الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الكِتَابَةُ فِي العَصْرِ النَّبَوِيِّ وَصَدْرِ الإِسْلَامِ:
مما لا شك فيه أن الكتابة انتشرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على نطاق أوسع مما كانت عليه في الجاهلية، فقد حث القرآن الكريم على التعلم، وحض الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك أَيْضًا، واقتضت طبيعة الرسالة أن يكثر المتعلمون، القارئون، الكاتبون، فالوحي يحتاج إلى كُتَّابٍ، وأمور الدولة من مراسلات وعهود ومواثيق تحتاج إلى كُتَّابٍ أَيْضًا، وقد كثر الكاتبون بعد الإسلام فعلاً ليسدوا حاجات الدولة الجديدة، فكان للرسول كُتَّابٌ للوحي بلغ عددهم أربعين كاتبًا، وكتاب للصدقة، وكتاب للمداينات والمعاملات، وكتاب للرسائل يكتبون باللغات المختلفة (1) وإن ما ذكره المؤرخون من أسماء كُتَّابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على سبيل الحصر، بل ذكروا من دوام على الكتابة بين يديه، ويظهر هذا واضحًا في قول المسعودي:«وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ كُتَّابِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ ثَبَتَ عَلَى كِتَابَتِهِ وَاتَّصَلَتْ أَيَّامُهُ فِيهَا وَطَالَتْ مُدَّتُهُ وَصَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ دُونَ مَنْ كَتَبَ الكِتَابَ وَالكِتَابَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ إِذَ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ أَنْ يُسَمَّى كَاتِبًا وَيُضَافَ إِلَى جُمْلَةِ كِتَابِهِ» (2).
= الكتابة كانت فيهم قليلة، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [سورة الجمعة، الآية: 2]. ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة ونادرة آنذاك. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا اليسير. انظر تفصيل هذا في " فتح الباري ": ص 28، 29 جـ 5.
(1)
راجع " المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عرب وعجم " لمحمد بن علي بن حديد الأنصاري. مخطوط مكتبة الأوقاف بحلب، تحت رقم (270) وقد فصل القول في ذلك في ص: 16 - 40.
(2)
" التنبيه والإشراف ": ص 246.
وقد كثر الكاتبون بعد الهجرة عندما استقرت الدولة الإسلامية، فكانت مساجد المدينة التسعة إلى جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) محط أنظار المسلمين، يتعلمون فيها القرآن الكريم، وتعاليم الإسلام، والقراءة والكتابة، وقد تبرع المسلمون الذين يعرفون الكتابة والقراءة بتعليم إخوانهم، وأرجح أنه كان من أوائل هؤلاء المعلمين سعد بن الربيع الخزرجي أحد النقباء الاثني عشر (2)، وبشير بن سعد بن ثعلبة (3)، وأبان بن سعيد بن العاص (4)، وغيرهم - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -.
وكان إلى جانب هذه المساجد كتاتيب يتعلم فيها الصبيان الكتابة والقراءة إلى جانب القرآن الكريم (5). ولا يفوتنا أن نذكر أثر غزوة (بدر) في تعليم
(1) انظر " مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ": ص 131.
(2)
المُتَوَفَّى سَنَةَ «3 هـ» . انظر " طبقات ابن سعد ": ص 77 و 141 قسم 2 جـ 3.
(3)
المُتَوَفَّى سَنَةَ «12 هـ» . انظر " طبقات ابن سعد: ص 83 قسم 2 جـ 3. و " تهذيب التهذيب ": ص 46 جـ 1. و" الإصابة ": ص 63 جـ 1.
(4)
انظر " الإصابة ": ص 10، 11 و" المصباح المضيء ": ص 16 وقد اختلف في وفاة أبان بن سعيد، فقيل توفي سَنَةَ «13 هـ» وقيل سَنَةَ «15 هـ» وقيل غير ذلك والصواب أنه عاش إلى خلافة عثمان، وأنا أرجح هذا لأنه كان أحد الصحابة الذين نسخوا المصاحف مع زيد بن ثابت في عهد عثمان رضي الله عنهم جَمِيعًا -، انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 225، 226 جـ 3، وكتابنا " زيد بن ثابت ": ص 35.
(5)
كتب جولدتسيهر مقالاً هَامًّا في " دائرة معارف الأديان والأخلاق " عن التعليم الأولي عند المسلمين، وقد حاول أن يثبت أن كتاب تعليم القرآن ومبادئ الدين الإسلامي قد أنشئ في عهد مبكر، وأنه يرجع إلى صدر الإسلام، وقد دعم رأيه بالأسانيد الآتية:
أ - أرسلت أم سلمة إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم مرة إلى معلم كتاب تطلب منه أن يرسل لها بعض تلاميذ كتابه ليساعدوها في ندف الصوف وغزله.
ب - كان عمر بن ميمون يحفظ الصيغة التي تقي الإنسان شر العين، وقد أسندها إلى سعد بن أبي وقاص الذي كان يعلمها أولاده، ويكتبها لهم كما يفعل المدرس مع تلاميذه.
ج - مر (ابن عمر) و (أبو أسيد) في مناسبة ما بكتاب، فلفتا إليهم إليهم أنظار التلاميذ =
صبيان المدينة، حينما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسرى بدر بأن يفدي كل كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة (1)، ولم يقتصر تعليم الكتابة والقراءة على الذكور فقط، بل كانت الإناث تتعلمن هذا في بيوتهن، فقد روى أَبُو بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: «أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الكِتَابَةَ؟» (2).
ثم اتسع نطاق التعليم، وانتشر في الآفاق الإسلامية، بانتشار الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، وكثرت حلقات العلم، وانتظمت في المساجد (3)، وأضحت بعض الحلقات تضم نَيِّفًا وألفًا من طلاب العلم (4)، وكثر
= كان اللوح المخصص للكتابة موجودًا في وقت مبكر جِدًّا، فلقد روي عن أم الدرداء أنها كتبت على لوح من هذا النوع عبارات في الحكمة، ليقلدها تلميذ كانت تعلمه الكتابة والقراءة» انظر " تاريخ التربية الإسلامية " للدكتور أحمد شلبي، طبعة بيروت سَنَةَ [1954 م] ص:26.
ونضيف إلى هذا - مما يؤكد وجود الكتاتيب - ما رواه عثمان بن عبد الله، قال:«رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ وَنَحْنُ فِي الكُتَّابِ» . انظر " طبقات ابن سعد ": ص 59 قسم 2 جـ 4. وقد تعلم زيد بن ثابت في أحد هذه الكتاتيب. انظر " مسند الإمام أحمد: ص 259 جـ 5.
(1)
انظر " طبقات ابن سعد ": ص 14 قسم 1 جـ 2.
(2)
" سنن أبي داود: ص 337 جـ 2. والنملة هي قروح تخرج من الجنب، وفي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي الرُّقَى قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْنِ، وَالحُمَةِ، وَالنَّمْلَةِ». وَالحُمَةُ - بضم الحاء وفتح الميم - هي السم، انظر " صحيح مسلم ": ص 1725، حديث 58 جـ 4.
(3)
مما يذكر عن النشاط العلمي وانتظام الحلقات أن أبا الدرداء رضي الله عنه (- 32 هـ)«كان إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفًا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم، رجع إلى عريفهم، وإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك» . انظر " غاية النهاية في طبقات القراء ": ص 606 جـ 1، و " تهذيب التاريخ الكبير " لابن عساكر: ص 69 جـ 1.
(4)
قال مسلم بن مشكم: «قال أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم بأمره ألفًا وستمائة ونيفًا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وأبو الدرداء يكون عليهم قائمًا إذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء» . انظر " غاية النهاية في طبقات القراء ": ص 607 جـ 1 ونحوه في " التاريخ الكبير " لابن عساكر: ص 69 جـ 1 =
المعلمون (1)، وانتشرت الكتاتيب في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية، وغصت بالصبيان، وضاقت بهم حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلم الصبيان ومؤدبهم إلى أن يطوف على حمار ليشرف على طلاب مكتبه، الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي (2)، وكان لا يأخذ أجرًا على عمله (3).
وقد ازدادت الحركة العلمية في أواخر القرن الأول، وظهرت الندوات التي تدل على آثار النهضة العلمية، فقد كان «عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتًا، فجعل فيه شطرنجات، ونردات، وقرقات (4)، ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجِدَارِ أوتادًا، فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترًا فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم» (5).
فإذا رأينا - بعد ذلك - أن الحديث الشريف لَمْ يُدَوَّنْ رَسْمِيًّا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما دُوِّنَ القرآن الكريم - فلا بد لنا من البحث عن السبب الذي أدى إلى عدم تدوينه في عصره صلى الله عليه وسلم.
ونحن في بحثنا هذا لا يمكننا أن نستسلم لتلك الأسباب التقليدية التي اعتاد
= ولقد بلغت حلقات العلم في عهد عبد الملك بن مروان درجة عظيمة، فقد رأى في المسجد الحرام حلقات كثيرة لعطاء وسعيد بن جبير ولميمون بن مهران ولمكحول ولغيرهم، فأعجب بهم، وحث أحياء قريش على المحافظة على العلم. انظر تفصيل هذا في " المحدث الفاصل ": ص 35، 36.
(1)
ذكر أبو علي أحمد بن عمر بن رسنة كثيرًا من المعلمين في هذا العصر، انظر " الأعلاق النفسية (*): المجلد السابع، صفحة: 316، 317 وقد ذكرهم تحت عنوان صناعات الأشراف
…
وانظر كتاب " المحبر " حيث ذكر كثيرًا من المعلمين وبينهم بالتفصيل في الصفحات: 379 والصفحات: 475 - 477.
(2)
انظر " معجم الأدباء ": طبعة مصر، ص 16 جـ 12، وقد توفي الضحاك بن مزاحم سَنَةَ (105 هـ).
(3)
انظر " الأعلاق النفسية ": ص 216.
(4)
النردات: جمع نرد، ما يعرف اليوم بالطاولة. وقرقات: جمع قرق وهي لعبة للصبيان.
(5)
" الأغاني ": ص 253 جـ 4.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)" الأعلاق النفيسة " لابن رسته، طبع الجزء السابع منه. انظر " الأعلام " لخير الدين الزركلي: 1/ 185، الطبعة الخامسة عشر: - أيار / مايو 2002 م، دار العلم للملايين.
الكاتبون أن يعللوا بها عدم التدوين، ولا نستطيع أن نوافقهم على ما قالوه من أن قلة التدوين في عهده صلى الله عليه وسلم، تعود قبل كل شيء إلى ندرة وسائل الكتابة، وقلة الكتاب، وسوء كتابتهم (1) - لا يمكننا أن نسلم بهذا بعد أن رأينا نَيِّفًا وثلاثين كاتبًا يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وغيرهم يتولون أموره الكتابية الأخرى، ولا يمكننا أن نعتد بقلة الكتاب، وعدم إتقانهم لها، وفيهم المحسنون المتقنون أمثال زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو قبلنا جدلاً ما ادعوه من ندرة وسائل الكتابة وصعوبة تأمينها، لكفى في الرد عليهم أن المسلمين دَوَّنُوا القرآن الكريم ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يُدَوِّنُوا الحديث مَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تحقيق تلك الوسائل، كما لم يشق هذا على من كتب الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من أسباب أخرى، وإنا لنرى تلك الأسباب من خلال الآثار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، وسنرى أن تدوين الحديث مر بمراحل منتظمة حققت حفظه، وصانته من العبث، وقد تضامنت الذاكرة والأقلام، وكانا جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ في خدمة الحديث اشريف، ونستعرض الآن تلك الآثار التي تلقي لنا بعض الضوء على حقيقة تدوين السنة.
…
(1) انظر " تأويل مختلف الحديث "، قال:«وَكَانَ غَيْرُهُ - ابن عمرو بن العاص - مِنَ الصَّحَابَةِ أُمِّيِّينَ، لَا يَكْتُبُ مِنْهُمْ إِلَاّ الوَاحِدُ وَالاثْنَانِ، وَإِذَا كَتَبَ لَمْ يُتْقِنْ، وَلَمْ يُصِبْ التَّهَجِّيَ» ص: 366. إن هذا يتنافى مع ما بينهاه من تعلم المسلمين للكتابة، فتعميم ابن قتيبة هذا لا يستند إلى دليل. وانظر " مقدمة ابن خلدون": ص 543.