الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِثُ: آرَاءُ بَعْضِ المُسْتَشْرِقِينَ وَأَشْيَاعَهُمْ فِي السُنَّةِ وَنَقْدِهَا:
أَوَّلاً - رَأْيُ جُولدْتْسِيهِرْ:
يقول الدكتور علي حسن عبد القادر: «وهنا مسألة جد خطيرة، نجد من الخير أن نعرض لها ببعض التفصيل، وهي (وضع الحديث) في هذا العصر، ولقد ساد إلى وقت قريب في أوساط المستشرقين الرأي القائل: " بأن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني، وأنه ليس صحيحًا ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام في عصر النضوج» ، ويقول في الهامش:«هذا الرأي الذي ننقله هو رأي جولدتسيهر في كتابه " دراسات إسلامية "» (1).
وقد انتشر رأي (جولدتسيهر) هذا في الغرب والشرق وأصبح من مُسَلَّمَاتِ البحث عند المستشرقين، كما أن (جولدتسيهر) نفسه بَيَّنَ رأيه في السُنَّةِ واضحًا في كتابه " العقيدة والشريعة في الإسلام "، فقد قال: «ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القِدَمِ، وهذه إما قالها الرسول، أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى، ولكن من ناحية أخرى فإنه ليس من السهل تَبَيُّنُ هذا الخطر المتجدد عن بعد الزمان والمكان من المنبع الأصلي،
(1)" نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 126، 127، وانظر " دائرة المعارف الإسلامية " مادة (حديث) و Shorter Encyclopedia of Islam by H.A.R. Gibb and J.H. Kramers P، 116.
بأن يخترع أصحاب المذاهب النظرية والعملية أحاديث لا يرى عليها شائبة في ظاهرها، ويرجع بها إلى الرسول وأصحابه. فالحق أن كل فكرة، وكل حزب وكل صاحب مذهب، يستطيع دعم رأيه بهذا الشكل، وأن المخالف له في الرأي يسلك أَيْضًا هذا الطريق، ومن ذلك لا يوجد في دائرة العبادات أو العقائد أو القوانين الفقهية أو السياسية مذهب أو مدرسة لا تعزز رأيها بحديث أو بجملة من الأحاديث ظاهرها لا تشوبه أية شائبة. ولم يستطع المسلمون أنفسهم أن يخفوا هذا الخطر، ومن أجل هذا وضع العلماء علمًا خاصًا له قيمته، وهو علم نقد الحديث، لكي يفرقوا بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث، إذا أعوزهم التوفيق بين الأقوال المتناقضة، ومن السهل أن يفهم أن وجهات نظرهم في النقد ليست كوجهات النظر عندنا، تلك التي تجد مجالاً كبيرًا في النظر في تلك الأحاديث التي اعتبرها النقد الإسلامي صحيحة غير مشكوك فيها، ووقف حيالها لا يحرك ساكنًا.
ولقد كان من نتائج هذه الأعمال النقدية الاعتراف بالكتب الستة أصولاً، وكان ذلك في القرن السابع الهجري، فقد جمع فيها علماء من رجال القرن الثالث الهجري أنواعًا من الأحاديث كانت مبعثرة، رأوها أحاديث صحيحة» (1).
إن سوء ظن هذا الباحث في السُنَّةِ ظهر في طيات كتابه المذكور، في أبحاث ونقاط كثيرة، وإنما استشهدتُ ببعض ما يتناول بحثنا، ويتجلى لنا مما أوردت عن جولدتسيهر ما يلي:
1 -
يرى أن أكثر الحديث نتيجة للتطور الإسلامي السياسي والاجتماعي أي أنه موضوع.
(1)" العقيدة والشريعة ": ص 49، 50.
2 -
يرى أن رجال الإسلام القدامى (الصحابة والتابعين) كان لهم يد في وضع الأحاديث.
3 -
إن بُعْدَ الزمان والمكان من عهد الرسالة يسمح لأصحاب المذاهب أن ينتحلوا الأحاديث لدعم مذاهبهم، بل ما من مذهب نظري أو عملي إلا وقد عزز رأيه في مختلف النواحي العقائدية أو الفقهية أو السياسية حتى في العبادات بأحاديث ظاهرها لا تشوبه أية شائبة.
4 -
وجهة نظر النقاد المسلمين تختلف عن وجهة نظر النقاد الأجانب الذين لا يسلمون بصحة كثير من الأحاديث التي قرر المسلمون صحتها.
5 -
يصور " الكتب الستة " بأنها ضم لأنواع من الأحاديث التي كانت مبعثرة رأى جامعوها أنها صحيحة.
هذ النقاط الخمسة هي خلاصة رأي جولدتسيهر في الوضع والنقد، وله آراء كثيرة متفرقة خارجة عن إطار بحثنا (1)، وسنناقش هذه النقاط بإيجاز على ضوء ما سبق أن أثبتناه.
[1]
- إن ما ادعاه من أن أكثر الحديث نتيجة للتطور غير صحيح، لأن المسلمين منذ القرن الأول ومن عهد الصحابة كانوا يتثبتون في قبول الأحاديث، وكانوا يتتبعون الكذابين والوضاعين، وعرفوا الأحاديث الموضوعة والصحيحة.
ثم إن القرآن الكريم قد جاء بالقواعد الكلية التي تناسب كل زمان ومكان ولم يتعرض للجزئيات وطرق تنفيذها التي يمكن أن تتبدل وتتغير حسب البيئة والزمان دون أن تؤثر على القواعد الكبرى والأهداف العليا للإسلام، وترك
(1) تصدى الدكتور مصطفى السباعي للمستشرقين ورد عليهم في كتابه " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " وَرَدَّ على جولدتسيهر رَدًّا قَيِّمًا فليراجع هناك ص 364 وما بعدها.
الله تعالى للحكام وسائل التطبيق والتنفيذ في ظلال الكتاب والسنة والأصول التي تليها. فالمسلمون ليسوا بحاجة إلى اختلاق أحاديث تبرر ما يقومون به نتيجة لحياتهم الجديدة، فقد كفاهم الله عز وجل هذا بما شرعه لهم من أسس وقواعد خالدة إلى يوم الدين، رضيها لهم ورضوها لأنفسهم، وقد قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (1).
[2]
- يرى أن رجال الإسلام القدامى لهم يد في الوضع. فمن هم رجال الإسلام القدامى إذا لم يكونوا الصحابة والتابعين؟ فإذا كان قصدهم فإننا قد بَيَنَّا فيما سبق احتراز الصحابة عن ذلك وعدم انغماس كبار التابعين في حمأة الوضع فلا داعي للتكرار.
[3]
- إذا كان بعض أهل الأهواء قد استجازوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعم أهوائهم فهذا لا يعني قط أن أصحاب المذاهب الفقهية والسياسية والعقائدية قد اختلقوا الأحاديث لدعم مذاهبهم، ثم لِمَ يَظُنُّ السوء بهذه المذاهب؟ وَلِمَ يَدَّعِي كذبها ووضعها بعض الأحاديث؟ يجب أن يعلم كل إنسان أن الاختلافات الفقهية بين الصحابة أو الفقهاء لم يكن مردها هوى في النفس أو تعصبًا في الرأي، وإنما كانت لأسباب كثيرة أهمها أن بعض الأحاديث وصلت إلى الأئمة دون بعض فحكموا بها، أو أنها وصلتهم ولكنها ثبتت عند بعضهم ولم تثبت عند الآخرين، أو أنها ثبتت عند الجميع واختلفوا في الاستنباط منها وما إلى هذا (2)، فالفقهاء جَمِيعًا متفقون على اتباع سُنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل يعقل
(1)[سورة المائدة، الآية: 3].
(2)
انظر " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لابن تيمية، وهي رسالة صغيرة جليلة القدر وعظيمة النفع.
من هؤلاء أن يكذبوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام لدعم مذاهبهم!؟ وإنما قامت مذاهبهم على القرآن الكريم والسنة المطهرة، وشربت من ينبوع الرسول الصافي عليه الصلاة والسلام.
إن تعميم جولدتسيهر لم يبن على دراسة موضوعية للمذاهب الفقهية والعقائدية بل اكتفى بما وجده عند أهل الأهواء من الأحاديث الموضوعة، أو بما رآه في كتب بعض أتباع المذاهب الفقهية التي دُسَّ فيها بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، ثم ألصق هذا بأصحاب هذه المذاهب جريًا وراء هواه، لدعم رأيه في وضع أكثر الأحاديث.
[4]
- إن وجهة نظر النقاد المسلمين مبنية على القواعد والأصول التي وضعوها في نقدهم، وقد رأينا دقتها وعرفنا قيمتها، فمن الطبيعي أن تختلف عن وجهة نظر النقاد الأجانب، الذين لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون الإيحاء إليه، فنحن مختلفون معهم من نقطة البداية، لأن كثيرًا من الأحاديث التي تتناول العقائد والغيبيات سلمنا بصحتها بعد التحقيق العلمي، وسلمنا بكل ما جاء فيها لأنها عن الصادق المصدوق، فاختلاف وجهة نظرهم لا يضيرنا ما دمنا قد سلكنا في نقدنا وبحثنا أسلم طرق البحث العلمي وأدقها، وقد شهد لنا بذلك المنصفون منهم.
[5]
- أما رأيه في " الكتب الستة ": أنها مجموعة من الأحاديث التي ضمنها مؤلفوها بعد أن كانت مبعثرة في القرن الثالث، ورأوا أنها صحيحة، فهذا رأي مردود، فيه إنكار لجهود العلماء الجبارة التي بذلوها خلال القرن الأول والثاني في سبيل صيانة السنة وحفظها، فالسنة لم تكن مبعثرة متفرقة، بل كان معظمها عَمَلِيًّا، يطبقه المسلمون، ويقيمون تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على