الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبْحَثُ الثَّالِثُ: الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ:
كانت الرحلة في طلب الحديث قائمة في عهده صلى الله عليه وسلم، فكان بعض من يسمع بالرسالة الجديدة، يسافر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليسمع القرآن الكريم، ويتفهم تعاليم الإسلام، ثم ينصرف إلى قومه بعد أن يعلن إسلامه كما فعل ضمام بن ثعلبة.
فالرحلة في عهد الرسول كانت عامة من أجل معرفة تعاليم الدين الجديد.
وأما في عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم فقد تمت رحلات كثيرة من العلماء في طلب الحديث خاصة، وكثيرًا ما كانوا يقطعون المسافات الطويلة لسماع حديث أو التأكد من حديث وضبطه، أو للالتقاء بصحابي وملازمته، للأخذ عنه، لأن الصحابة في عهد التابعين توزعوا في البلدان ونقلوا في صدورهم الحديث النبوي، فكان لا بد لمن أراد أن يجمع حديث محمد صلى الله عليه وسلم من أن ينتقل من بلد إلى آخر، وراء الصحابة الذين سمعوا منه ورأوه وأخذوا الأحكام عنه، ثم رحل أتباع التابعين إلى التابعين، ولازموهم وأخذوا عنهم، حتى تم جمع الحديث في مراجعه الكبرى، ومع هذا لم تنقطع رحلة العلماء في سبيل المذاكرة والعرض على الشيوخ المشهورين.
ومما يروى في رحلة الصحابة ما حَدَّثَ به عَطَاءُ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ: "خَرَجَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُهُ، وَغَيْرُ عُقْبَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَى مَنْزِلِ مُسْلِمَةَ بْنَ مَخْلِدٍ الأَنْصَارِيَّ - وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرَ -،
فَأَخْبَرَهُ فَعَجَلَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ ثُمَّ قَالَ:" مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟ " فَقَالَ: " حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرِي وَغَيْرُ عُقْبَةُ، فَابْعَثْ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى مَنْزِلِهِ "، قَالَ:" فَبَعَثَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَنْزِلِ عُقْبَةَ، فَعَجَّلَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ، وَقَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبُ " فَقَالَ: " حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ غَيْرِي وَغَيْرُكَ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ "، قَالَ عُقْبَةُ: " نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ (1) سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ:" صَدَقْتَ"، ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَكِبَهَا رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، فَمَا أَدْرَكَتْهُ جَائِزَةُ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ إِلَاّ بِعَرِيشِ مِصْرَ" (2).
لقد خشي أبو أيوب أن يكون نسي شيئًا من حديث «سَتْرِ المُؤْمِنِ» ، فأحب أن يتأكد من ذلك، ويتثبت من صحة ما يحفظه عن الرسول الكريم، فرحل من الحجاز إلى مصر، يقطع الفيافي والقفار في سبيل ذلك!!.
وَعَنِ ابْنِ عَقِيلٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ بَلَغَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ إِلَيْهِ رَحْلِي شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا بِالبَابِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَقَالَ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ فَاعْتَنَقَنِي، قُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي لَمْ أَسْمَعْهُ، خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
(1) الخِزْيَةُ: هو الشيء الذي يستحيا منه. وانظر " لسان العرب ": ص 247 جـ 18.
(2)
" معرفة علوم الحديث ": ص 8، و" جامع بيان العلم وفضله ": ص 93، 94 جـ 1. وذكره زهير بن حرب في كتابه " العلم " عن رجل ولم يذكر أبا أيوب الأنصاري، انظر: ص 187: ب. كما ذكر الخطيب مثله في " الجامع لأخلاق الراوي ": ص 168: ب - 169: آ.
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ العِبَادَ - أَوِ النَّاسَ - عُرَاةً غُرْلاً (1) بُهْمًا» ، قُلْنَا:"مَا بُهْمًا؟ " قَالَ: " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ - أَحْسَبُهُ قَالَ: كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ -: أَنَا المَلِكُ، لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ "، قُلْتُ: وَكَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» (2).
وتنشط الرحلات في طلب الحديث بين التابعين وأتباعهم، حتى لقد كان أحدهم يخرج وما يخرجه إلا حديث عند صحابي يريد أن يسمعه منه لأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يروى عَنْ أَبِي العَالِيَةِ قَوْلُهُ:«كُنَّا نَسْمَعُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِالبَصْرَةِ، فَلَمْ نَرْضَ حَتَّى رَكِبْنَا إِلَى المَدِينَةِ، فَسَمِعْنَاهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ» (3).
وَخَرَجَ الشَّعْبِيُّ [إِلَى مَكَّةَ] فِي ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ ذُكِرَتْ لَهُ، فَقَالَ:«لَعَلِيِّ أَلْقَى رَجُلاً لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (4)، وروى الزُّهْرِي عَنْ سَعِيدٍ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ:«إِنْ كُنْتُ لأَسِيرُ ثَلَاثًا فِي الحَدِيثِ الوَاحِدِ» (5). وأقام أبو قلابة بالمدينة وليس له بها حاجة إلا رجل عنده حديث واحد ليسمعه منه (6). وَيُرْوَى أن «مَسْرُوقًا»
(1) غُرْلاً: جمع (أغرل) وهو الذي لم يختن.
(2)
" الأدب المفرد ": ص 237 و" جامع بيان العلم وفضله ": ص 93 جـ 1 و" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 168: ب.
(3)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 168: ب. " الكفاية ": ص 402.
(4)
انظر " المحدث الفاصل ": ص 29: آ.
(5)
انظر " المحدث الفاصل ": ص 28: ب. و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 169: ب، و" تذكرة الحفاظ ": ص 52 جـ 1، و" جامع بيان العلم وفضله ": ص 64 جـ 1.
(6)
انظر " المحدث الفاصل ": ص 28: ب.
رحل في حرف (1)، ويظهر أن «مَسْرُوقًا» (2) كان كثير الترحال، ولذلك قَالَ عَامِرُ الشَّعْبِيِّ:«مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ كَانَ أَطْلَبَ [لِلْعِلْمِ] فِي أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ مِنْ مَسْرُوقٍ» (3). ويروى عن الشعبي أنه حَدَّثَ بحديث ثم قال لمن حدثه: «أَعْطَيْتُكَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ لَيَرْكَبُ إِلَى المَدِينَةِ فِيمَا دُونَهُ» (4).
وكان الصحابة الكرام يشجعون على طلب العلم، وعلى الرحلة من أجله، من هذا ما رُوِيَ عن عبد الله بن مسعود أنه قال:«لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى مِنِّي، تَبْلُغُهُ الإِبِلُ، لأَتَيْتُهُ» (5)، وكانوا يرحبون بطلاب العلم كما سبق أن ذكرنا، وكل هذا حَبَّبَ إلى التابعين الرحلة، حتى إِنَّ عَامِرًا الشَّعْبِيَّ قَالَ:«لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ إِلَى أَقْصَى اليَمَنِ؛ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ حِكْمَةٍ مَا رَأَيْتُ سَفَرَهُ ضَاعَ (6)» ، وفعلاً كانوا يرحلون إلى الصحابة ولا يرون أن سفرهم قد ضاع.
عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَيْتُكَ مِنَ المَدِينَةِ، مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ
(1)" جامع بيان العلم وفضله ": ص 94 جـ 1.
(2)
ومسروق هو ابن الأجدع الهمداني أبو عائشة تابعي ثقة يمني الأصل، رحل إلى المدينة أيام أبي بكر ثم سكن الكوفة وشهد حروب علي وكان يفتي، تُوُفِّيَ سَنَةَ (62 هـ). انظر:" تهذيب التهذيب ": ص 109 جـ 10.
(3)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 94 جـ 1. و" المحدث الفاصل ": ص 29: آ.
(4)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 94 جـ 1. و" معرفة علوم الحديث ": ص 7، وقد أخرج الشيخان نحوه، انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 171 جـ 2، وانظر " الأدب المفرد ": ص 81، و" صحيح مسلم ": ص 135 جـ 1، كما أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
(5)
" الكفاية ": ص 402.
(6)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 95 جـ 1. و" الرحلة الحجازية والرياض الأنسية ": ص 14.
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ العِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الحِيتَانِ فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (1).
وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ (2)، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ المُرَادِيَّ، فَقَالَ:" مَا جَاءَ بِكَ؟ "، قُلْتُ:" أُنْبِطُ العِلْمَ "، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ العِلْمِ، إِلَاّ وَضَعَتْ لَهُ المَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» (3).
وأخبار العلماء ورحلاتهم كثيرة يضيق المقام بذكرها، ويكفينا أن نذكر شيئًا منها، فقد رحل ابن شهاب إلى الشام ليلقى عطاء بن يزيد وابن مُحيريز وابن حيوة، ورحل يحيى بن أبي كثير إلى المدينة للقاء من بها من أولاد الصحابة، ورحل محمد بن سيرين إلى الكوفة فلقي بها عبيدة وعلقمة وعبد الرحمن
(1)" سنن البيهقي ": ص 81 جـ 1، و" الجرح والتعديل ": ص 12 جـ 1 وقد رواه ابن ماجه في " سننه ": ص 81 جـ 1.
(2)
زِرٍّ: بزاي مكسورة فراء مشددة بوزن هِرٍّ.
(3)
" سنن ابن ماجه ": ص 82 حديث 226 جـ 1 طبعة عيسى البابي الحلبي، وانظر " مجمع الزوائد ": ص 131 جـ 1، و" الجرح والتعديل ": ص 13 جـ 1. و «أَنْبَطَ العِلْمَ»: أي طلبه واستخرجه من عند أهله.
ابن أبي ليلى، ورحل الأوزاعي إلى يحيى بن أبي كثير باليمامة ودخل البصرة، ورحل سفيان الثوري إلى اليمن ثم دخل البصرة، ورحل عيسى بن يونس إلى الأوزاعي بالشام
…
ورحل شعيب بن أبي حمزة إلى الزهري وهو يومئذٍ بالشام. وأما رحلة العلماء من بلد إلى بلد في الإقليم الواحد، فكثيرة كثرة تفوق الحصر (1).
وكان لرحلات العلماء في طلب الحديث أثر بعيد في انتشار السُنَّةِ، فمما لا شك فيه أن الراوي يرى مَنْ يُرْوِي عَنْهُ، ويقف على سيرته، ويسأل أهل بلده عنه، وكثيرًا ما كانوا يتشددون في السؤال عن الراوي، حتى يقال لهم:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تُزَوِّجُوهُ؟» (*).
كذلك كان للرحلات فائدة عظيمة في معرفة طرق كثيرة للحديث الواحد فقد يسمع الراوي من علماء المصر الذي رحل إليه زيادات لم يسمعها من علماء مصره وكثيرًا ما يجد عندهم ما لم يجده عند شيوخه، وقد تقع مناظرات بين علماء الأمصار، تعارض فيها طرق الحديث الواحد، فيحصل فيها القوي ويعرف الضعيف، ويزداد طلاب العلم معرفة لأسباب ورود الأحاديث، حين يلقون من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أفتاه أو قضى له.
ويكفي الرحلة فائدة أن تساعد على نشر الحديث وجمعه، وتمحيصه والتثبت فيه، فكان لرحلات الصحابة والتابعين وأتباعهم أثر جليل في المحافظة على السُنَّةِ وجمعها وتدلنا تراجم الرواة على الصعاب التي كانوا
(1)" المحدث الفاصل ": ص 31: ب و 22: ب. وراجع " جامع بيان العلم وفضله ": ص 94 و 95 جـ 1.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) عَنْ الحَسَنِ بْنَ صَالِحٍ بْنَ حَيٍّ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَكْتُبَ عَنِ الرَّجُلِ سَأَلْنَا عَنْهُ حَتَّى يُقَالَ لَنَا: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُزَوِّجُوهُ؟» ، "الكفاية في علم الرواية " للخطيب البغدادي، تحقيق: أبو عبد الله السورقي ، إبراهيم حمدي المدني، 1/ 92، نشر المكتبة العلمية. المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.
يستعذبونها في سبيل حفظ السنة، وسماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منابعها الصحيحة، ويكفينا أن نقرأ في ترجمة أحدهم، هو فلان اليمني، ثم المكي، ثم المدني، ثم الشامي، ثم الكوفي، ثم البصري، ثم المصري، لنعرف مقدار ما قاسى في قطع الفيافي والبعد عن الأهل والأوطان، وما تحمله من مشاق حتى أصبح من رجال الحديث في عصره، فلم يصلنا الحديث في مصنفاته وكتبه، مرتبًا باسانيده، وعلى أبواب جامعة كل منها في موضوع خاص، إلا بعد أن خدمه الصحابة، والتابعون وأتباعهم، والعلماء من بعدهم ووقفوا عليه حياتهم، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، وأسكنهم فسيح جناته.
لا شك في أن الحديث النبوي قد انتشر جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مع القرآن الكريم، ووصل إلى الأقاليم الإسلامية الجديدة، ولا نشك في أن العلم لم يبق مقصورًا على مكة والمدينة، بل تعددت مراكزه ومجالسه، وشهدت الأمصار البعيدة ما شهدته حواضر العالم الإسلامي، من نشاط علمي على يدي الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، ويمكننا أن نتصور مدارس متنقلة في مختلف الأمصار، روادها الصحابة وكبار التابعين، إذ كان يكفي لأهل خراسان مثلاً أن يحل بينهم صحابي حتى يسرعوا إليه، ويلتفوا حوله ويسألوه ويستقرئوه القرآن ويسمعوا منه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا جانب عظيم يصور لنا انتشار السُنَّةِ في أبعد حدود الدولة الإسلامية ولكن لا بد لنا من أن نقول الحق وإن كان مُرًّا، فإن بعض من دخل الإسلام - إثر الفتح - إنما دخله نفاقًا، أو اعتنقه على
أنقاض عقائد فاسدة بقيت رواسبها في نفسه، فجعلته ينتهز أية فرصة للطعن في الدين الجديد، الذي قوض أمجاد آبائه، وأطاح بمصالحه الشخصية، ومنهم من كان متعصبًا لقومه وبلده. وهناك بعض الخلافات السياسية التي حدثت عقب الفتنة وظهور الفرق والأحزاب، كل هذا كان عاملاً في ظهور الوضع في الحديث الشريف إلى جانب انتشاره في الآفاق. وهذا ما سندرسه في الباب التالي ونفصل أسبابه ونبين جهود الصحابة والتابعين وأتباعهم، والعلماء من بعدهم، في سبيل المحافظة على السُنَّةِ، وصيانتها من عبث أعداء الدين.