الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الله أن أوفق فيما بعد للكشف عن ذلك وإيضاحه بما يكفل لنا الحكم العلمي الصحيح.
ونقول الآن بعد هذا الخبر: إذا ثبتت استجابة كثير بن مرة لطلب أمير مصر، فيعني هذا أن بعض الحديث النبوي قد دُوِّنَ رَسْمِيًّا في منتصف العقد الهجري الثامن قبل انقضاء القرن الأول. وعلى أية حال، فإن اهتمام أمير مصر بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتدوينه يزيدنا ثقة بأن التدوين قد سار جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مع الحفظ، ولم يتأخر قط إلى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فيكون شرف المساهمة في تدوين الحديث، قد كلل الوالد الأمير والابن الخليفة البار، ويكون لهما جَمِيعًا شرف العمل لحفظ الحديث وتدوينه رَسْمِيًّا.
وأنا بهذه النتيجة لا أريد أن أخالف ما اشتهر عند أئمة هذا العلم من أن تدوين الحديث النبوي كان على رأس المائة الأولى في خلافة عمر بن عبد العزيز، بل أضع يدي على مفتاح بحث تاريخي له أهميته في تاريخ تدوين الحديث سواء أخالف هذا المشهور أم وافقه، وهذا المفتاح قد طوى في بطون تراثنا الزاخر، ينتظر من يتفرغ ليكشف عنه، فنحن في هذا لسنا بِدَعًا، ولا نأتي بشيء جديد سوى أننا ننفض غبار الماضي عن جواهرنا المكنونة، ونحاول أن نسلكها في عقد يصور لنا الحقيقة التاريخية.
4 - المُسْتَشْرِقُونَ وَرَأْيُهُمْ فِي تَدْوِينِ الحَدِيثِ:
لقد عرفنا أن المسلمين حفظوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صدورهم وصحفهم، فساهمت الذاكرة والأقلام والصحف والدفاتر في حفظ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وسار الحفظ في الصدور وفي الصحف جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ في سبيل هذه الغاية، ورأينا مراحل التدوين الفردي والرسمي، وثبت لنا وقوع التدوين في عهد رسول الله
- صلى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة والتابعين، بأدلة قاطعة لا يرقى إليها الشك، ولا يعتريها الظن. وعرفنا أن ضرورة حفظ الحديث لم تنتظر خلافة عمر بن عبد العزيز وإذنه، بل دعت إلى تدوينه قبله بكثير، وكان لعمر بن عبد العزيز شرف مساهمة الدولة في تبني هذا التدوين والإشراف عليه، وتحريك همم العلماء للجمع والتصنيف، الذي ظهرت بوادره في النصف الأول من القرن الثاني، ونضجت ثماره في المصنفات الكثيرة التي أخرجها أوائل المصنفين في مختلف بلاد الدولة الإسلامية آنذاك.
بعد هذا لن نؤخذ بما وصل إليه المستشرقون وأعلنوه من أن السُنَّةَ قد دُوِّنَتْ في عصر مبكر. ولن نقع فيما نصبه بعضهم من شراك خلف بحوثهم، وإن ظهرت بعض أبحاثهم في ثوب علمي نقي، فقد كتب جولدتسيهر فصلاً خاصًا حول كتابة الحديث في كتابه " دراسات إسلامية " أتى فيه بأدلة كثيرة على تدوين الحديث في أول القرن الهجري الثاني، وكان في الفصل الأول من كتابه «قد سرد طائفة من الأخبار، تشير إلى بعض الصحف التي دونت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه حاطها بكثير من التشكك في أمرها، والريبة في صحتها، وقد رمى بهذا إلى غرضين، أحدهما: إضعاف الثقة باستظهار السُنَّةِ وحفظها في الصدور، لتعويل الناس منذ القرن الهجري الثاني على الكتابة، والآخر وصم السُنَّةَ كلها بالاختلاق ولوضع على ألسنة المدونين لها، الذين لم يجمعوا سَهْمًا إلا ما يوافق أهواءهم، ويعبر عن آرائهم ووجهات نظرهم في الحياة
…
وحاول المستشرق «سوفاجيه» في كتابه " الحديث عند العرب " أن يفند المعتقد الخطأ عن وصول السُنَّةِ بطريق المشافهة وحدها، وجمع أدلة كثيرة
على تدوين الأحاديث والتعويل على هذا التدوين في عصر مبكر يبدأ أَيْضًا في مطلع القرن الهجري الثاني، وليس في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وغايته لا تختلف في شيء عن غاية جولدتسيهر» (1).
ويقول الدكتور صبحي الصالح: «وأما " دوزي " فَلَعَلَّهُ يخدع برأيه المعتدل كَثِيرًا من علمائنا فضلاً عن أوساط المُتَعلِّمِينَ فينا، فقد كان هذا المستشرق يعترف بصحة قسم كبير من السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ التي حفظت في الصدور وَدُوِّنَتْ في الكتب بدقة بالغة وعناية لا نظير لها " وما كان يعجب لكثير من الموضوعات والمكذوبات تَتَخَلَّلُ كُتُبَ الحديث - فتلك كما يقول طبيعة الأشياء نفسها - بل للكثير من الروايات الصحيحة الموثوقة التي لا يرقى إليها الشك، (ونصف " صحيح البخاري " على الأقل جدير بهذا الوصف عند أشد المُحَدِّثِينَ غُلُوًّا في النقد) مع أنها (2) تشتمل على أمور كثيرة يَوَدُّ المؤمن الصادق لو لم ترد فيها (3).
فلم يكن غرض هذا المستشرق خَالِصًا للعلم والبحث المُجَرَّدِ حين مال إلى الاعتراف بصحة ذلك النصيب الكبير من السُنَّةِ، وإنما كان يُفكِّرُ أَوَّلاً وَآخِرًا بما اشتملت عليه هذه السُنَّةُ الصَّحِيحَةُ، من نظرات مُسْتَقِلَّةٍ في الكون والحياة والإنسان، وهي نظرات لا يدرأ عنها استقلالها النقد والتجريح لأنها لم تنبثق من العقل الغربي المعجز، ولم تُصَوِّرْ حياة الغرب الطليقة من كل قيد!» (4)
(1) انظر هذا البحث في " علوم الحديث ومصطلحه " للدكتور صبحي الصالح: ص 23 - 30 وما أشرنا إليه في الصفحة: 24، 25.
(2)
أي الروايات الصحيحة.
(3)
أشار الدكتور صبحي الصالح في هامش الصفحة 26 إلى أن: «عِبَارَةَ دُوزِي فِي الأَصْلِ أَوْقَحُ مِنْ أَنْ نُورِدَهَا عَلَى حَالِهَا» ، وأحال إلى الأصل بالفرنسية.
(4)
" علوم الحديث ومصطلحه " للدكتور صبحي الصالح: ص 26.
وعثر المستشرق (شبرنجر) على كتاب " تقييد العلم " للخطيب البغدادي فوجد فيه شواهد وأخبارًا تدل على تدوين المسلمين للحديث في عصر مبكر فكتب مقالاً حول ما وجده.
واطلع (جولدتسيهر) على ما كتبه سلفه (شبرنجر) وأيد فكرة كتابة المسلمين للحديث في عصر مبكر، إلا أنه «تأمل في الأخبار التي عرضها سلفه " شبرنجر " نقلاً عن الخطيب البغدادي وغيره، فوجدها تارة تقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز كتابة العلم، وطورًا تدعي بأنه نهى عنها، وتذكر مرة أن الصحابة حضوا عليها، ثم لا يلبث أن تروى كراهتهم لها، وَتَعْرِضَ كَتْبَ بَعْضِ التابعين للعلم، ثم تذكر استنكاف بعضهم الآخر - رأى ذلك فظن بهذه الأخبار سُوءًا، وأراد أن يرى خلالها يد الوضع والتزوير، فتصور حزبين متناضلين، اتخذا من هذه الأخبار سِلَاحًا، يذود كل منهما به عن رأيه، ويدفع خصمه، فقال: إن أهل الرأي - الذين اعتمدوا في وضع فروع الشريعة على عقلهم، وأهملوا شأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان من حُجَجِهِمْ أن الحديث لم يكتب دهرًا طويلاً، فغابت معالمه، وتشتت أمره، وأيدوا رأيهم بأخبار اختلقوها، تثبت أنه لم يكتب، ولم يقف خصومهم (أهل الحديث) واجمين، بل فعلوا فعلتهم واختلقوا الأخبار تَأْيِيدًا لقولهم، فنسبوا إلى الرسول أحاديث في إباحة الكتابة» (1).
هكذا رأى جولدتسيهر أهل الرأي يدعون عدم كتابة الحديث، فيضعون من الأخبار ما يثبت دعواهم، وأهل الحديث يرون جواز تقييد العلم، فيضعون
(1) مجلة " الثقافة " المصرية: العدد 351، السنة السابعة، الصفحة: 22، 23 من مقالة أستاذنا الدكتور يوسف العش «نشأة تدوين العلم في الإسلام» .
ما يثبت دعواهم، ليحتجوا بصحة ما لديهم من أحاديث في خلافاتهم الفقهية، أراد جولدتسيهر أن يصور علماء الأمة ومفكريها، حزبين متعصبين لآرائهم، يستجيزون الكذب في سبيل ذلك!! فساء ما تصوره وبئس ما انتهى إليه.
وقد قيض الله لكتاب " تقييد العلم " أن ينشر في دمشق، ويحقق تحقيقًا علميًّا دقيقًا، على يدي الدكتور يوسف العش، الذي درس أخباره دراسة عميقة، ثم قدم للكتاب المذكور بتصدير علمي قيم، كشف فيه عن خطأ جولدتسيهر في رأيه حين قال:«إن من ادعى عدم جواز الكتابة هم أهل الرأي، وأن مخالفيهم هم من أهل الحديث» - قال الدكتور العش: «فالخلاف لم يكن بين هاتين الفئتين، لأن من أهل الرأي من امتنع عن الكتابة كعيسى بن يونس (- 187 هـ) وحماد بن زيد (- 179 هـ) وعبد الله بن إدريس (- 192 هـ)، وسفيان الثوري (- 161 هـ)، وبينهم من أقرها كحماد بن سلمة (- 167 هـ)، والليث بن سعد (- 175 هـ) وزائدة بن قدامة (- 161 هـ) ويحيى بن اليمان (- 189 هـ)، وغيرهم. ومن المحدثين من كره الكتابة كابن علية (- 200 هـ) وهُشيم بن بشير (- 183 هـ)، وعاصم بن ضمرة (- 174 هـ) وغيرهم، ومنهم من أجازها كبقية الكلاعي (- 197 هـ) وعكرمة بن عمار (- 159 هـ)، ومالك بن أنس (- 179) وغيرهم» (1).
بهذه البراهين القوية نقض الدكتور يوسف العش رأي جولدتسيهر وقوض
(1)" تقييد العلم ": ص 21، 22 وانظر مقالة الدكتور العش في مجلة " الثقافة " المصرية " العدد 353، السَنَةُ السابعة، الصفحة: 9، 10.
كل ما بناه على رأيه من صور وهمية، وبين بعد البحث والتأمل «أنْ ليس من أوصاف مشتركة تُوَحِّدُ بين أصحاب إحدى الطائفتين، فليس الفريقان حزبين اتفق أفرادهما في الرأي، واستعدُّوا لخوض المعركة متضامنين، يناصر بعضهم بعضًا، وإنما تَمَسَّكُوا برأيهم عن عقيدة نفسية، أو عن ميول شخصية، أو عن ذوق خاص، أو عن عادة مُسْتَحْكَمَةٍ، وعندنا أَنَّ الطائفتين المُتخاصمتين مُتَّفِقَتَانِ بِالغَايَةِ، ولو أنهما تشاحنتا في القول، فكلتاهما تبغي الدفاع عن العلم والتقدُّم» (1).
بعد تلك الأخبار عن التدوين، وحرص الأمة على سلامة الحديث النبوي، لا يمكننا أن نسلم بما ذهب إليه المستشرقون، وخاصة بعد أن ظهر أمرهم على ضوء ما بيناه، فالسنة حفظت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدور، وقيد بعضها في الصحف، وكانت محل اعتناء المسلمين في مختلف عصورهم، فتناقلوها جيلاً بعد جيل حفظًا ودراسة بالمشافهة والكتابة، واجتهدوا وسعهم لحفظ الحديث بأسانيده في مصنفات ومسانيد تكفل لأهل العلم معرفة القوي من الضعيف، خشية تسرب الكذب إلى حديثه صلى الله عليه وسلم، ثم اجتهد كبار العلماء في جمع الحديث الصحيح على أسلم قواعد التثبت العلمي، فرحلوا في طلب ذلك، وسمعوا بأنفسهم، وتثبتوا وسعهم، وكتبوا بأيديهم، فظهرت الكتب المجردة من الضعيف وأجمعت الأمة الإسلامية - التي فهمت الإسلام واتخذته سبيلها في مختلف وجوه حياتها - على صحة " صحيح البخاري " و" صحيح مسلم "، فإذا اعترف المستشرقون ببعض الحقيقة العلمية، وأقروا جانبًا مما أثبتته المصادر الإسلامية، فلا يجوز لنا على أي حال أن نقبل ما ذهبوا إليه من طعن في
(1) مجلة " الثقافة " المصرية: العدد 353، السَنَة السابعة، الصفحة 10.