمة وحديث بقية أمهات المؤمنين وَالحَسَنَيْن وَأمَّهُمَا مع حديث الخلفاء الأربعة، فقد سبق الرد عليه، وأضيف أَنَّ أم سلمة لم تكن مَرْجِعًا للناس كالسيدة عائشة رضي الله عنهما، وأما الحَسَنَانِ فهما من صغار الصحابة، وقد اشتغلا في الأمور السياسية، فَبَدَهِيٌّ أنْ تكون مروياتهما قليلة، ومثل هذا يقال في أُمِّهِمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ، التي لم تعش سوىستة شهور
بعد وفاة الرسول الكريم - عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَفْضَلَ الصَلَاةِ وَأَتَمَّ التَّسْلِيمِ -.
فالأمر ليس مهولاً، يحتاج إلى تفكير أرباب العقول كما ادَّعَى!؟؟ وهل يقصد بأرباب العقول النَظَّام والجاحظ!؟.
إنَّ نظرة مُجَرَّدَةً عن الهوى تدرك أَنَّ مَا رُوِيَ عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء، وأعداء السُّنَنِ، وَإِنَّ ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء سمعه منه أو من الصحابة لا يشك فيه لِقِصَرِ صُحْبَتِهِ، بل إِنَّ صُحْبَتَهُ تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطًا وتعليمًا وتوجيهًا في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وأما طعنهم في حدين الوعاءين، وَتَهَكُّمُهُمْ على أبي هريرة، واستهزاؤهم بما في وعائه من العلم الذي لم ينشره، وتساؤلهم عن ذلك العلم، كل هذا قد طرقه العلماء، وَبَيَّنُوا أَنَّ ما عنده مِمَّا لم ينشر لا يتعلق بالأحكام أو الآداب، وليس مِمَّا يقوم عليه أصل من أصول الدين، بل بعض أشراط الساعة، أو بعض ما يقع لِلأُمَّةِ من الفتن (1) ويدل على ذلك حديثه الذي ذكر بعضه مؤلف كتاب " أبو هريرة "(2) ولم يذكر تعليق راويه الذي يُبَيِّنُ قصد أبي هريرة، قال أبو هريرة:«لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالبَعْرِ» . قَالَ الحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ [وَيُحْرَقُ] مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ!!» (3).
(1) انظر هامش (1) ص 462 من هذا الكتاب، وراجع " فتح الباري ": ص 227 جـ 1، و" الرد على المنطقيين ": ص 445، 446.
(2)
انظر " أبو هريرة " لعبد الحسين شرف الدين: ص 50 - 52.
(3)
" طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2 جـ 4، وص 119 قسم 2 جـ 2.
وأبو هريرة ليس بِدَعًا في قوله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص بعض أصحابه بأشياء دون الآخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَاّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ:«إِذًا يَتَّكِلُوا» (1). وأخبر به معاذ عند موته تأثُّمًا، خَوْفًا من أنْ يكون قد كتم العلم. ولم يكن معاذ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَلَا خَلِيفَتَهُ من بعده، فالأمر لا يحتاج إلى ولاية عهد ولا إلى وصاية، فَلِمَ ينكر الكاتب مثل هذا على أبي هريرة ولا ينكره على غيره؟ ثم ليعرف المؤلف الأمين الذي أساء كثيراً إلى أبي هريرة، وشتمه وكال له السِبَابَ كيلاً - أنَّ كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرمونه بالبعر وبالمزابل، بل لأنه أرأد أنْ يُحَدِّثَ الناس على قدر عقولهم، وأنْ يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون، وبهذا أوصى أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه (2).
أما قول أبي هريرة: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَا يَكْتُمُ، وَلَا يَكْتُبُ» ، فلا يتعارض مع حديث الوعاءين لأنَّ أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري، وما كتمه لم يكن من هذا، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مِمَّا لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه، وهذا النوع من العلم يجدر كتمانه، ومن الصواب عدم نشره وإعلانه.
- وأما ما استشهدوا به لدعم طعونهم في كثرة مرويات أبي هريرة، واحتجاجهم بما قاله أبو هريرة نفسه: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النََّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)" فتح الباري ": ص 236 جـ 1.
(2)
" فتح الباري ": ص 235 جـ 1.
أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ» (1) وبأن مرويات ابن عمرو التي لا تتجاوز سبعمائة حديث واستنباطهم من هذا أن أبا هريرة يُقِرُّ ويعترف بتقوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - فهو استشهاد في غير موضعه، بُنِيَ على تصوُّرٍ بَاطِلٍ، وفهم للحديث على خلاف الواقع.
إن قول أبي هريرة يدل على أَنَّ عبد الله بن عمرو كان أكثر أَخْذًا للحديث من أبي هريرة، لأنه كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب. ويحتمل أن يكون قول أبي هريرة هذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يدعو له بالحفظ، أو قبل أن يكون لديه من الحديث من الكثرة ما أصبح عنده بعد حين، وإذا استبعدنا هذا الفرض فكل ما في الأمر أنَّ عبد الله بن عمرو حمل من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أبي هريرة، إلَاّ أنه لم يَتَيَسَّرْ له نشره لأسباب نُبَيِّنُهَا أهمها:
1 -
أن اشتغال عبد الله بن عمرو بالعبادة كان أكثر من اشتغاله بالتعليم، ولذلك قَلَّتْ الرواية عنه، وإن لم يقل تحمله.
2 -
كان مقامه بعد فتوح الأمصار في مصر والطائف، وكان مقام أبي هريرة في المدينة متصدرًا فيها الفتوى، والتحديث إلى أن توفي، وكان طلاب العلم يقصدون المدينة مهجر الرسول وعاصمة الإسلام، أكثر مما يقصدون غيرها من بلاد الإسلام.
وأضيف إلى هذا ما اختص به أبو هريرة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يسمعه منه، وربما قلت الرواية عن عبد الله
(1)" فتح الباري ": ص 217 جـ 1.