الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجدوا ما يطلبون فزعوا إلى «السُنَّةِ» ، فإنْ رُوِيَ لهم خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه، وإنْْ لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد والرأي (1).
وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة: كان أبو بكر الصدِّيق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإنْ وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإنْ لم يجد في كتاب الله نظر في سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإنْ أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإنْ لم يجد سُنَّةً سَنَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم (2) .. وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك.
هكذا كان منهج الصحابة جَمِيعًا في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أَنْ يتَّخذ بعض ما ورد عن الصحابة ذريعة لهواه، ونستعرض موقف بعض علماء الحديث في ذلك.
1 - رَأْيُ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ:
قال: «احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةً مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَغَيْرِهِمْ، الطَّاعِنِينَ فِي السُّنَنِ، بِحَدِيثِ عُمَر هَذَا قَوْلُهُ: " أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .. وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سُنَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلَاّ بها، والطعن على أهلها ولا حُجَّةَ في هذا الحديث، ولا دليل على شيء مِمَّا ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم، منها:
(1) انظر " الملل والنحل " للشهرستاني: ص 446، 447.
(2)
" إعلام الموقعين ": ص 62 جـ 1 عن كتاب " القضاء " لأبي عبيد.
- أنَّ وجه قول عمر كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه، إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك.
- وقال غيره: إنَّ عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حُكْمًا ولا يكون سُنَّةً.
- وطعن غيرهم في حديث قرظة هذا وَرَدَّهُ، لأنَّ الآثار الثابتة عن عمر خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي حَدِيثِ السَّقِيفَةِ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ أَنْ أَقُولَهَا [لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي] فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقِلَهَا وَحَفِظَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ تَنْتَهِي بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَلَاّ يَعِيَهَا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ [لأَحَدٍ] أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ
…
» (1).
وهذا يدل على أَنَّ نهيه عن الإكثار، وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفًا من [أَنْ] يكونوا - مع الإكثار - يُحَدِّثُونَ بما لم يَتَيَقَّنُوا حِفْظَهُ، وَلَمْ يَعُوهُ، لأنَّ ضبط من قَلَّتْ روايته أكثر من ضبط المستكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار، فلهذا أمرهم بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية، وَذَمَّهَا لنهي عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول:«فَمَنْ حَفِظَهَا وَوَعَاهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا» ، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم، بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ
(1) انظر هذا القول لعمر رضي الله عنه رواه الخطيب البغدادي عن ابن عباس في " الكفاية ": ص 166.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأمرهم بالإقلال منه، وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه، بقوله:«مَنْ حَفِظَ مَقَالَتِي وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ تَنْتَهِي بِهِ رَاحِلَتُهُ» ثم قال: «وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعِيَهَا فَلَا يَكْذِبْ عَلَيَّ» وهذا يُوضِّحُ لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على (بيان)(1) عن (الشعبي) وليس مثله حُجَّةٌ في هذا الباب، لأنه يعارض السُنَنَ وَالكِتَابَ.
قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2)
…
وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3)
…
ومثل هذا في القرآن كثير، ولا سبيل إلى اتباعه (4) والتأسي به، والوقوف عند أمره، إلَاّ بالخبر عنه، فكيف يَتَوَهَّمُ أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ الله عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا
…
» الحديث. وفيه الحض الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم، وقال:«خُذُوا عَنِّي فِي غَيْرِ مَا حَدَّثْتُ وَبَلِّغُوا عَنِّي» ، والكلام في هذا أوضح من النهار لأُولِي النُّهَى والاعتبار. ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنْ يكون خَيْرًا أَوْ شَرًّا. فإنْ كان خَيْرًا ولا شك في أنه خير فالإكثار من الخير أفضل، وإنْ كان شَرًّا - فَلَا (5)
(1) هو بيان بن بشر الأحمسي أبو بشر الكوفي كما في " الخلاصة ". وهو ثقة، وطعن ابن عبد البر في روايته هذه لأنه خالف من هو أوثق منه. وهذا لا يمنع صحتها، وأرى أَنَّ جميع ما ورد عن عمر غير متعارض كما أبيِّنُهُ بعد قليل، وطَعَنَ ابن حزم في حديث قرظة أَيْضًا، وناقش نهي عمر رضي الله عنه عن الإكثار من التَحَدُّثِ مناقشة طيبة قريبة من مناقشة ابن عبد البر، انظر " الإحكام ": ص 137 جـ 2 وما بعدها.
(2)
[سورة الأحزاب، الآية: 21].
(3)
[سورة الحشر، الآية: 7].
(4)
أي اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
(5)
في الأصل (وَلَا) وقد تكون خطأ من الناسخ فأثبتْناها (فَلَا) لأنَّ الفاء رابطة لجواب (إِنَّ) الشرطية.
يجوز أن يَتَوَهَّمَ أَنَّ عمر يوصيهم بالإقلال من الشر (1). وهذ يَدُلُّكَ أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن، لأنَّ المكثر لا تكاد تراه إلَاّ غير مُتَدَبِّرٍ ولا مُتَفَقِّهٍ.
وذكر مسلم بن الحَجَّاجِ في كتاب " التمييز "
…
عن قيس بن عُبادة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: «مَنْ سَمِعَ حَدِيثًا، فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَ فَقَدْ سَلِمَ» . ومما يدل على هذا ما ذكرناه فيما يُرْوَى عن عمر أنه كان يقول: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَّةَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ» . فسَوَّى بينهما،
…
وكتب عمر: «تعلَّمُوا السُنَّةَ وَالفَرَائِضَ وَاللَّحْنَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ القُرْآنَ»
…
قالوا: اللحن معرفة وجوه الكلام وَتَصَرُّفِهِ وَالحُجَّةُ بِهِ، وعمر هو الناشد للناس في غير موقف بل في مواقف شتى: مَنْ عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا، نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وفي الجنين يسقط مَيِّتًا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك
…
وكيف يَتَوَهَّمُ على عمر ما تَوَهَّمَهُ الذين ذكرنا قولهم وهو القائل: «إِيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا»
…
وعمر أَيْضًا هو القائل: «خَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ، وهو القائل: «سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل
…
».
ويقول ابن عبد البر: «وَقَدْ يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الآثَارُ كُلُّهَا عَنْ عُمَرَ صَحِيحَةً مُتَّفِقَةً، وَيَخْرُجُ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ، وَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا وَأَتْقَنَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَأَنَّ الإِكْثَارَ يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى التَّقَحُّمِ فِي
(1) انظر ما رُوِي عن عمر رضي الله عنه في الحرص على السُنن " إعلام الموقعين ": ص 55 جـ 1.