الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - حَيَاتُهُ العِلْمِيَّةُ:
صحب أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وسمع منه كثيرًا، وشاهد دقائق السنة، ووعى تطبيق الشريعة، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلته، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، فكان مؤذناً وإمامًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتأخر في إجابته عما يسأل لما عرف من حرصه على طلب العلم. قال أَبُو هُرَيْرَةَ، - ذَاتَ يَوْمٍ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَاّ يَسْأَلُنِى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ» (1).
وكان همه طلب العلم، وأمله التفقه في الدين، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: عَلَيْكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي بَيْنَمَا أنا وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَفُلَانٌ فِي الْمَسْجِدِ، ذَاتَ يَوْمٍ نَدْعُو اللهَ، وَنَذْكُرُ رَبَّنَا خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَسَكَتْنَا فَقَالَ:«عُودُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ» قَالَ زَيْدٌ: فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبَيَّ قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّنُ - (يقول: آمين) - عَلَى دُعَائِنَا، ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِثْلَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ [هَذَانِ]، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لَا يُنْسَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)" فتح الباري ": ص 203 جـ 1، وأوله فيه قال أبو هريرة:«قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، ونحوه في " مسند الإمام أحمد ": ص 207 حديث 8056 جـ 15، و" طبقات ابن سعد ": ص 118 قسم 2 جـ 2 وص: 56 قسم 2 جـ 4.
«آمِينَ» ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لَا يُنْسَى، فَقَالَ:«سَبَقَكُمْ بِهَا الغُلَامُ الدَّوْسِيُّ» (1).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«أَلَا تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟» قُلْتُ: «أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ» . فَنَزَعَ نَمِرَةً كَانَتْ عَلَى ظَهْرِي، فَبَسَطَهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَمْلِ يَدُبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى [إِذَا] اسْتَوْعَبْتُ حَدِيثَهُ قَالَ:«اجْمَعْهَا فَصُرَّهَا إِلَيْكَ» فَأَصْبَحْتُ لَا أُسْقِطُ حَرْفًا مِمَّا حَدَّثَنِي (2).
هذه الأخبار - وغيرها كثير - تثبت حرص أبي هريرة الشديد على طلب العلم، ودعاء الرسول له بتحقيق ما أراد.
وقد عرف الصحابة منزلته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفتي الناس بحضرة علماء الصحابة، وكباره وكان بعضهم كزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس يحيلون السائلين عليه، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ [وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: فَجَاءَهُمَا] مُحَمَّدُ بْنُ إيَاسِ بْنُ بُكَيْرِ، فَسَأَلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَبَعَثَهُ إِلَى أََبِِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - وَكَانَا عِنْدَ عَائِشَةَ - فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَدْ جَاءَتْك مُعْضِلَةٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:«الوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا» (3). لعل أبا هريرة أفتى بهذا بعد أن
(1)" تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12 وفيه:«سَأَلَاكَ صَاحِبَيَّ» والتصحيح من " فتح الباري ": ص 226، جـ 1. و" سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2.
(2)
" حلية الأولياء ": ص 381 جـ 1، و" تذكرة الحفاظ ": ص 33 جـ 1، و" سير أعلام النبلاء ": ص 429 جـ 2. النمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. والحديث أخرجه البخاري. انظر " فتح الباري ": ص 225 جـ 1.
(3)
" سير أعلام النبلاء ": ص 427، جـ 22.
أجرى عمر رضي الله عنه إيقاع الثلاث زَجْرًا للناس، أو أن السائل كان قد أطلق ثلاثًا في مجالس متفرقة.
وَيَصِفُ لَنَا مُحَمَّدٌ بنِ عُمَارَةَ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ مَجْلِسًا لأَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالحَدِيثِ، فَلَا يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ يَتَرَاجَعُونَ فِيهِ فَيَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ بِالحَدِيثِ، فَلَا يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ يَعْرِفُهُ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا. قَالَ:«فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ أَحْفَظُ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (1).
وكان الناس يتواعدون لينطلقوا إليه فيسمعوا حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما روي عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:«تَوَاعَدَ النَّاسُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي إِلَى قُبَّةٍ مِنْ قِبَابِ مُعَاوِيَةَ فَاجْتَمَعُوا فِيهَا، فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ» (2).
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: «كَانَ يَقُومُ كُلَّ خَمِيسٍ فَيُحَدِّثُهُمْ» (3).
وكان أبو هريرة أمينًا في حديثه عن الرسول الكريم، وإذا قال في شيء برأيه قال:«هَذِهِ مِنْ كَيْسِي» (4). وقد ثبت هذا بأدلة كثيرة، وأخبار عِدَّةٍ، منها ما رواه بكير بن الأشج قال: قال لنا بشر بْنُ سَعِيدٍ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا مِنَ
(1) انظر" سير أعلام النبلاء ": ص 444 جـ 2، وقد أخرجه البخاري في " تاريخه " والبيهقي في " المدخل "، انظر " فتح الباري ": ص 225 جـ 1.
(2)
" سير أعلام النبلاء ": ص 432 جـ 2 وانظر " البداية والنهاية ": ص 106 جـ 8، و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 113: ب.
(3)
انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص 113: ب.
(4)
" إعلام الموقعين ": ص 64 جـ 1.
الحَدِيثِ، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبٍ الأحبار، ثُمَّ يَقُومُ، فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ عَنْ كَعْبٍ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الحَدِيثِ» (1).
وقد روى كثيرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، فإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أكْتُبُ» (2).
وقد استكثر بعض الصحابة حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين كانت سياستهم الإقلال من الرواية، كَيْلَا ينصرف الناس عن القرآن، وخوفًا أن يشتغلوا بغيره. فقال لهم أبو هريرة:«إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ المُوعِدُ، وَتَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ؟ وَإِنَّ أَصْحَابِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ أَرْضُوهُمْ وَالقِيَامُ عَلَيْهَا، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا، (أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَلْءِ بَطْنِي) (3) وَكُنْتُ أُكْثِرُ مُجَالَسَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْضُرُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا» . (4) ثم ذكر قصة النمرة، ودعاء الرسول له، ثم قال:«فَوَاللهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ» (5).
(1)" البداية والنهاية ": ص 109 جـ 8 ونحوه في " سير أعلام النبلاء ": ص 436 جـ 2.
(2)
" فتح الباري ": ص 217 جـ 1، و" مسند الإمام أحمد ": ص 119 حديث 7383 جـ 13 رواه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو كثيرًا، انظر رقم: 6510 و 6802 و 6930 و 7018.
(3)
هذه العبارة من رواية الزهري في " مسند الإمام أحمد: ص 268 حديث 7273 جـ 12 لم يذكرها ابن سعد.
(4)
" طبقات ابن سعد ": ص 56 قسم 2 جـ 4 وص: 118 قسم 2 جـ 2، وانظر " فتح الباري ": ص 224 جـ 1، و" مسند الإمام أحمد ": ص 270 جـ 12، و" حلية الأولياء ": ص 378 جـ 1، و" تاريخ الإسلام ": ص 334 جـ 2.
(5)
" طبقات ابن سعد ": ص 56 قسم 2 جـ 4 وص: 118 قسم 2 جـ 2، وانظر " فتح الباري ": ص 224 جـ 1، و" مسند الإمام أحمد ": ص 270 جـ 12، و" حلية الأولياء ": ص 378 جـ 1، و" تاريخ الإسلام ": ص 334 جـ 2.
وروى الوليد بن عبد الرحمن أنَّ أبا هريرة حَدَّثَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا وَتَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فقال عبد الله بن عمر: «انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ، فَإِنَّكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت:«صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ!!» ثم قال: «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، إِنَّمَا كَانَ يَهُمُّنِي كَلِمَةٌ من رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ لُقْمَةٌ يُطْعِمُنِيهَا» (2)، وفي رواية: وفي رواية: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَرْسُ بِالوَادِي وَصَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ (3). فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَنْتَ أَعْلَمُنَا - يَا أَبَا هُرَيْرَةَ - بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ» (4).
وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله. وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه، حتى إنَّ بعض الصحابة رَوَوْا عنه لأنه سمع من النبي الكريم - صَلَّى اللَّهُ
(1)" مسند الإمام أحمد: ص 123، حديث 7691 جـ 14، وانظر " فتح الباري ": ص 244 جـ 1، والآية (159) من سورة البقرة.
(2)
" طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2 جـ 4، ونحوه بإسناد صحيح في " مسند الإمام أحمد ": ص 175 حديث 7188 جـ 12.
(3)
" البداية والنهاية ": ص 107 جـ 8، و" طبقات ابن سعد ": ص 118 قسم 2 جـ 2، وقال الترمذي في قول ابن عمر:«حَسَنٌ» انظر " فتح الباري ": ص 225 جـ 1.
(4)
" البداية والنهاية ": ص 107 جـ 8، و" طبقات ابن سعد ": ص 118 قسم 2 جـ 2، وقال الترمذي في قول ابن عمر:«حَسَنٌ» انظر " فتح الباري ": ص 225 جـ 1.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمعوا. من هذا أنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى طَلْحَةَ (1) بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْتُكَ هَذَا اليَمَانِيَّ - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - أَهُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ مِنْكُم؟ نَسْمَعُ مِنْهُ أَشْيَاءَ لَا نَسْمَعُهَا مِنْكُم؟» ، قَالَ:«أَمَّا أَنْ يَكُونَ [قَدْ] سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ نَسْمَعْ فَلَا أَشُكُّ، سَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّا كُنَّا أَهْلَ بُيُوتَاتٍ وَغَنَمٍ وَعَمَلٍ، كُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَكَانَ مِسْكِينًا ضَيْفًا عَلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ، يَدُهُ مَعَ يَدِهِ، فَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَلَا تَجِدُ أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ يَقُولُ عَنْ رَسُولِ اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ» (2)(*).
وَرَوَى أَشْعَثُ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ (الأَنْصَارِي) يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ:«إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ -» (3).
وكان جريئًا، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله غيره (4) كما كان يسأل الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام. وكان كثير العلم واسع المعرفة، يحدث إخوانه وطلابه، وقد يقول لهم:«رُبَّ كِيْسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَفْتَحْهُ - يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ -» (5). وكان يقول: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(1) في " سير أعلام النبلاء "(طُلَيْحَةٌ) والصواب (طَلْحَةٌ) كما في " فتح الباري ": ص 255 جـ 1.
(2)
" سير أعلام النبلاء ": ص 436 جـ 2، و" البداية والنهاية ": ص 109 جـ 8.
(3)
" البداية والنهاية ": ص 109 جـ 8، و" سير أعلام النبلاء ": ص 436 جـ 2.
(4)
انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 451 جـ 2.
(5)
انظر المرجع السابق: ص 430 جـ 2 رواه محمد بن راشد عن مكحول.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) خطأ في ترقيم الهوامش في الكتاب المطبوع، وأثبت الترقيم الصحيح للمصادر.
وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ» (1).
فكان أبو هريرة حريصًا على أن يُحَدِّثَ الناس بما تدركه عقولهم، وحريصًا على ألا يحدثهم إلا بما ينتفعون به، لذلك أَبَى أن يحدثهم بكل ما يعلم.
(1)" طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2 جـ 4 وص: 118 قسم 2 جـ 2، وانظر " فتح الباري ": ص 227 جـ 1، و" حلية الأولياء ": ص 381 جـ 1، و" البداية والنهاية ": ص 105 جـ 8، و" تذكرة الحفاظ ": ص 34 جـ 1. لقد بث أبو هريرة بين الناس وعاء مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبث الوعاء الآخر، خَوْفًا من أن يكذبه الناس فقد قال في رواية: «لَوْ أَنْبَأْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ لَرَمَانِي النَّاسُ بِالخَرْقِ، وَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ مَجْنُونٌ». وفي رواية: «لَرَمَيْتُمُونِي بِالبَعْرِ» . قَالَ الحَسَنُ - رَوِاي الخَبَرِ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ» . " طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2 جـ 4 وص: 119 قسم 2 جـ 2.
لقد خاف أن يُكَذِبَهُ الناس، وخاف أن يقضى على حياته ولا بد للمرء أن يتساءل: ما هو ذلك الوعاء المملوء عِلْمًا الذي لم يبثه أبو هريرة؟ وهل خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الأُمَّةِ بذلك.
نفهم من حديث أبي هريرة أن الرسول حَمَّلَهُ نوعين من العلم، كل نوع لو كتبه إنسان لكان جرابًا كبيرًا، أحدهما بثه، والثاني لم يبثه، أما يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختص أبا هريرة بشيء من الأحكام فغير معقول، لأنه ينافي تبليغ الرسالة، وهل ما اختصه به من الآداب؟ إن هذا بعيد جِدًّا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأُمَّةِ يُنَافِي تبليغ الرسالة، فليس من المتصور أن يلقن الرسول الكريم بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأُمَّةَ من غير أن يفيدها بشيء من هذا!!.
من هنا يتأكد أن الوعاء الثاني لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق، وَيُرَجَّحُ أن يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة أو بعض ما يقع للأمة من فتن، ومن يَلُونَهَا من أمراء السوء، وَيُقَوِّي هذا عندي أن أبا هريرة كان يكني عن بعض ذلك، ولا يصرح به خَوْفًا على نفسه ممن يسيئه ما يقوله، كقوله:«أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» ، وقوله:«وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» ، انظر " فتح الباري ": ص 227 جـ 1، و" سير أعلام النبلاء ": ص 430 جـ 1، وليس هذا الحديث ذريعة لمن يجعل للدين ظاهرًا وباطنًا حتى ينتهي به إلى التحلل من الدين، فأبو هريرة كان يحب أن يحدث الناس بما يعرفون حتى لا يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ إذا أخبرهم بما لا تتصوره عقولهم، وقد ذكر ابن تيمية بعض تنبؤات الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر عنها ووقعت فيما بعد في كتابه " الرد على المنطقيين ": ص 445.