الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَبَاحِثَ:
المَبْحَثُ الأَوَّلُ: النَّشَاطُ العِلْمِيُّ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
شعر الصحابة بالتبعة الملقاة على عاتقهم لحفظ الشريعة وتطبيقها، فسارعوا إلى صيانة مصادرها الأولى خشية ضياع القرآن الكريم من صدور القُرَّاءِ (الحُفَّاظ)، إثر حروب الردة، ومن ثم جمعوه في مصحف على عهد الصِدِّيقِ، وخافوا عاقبة الاختلاف في القراءات في الأمصار المختلفة، فنسخوه في مصاحف وُزِّعَتْ على الأقاليم الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه وكانوا في أحكامهم يرجعون إلى الكتاب الكريم ثم إلى السُنَّةِ، يسألون عن حكم مأثور عن الرسول فيما يَجِدُّ لهم من قضايا، فإذا ما ثبت عندهم شيء عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تسمكوا به وطبقوه، وقد ذكرت طريقة اجتهادهم فيما سبق.
وقد وجد الصحابة ضرورة تلح لحفظ السُنَّةِ، فحاول الصِدِّيقُ ثُمَّ الفَارُوقُ حفظها كتابة - وما منعهم من ذلك إلا حرصهم على القرآن وَالسُنَّةِ كما سيتبين لنا هذا في بحث تدوين السُنَّةِ - فما كان منهم إلا أن أَكَبُّوا على دراستها والسؤال عنها، والبحث عن الحديث عند حفاظه، ويكفينا مثالاً لهذا ما كان يفعله ابن عباس بعد وفاة رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقد روى عِكْرِمَةُ [عَنْ] ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمُ اليَوْمَ كَثِيرٌ، قَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَاكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِيَ الحَدِيثُ عَنِ
الرَّجُلِ، فَآتِي بَابَهُ، وَهُوَ قَائِلٌ (1)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تُسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ؛ فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ:" يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ؟ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ؟ " فَأَقُولُ: " أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ "، فَأَسْأَلُهُ عَنِ الحَدِيثِ» (2).
وكانت رغبة الصحابة في سماع حديث رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عظيمة، وهل أحب إلى المرء من أن يسمع حكم مُرَبِّيهِ وأحكامه وتشريعاته؟ وهل من شيء أعز على المسلم من أن يُحْيِي آثار منقذه من الضلال ورائده إلى الخير؟ لقد كان الصحابة مندفعين بإخلاص إلى سماع حوادث رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسيرته وحديثه، فهذا أبو بكر الصِدِّيقُ يقف عند عازب والد البراء فيشتري منه رَحْلاً وهو للناقة كالسرج للفرس، ثم يقول له:«مُرْ البَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ: لَا، حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ مَعَهُ؟» ، فقص عليه خبر الهجرة (3).
وهذا عَلِيٌّ أمير المؤمنين يَلْتَقِي بكَعْبِ الأَحْبَارِ فَيَقُولُ لَهُ كَعْبٌ: " يَا عَلِيُّ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي المُنْجِيَاتِ؟ " قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي المُوبِقَاتِ "، فَقَالَ كَعْبٌ لِعَلِيٍّ:" حَدِّثْنِي بِالمُوبِقَاتِ، حَتَّى أُحَدِّثَكَ بِالْمُنْجِيَاتِ " فَقَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «المُوبِقَاتُ: تَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ البَيْعَةِ، وَفِرَاقُ الْجَمَاعَةِ» فَقَالَ كَعْبٌ لِعَلِيٍّ: " الْمُنْجِيَاتُ: كَفُّ لِسَانِكَ، وَجُلُوسٌ فِي بَيْتِكَ، وَبُكَاؤُكَ عَلَى خَطِيئَتِكَ "(4).
(1) أي هو في نوم الظهيرة من القيلولة والقائلة.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 24: آ، وانظر ص 24: ب منه و" تذكرة الحفاظ ": ص 38 جـ 1.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 154 - 156 جـ 1 وانظر " فتح الباري ": ص 435 جـ 7.
(4)
" المحدث الفاصل ": ص 149: آ.
وقد روى بعض الصحابة عن بعض كثيرًا سواء في حياته عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته، من ذلك رواية الفاروق عمر عن الصِدِّيقِ رضي الله عنهما عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حديث «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» وهو حديث صحيح أخرجه " مسلم "، ومنها رواية عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا إِلَاّ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ» أخرجه مسلم في " صحيحه "، ورواية أبي بكر عَنْ بِلَالٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ» . ورواية عبد الرحمن بن عوف عن الفاروق رضي الله عنهما قَالَ: «رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ» . وما رواه بجالة بن عبدة قال: «كُنْت كَاتِبًا لِجَرِيرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنَاذَرِ (1) ، فَجَاءَنَا كِتَابُ عُمَرِ بْنِ اَلْخَطَّابِ رضي الله عنه: اُنْظُرْ مَجُوسَ هَجَرَ مِنْ قِبَلِك ، فَخْذ مِنْهُمْ الجِزْيَة، فَإِنَّ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ أَهْلِ هَجَرَ» ، وروت عائشة عن الصِدِّيقِ، كما روى عنها، وروى ابن عمر عن ابن عباس، وابن عباس عن ابن عمر، كما روت عائشة عنه، وروى ابن عباس عنها، وروى جابر بن عبد الله عن أبي سعيد الخُدري، كما روى أبو سعيد عن جابر، وأنس عن جابر، وجابر عن أنس، وروى ابن عباس عن جابر بن عبد الله كما روى جابر عنه، وروى أبو سعيد الخُدري عن ابن عباس كما روى ابن عباس عنه (2)، ومن يراجع كتب السُّنَنِ، وتراجم الرواة يجد كثيرًا من روايات بعض الصحابة عن بعض،
(1) مناذر هما بلدتان بنواحي خوزستان، مناذر الكبرى ومناذر الصغرى، وهما من كور الأهواز، وقد فُتِحَتََا سَنَةَ (18 هـ). انظر " معجم البلدان ": ص 160 جـ 8.
(2)
انظر " اللطائف في دقائق المعارف من علوم الحفاظ الأعارف " مخطوطة الظاهرية: ص 1: آ - 3: ب.
وهذا دليل واضح على النشاط العلمي الذي كان بينهم، يتبادلون الأحاديث ويسمعون ويسمع منهم وَيَرْوُونَ وَيُرْوَى عنهم. كل هذا في سبيل معرفة الحق وحفظ السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ.
ولم يكتف الصحابة بدراسة الحديث فيما بينهم، بل حَثُّوا على طلبه وحفظه وحضوا التابعين على مجالسة أهل العلم والأخذ عنهم، ولم يتركوا وسيلة لذلك إلا أفادوا منها. من هذا ما رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه:«تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» (1) وقال أَيْضًا: «تَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وَالسُّنَّةَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ القُرْآنَ» (2). وكان أبو ذر مثلاً رائعًا لنشر الحق وتبليغ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يروي عنه أنه قال:«لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ - السيف الصارم - عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُهَا» (3). وما كان أبو ذر بِدَعًا من الصحابة، إنما كان أحد الألوف الذين ساهموا في حفظ السُنَّةِ.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، «عَلَيْكُمْ بِالعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ
…
(4)» وكان ينهى عن البدع ويأمر باتباع السُنَّةِ فيقول: «الاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ [خَيْرٌ] مِنَ الاجْتِهَادِ فِي البِدْعَةٍ» (5). وقال أمير المؤمنين عَلِيٌّ بن أبي طالب: «تَزَاوَرُوا وَتَذَاكَرُوا الحَدِيثَ، فَإِنَّكُمْ إِلَاّ تَفْعَلُوا يَدْرُسُ» (6).
(1)" فتح الباري " ص 175 جـ 1.
(2)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 34 جـ 2.
(3)
" فتح الباري " ص 170 جـ 1.
(4)
" تذكرة الحفاظ ": ص 15 جـ 1 و" مجمع الزوائد ": ص 125 جـ 1، وانظر حضه على مذاكرة الحديث في " معرفة علوم الحديث ": ص 141.
(5)
" تذكرة الحفاظ ": ص 15 جـ 1 و" مجمع الزوائد ": ص 125 جـ 1، وانظر حضه على مذاكرة الحديث في " معرفة علوم الحديث ": ص 141.
(6)
" شرف أصحاب الحديث: ص 69. وانظر أَيْضًا " معرفة علوم الحديث ": ص 60 و 141.
ووقف عمرو بن العاص على حلقة من قريش فقال: «مَا لَكُمْ قَدْ طَرَحْتُمْ هَذِهِ الأُغَيْلِمَةَ؟ لَا تَفْعَلُوا، وَأَوْسِعُوا لَهُمْ فِي المَجْلِسِ، وَأَسْمِعُوهُمُ الحَدِيثَ، وَأَفْهِمُوهُمْ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُمْ صِغَارُ قَوْمٍ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَقَدْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَأَنْتُمُ اليَوْمَ كِبَارُ قَوْمٍ» (1).
وكان ابن عباس يحض طلابه على مذاكرة الحديث، فيقول:«تَذَاكَرُوا هَذَا الحَدِيثَ، لَا يَنْفَلِتْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ القُرْآنِ، القُرْآنُ مَجْمُوعٌ مَحْفُوظٌ، وَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَذَاكَرُوا هَذَا الحَدِيثَ يَنْفَلِتْ مِنْكُمْ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ حَدَّثْتُ أَمْسِ لَا أُحَدِّثُ اليَوْمَ، بَلْ حَدِّثْ أَمْسِ، وَحَدِّثْ اليَوْمَ، وَحَدِّثْ غَدًا» .. ، كما كان يقول:«إِذَا سَمِعْتُمْ مِنَّا، شَيْئًا فَتَذَاكَرُوهُ بَيْنَكُمْ» (2).
وكان أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يحب طلاب العلم ويفسح لهم المجالس، وكثيرًا ما كان يقول:«تَحَدَّثُوا، فَإِنَّ الحَدِيثَ يُذَكِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا» (3).
وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِطُلَاّبِهِ: «إِنَّ هَذَا المَجْلِسَ مِنْ بَلَاغِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَأَنْتُمْ فَبَلِّغُوا عَنَّا أَحْسَنَ مَا تَسْمَعُونَ» . وفي رواية: كَانَ يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا سَكَتَ قَالَ:«اعْقِلُوا، بَلِّغُوا عَنَّا كَمَا [بُلِّغْتُمْ]» (4).
وهكذا كان الصحابة الكرام يتواصون بحفظ الحديث ومذاكرته ويحضون طلابهم على ذلك، ويحثونهم على تبليغ ما يسمعون منهم.
(1)" شرف أصحاب الحديث ": ص 89: ب.
(2)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 99: آ. وانظر نحوه في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " نسخة الظاهرية: ص 48: ب.
(3)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 100: آ.
(4)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 100: آ.
وقد سار التابعون وأتباعهم على نهج الصحابة، فكانوا يوصون أولادهم وتلاميذهم بحفظ السُنَّةِ وحضور مجالس العلم، فقد أوصى عُرْوَةُ بَنِيهِ بهذا كما أوصى طلابه (1)، وكان علقمة يشجع طلابه على مذاكرة الحديث ودراسته (2)، كما كان عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، يَقُولُ:«إِحْيَاءُ الحَدِيثِ مُذَاكَرَتُهُ فَتَذَاكَرُوهُ» (3). واشتهرت بين العلماء عبارة «تَذَاكَرُوا الحَدِيثَ فَإِنَّ الحَدِيثَ يُهَيِّجُ الحَدِيثَ» (4).
وأكثر من هذا، كان بعض الآباء يشجعون أبناءهم على حفظ الحديث، ويقدمون إليهم جوائز كلما حفظوا شيئًا منه، من هذا ما رواه النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، يَقُولُ: قَالَ لِي أَبِي: «يَا بُنَيَّ، اطْلُبِ الحَدِيثَ، فَكُلَّمَا سَمِعْتَ حَدِيثًا، وَحَفِظْتَهُ، فَلَكَ دِرْهَمٌ. فَطَلَبْتُ الحَدِيثَ عَلَى هَذَا» (5).
ومهما يكن موقف المُرَبِّينَ في هذا العصر من هذا التشجيع فإنه وسيلة مبدئية لحفظ الحديث ودراسته، إن كانت في نظر الطفل هي الغاية فإنها لا تلبث أن تصبح، وسيلة إذا ما ألف حفظ الحديث، وتعطشت نفسه إليه تجسمت الغاية الأصلية أمامه، وعرف قيمتها، وقدر نفع الحديث، وعرف معناه، وأصبح من عشاقه، سواء أنقطعت تلك الجوائز أم لم تنقطع.
وإن التاريخ ليحفظ لنا أخبارًا كثيرة تثبت إقبال طلاب العلم على طلب
(1) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 134، 135 قسم 2 جـ 2، وانظر " المحدث الفاصل " نسخة دمشق: ص 15: ب، جـ 1.
(2)
انظر " شرف أصحاب الحديث ": ص 100: ب، وانظر كتاب "العلم " لزهير بن حرب، فإن فيه بعض هذا: ص 189: ب وكذلك في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 446: ب، و " المحدث الفاصل ": ص 129: ب - 130: ب.
(3)
انظر " شرف أصحاب الحديث ": ص 100: ب، وانظر كتاب "العلم " لزهير بن حرب، فإن فيه بعض هذا: ص 189: ب وكذلك في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 446: ب، و " المحدث الفاصل ": ص 129: ب - 130: ب.
(4)
انظر " شرف أصحاب الحديث ": ص 100: ب، وانظر كتاب "العلم " لزهير بن حرب، فإن فيه بعض هذا: ص 189: ب وكذلك في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 446: ب، و " المحدث الفاصل ": ص 129: ب - 130: ب.
(5)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 90، وإبراهيم بن أدهم عاصر الثوري ويغلب أن وفاته سَنَةَ (161 هـ) كان وَرِعًا مجاهدًا، انظر " البداية والنهاية ": ص 135 جـ 10.
الحديث إقبالاً لا مثيل له، بدافع ذاتي، وميل نفسي، حتى إن بعض طلاب العلم المتفانين في حُبِّ الحديث كانوا يؤدون بعض الخدمات من أجل سماع حديث أو حديثين (1).
وقد كانت المنافسة العلمية المحببة قائمة بين طلاب الحديث في ذلك العصر، فالذكي من تمكن من حفظ أحاديث في باب كذا وباب كذا، وَالمُجِدُّ من أسرع إلى صحابي وأخذ عنه قبل وفاته، وَالمُفْلِحُ من حظي بحب شيخه، وتمكن من الانفراد به، والكتابة عنه، والقراءة عليه ثم العرض والتصحيح بين يديه ..
لكل هذا رأينا أصحاب الحديث يَجِدُّونَ في طلب العلم الشريف، ويتبارون في تحصيله (2)، وكثر طلاب العلم كثرة تثلج لها الصدور، وتشرق بها النفوس حتى إن أحد الصحابة كان يحدث الناس، فيكثرون عليه، فيصعد فوق بيت ويحدثهم (3). قال أنس بن سيرين: «قَدِمْتُ الكُوفَةَ قَبْلَ الجَمَاجِمِ، فَرَأَيْتُ [فِيهَا] أَرْبَعَةَ آلَافٍ يَطْلُبُونَ
(1) رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: «كَانَ أَبِي صَيْرَفِيًّا بِالكُوفَةِ، فَرَكِبَهُ الدَّيْنُ، فَحَمَلَنَا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَى المَسْجِدِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَصِرْتُ إِلَى بَابِ المَسْجِدِ، إِذَا شَيْخٌ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ أَمْسِكْ عَلَيَّ هَذَا الحِمَارَ حَتَّى أَدْخُلَ المَسْجِدَ فَأَرْكَعَ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ أَوْ تُحَدِّثُنِي، قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ أَنْتَ بِالحَدِيثِ؟، وَاسْتَصْغَرَنِي، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي، فَقَالَ: " حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ "، فَحَدَّثَنِي بِثَمَانِيَةِ أَحَادِيثٍ، فَأَمْسَكْتُ حِمَارَهُ، وَجَعَلْتُ أَتَحَفَّظُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ، فَلَمَّا صَلَّى وَخَرَجَ، قَالَ: مَا نَفَعَكَ مَا حَدَّثْتُكَ، حَبَسْتَنِي فَقُلْتُ: حَدَّثْتَنِي بِكَذَا، وَحَدَّثْتَنِي بِكَذَا، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، تَعَالَ غَدًا إِلَى المَجْلِسِ، فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ» (48 - 126 هـ)، انظر "المحدث الفاصل " مخطوطة دمشق ص 16: ب - 17: آجـ 1.
(2)
انظر " المحدث الفاصل " ص 143: ب، فيها أخبار عن ذلك.
(3)
انظر كتاب "العلم " لزهير بن حرب: ص 192.
الحَدِيثَ» (1)، وفي رواية زاد: فقال: «وَأَرْبَعَمِائَةٍ قَدْ فَقِهُوا» (2). فَقَبْلَ بِدَايَةِ الربع الأخير من القرن الأول أضحت الكوفة محط أنظار أهل الحديث، ولم يقتصر هذا النشاط على قُطْرٍ دُونَ آخَرٍ، بل كان عَامًّا شاملاً. فحلقات العلم كانت تعقد في كل مكان، ففي جامع دمشق حلقات أبي الدرداء التي تضم نَيِّفًا وخمسمائة وألف طالب (3) إلى جانب حلقات غيره من شيوخ دمشق التي كان يكتب فيها الطلاب (4)، كما كانت تعقد في حمص وحلب والفسطاط والبصرة والكوفة واليمن إلى جانب حلقات ينبوع الإسلام في مكة والمدينة، فقد كانت في المدينة كالروضة يختار منها طالب العلم ما يشاء (5).
وفي عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، كان المسجد الحرام يغص بطلاب العلم، حتى إن الخلفية أعجب بهم عندما زاره فوجد فيه حِلَقًا لا تحصى، تضم أبناء المسلمين وطلاب العلم، فسأل عن شيوخ هذه الحلقات، فكان فيها عطاء، وسعيد بن جُبير، وميمون بن مهران، ومكحول، ومجاهد وغيرهم، فحث أبناء قريش على طلب العلم والمحافظة عليه (6).
وسيتجلى لنا نشاط المراكز العلمية في الدولة الإسلامية عندما نتكلم عن انتشار العلم في عهد الصحابة والتابعين.
(1)" المحدث الفاصل ": ص 81: آ، وكانت دير الجماجم وقعة مشهورة بين الحَجَّاجِ وعبد الرحمن بن الأشعث سَنَةَ (82 هـ) وفيها قتل عبد الرحمن بن الأشعث وكثير من القُرَّاءِ. انظر " تاريخ الطبري ": ص 157 جـ 5. ودير الجماجم بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البر السالك إلى البصرة: " معجم البلدان ": ص 131 جـ 4.
(2)
" المحدث الفاصل ": ص 135: ب.
(3)
انظر " التاريخ الكبير " لابن عساكر: ص 69 جـ 1.
(4)
انظر " التاريخ الكبير " لابن عساكر: ص 69 جـ 1.
(5)
انظر " المحدث الفاصل ": ص 9: ب.
(6)
انظر المرجع السابق: ص 35: ب - 36.
وقد قَيَّضَ الله لهذه الأُمَّةِ أساتذة أوتوا العلم والأدب وأصول التربية ترعرعوا بين يدي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ويدي أصحابه الكرام، واجتهد القائمون على التعليم منهم في ذلك العصر في تعليم تلاميذهم وجلسائهم، واعتنوا عناية عظيمة بالنشء الجديد، فنرى إسماعيل بن رجاء - من أقران الأعمش - «يَجْمَعُ الصِّبْيَانَ وَيُحَدِّثَهُمْ» (1) ومر رجل بالأعمش - سليمان بن مهران - وهو يحدث فقال له: تحدث هؤلاء الصبيان؟ فقال الأعمش: هؤلاء الصبيان يحفظون عليك دينك (2). وكان مُطَرَّفٌ بن عبد الله يقول: «لأَنْتُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مُجَالَسَةً مِنْ أَهْلِي» (3). وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ:«لَوْ لَمْ يَأْتُونِي - (يعني طلاب الحديث) - لأَتَيْتُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ» (4). وكانوا يعلمونهم الحديث والأدب فيه، واحترامه وإجلاله (5)، وكانت لحلقات العلم مكانة جليلة، وكان طلاب الحديث يوقرون أساتذتهم، ويفخرون بخدمتهم، والأخذ عنهم، وكان سلوكهم مع أساتذتهم في غاية الأدب والاحترام، سواء أكان هذا في التلقي عنهم أم في مناقشتهم، ويؤثر عن كثير من الصحابة والتابعين نصائح لطلاب العلم في هذا الصدد (6).
وأما حلقات العلم وشيوخها وطريقة تعليمهم فإنها تحتاج إلى بحث كبير قائم بذاته، وإن لدينا من الأخبار ما يملأ أكثر من مجلد في هذا. ولكن المقام يضيق بإيرادها، ويكفينا أن نذكر شَيْئًا مُوجَزًا عن الصحابة والتابعين يتناول طريقة تعليمهم.
(1) انظركتاب "العلم " لزهير بن حرب: ص 190.
(2)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 89: آ، وانظر " المحدث الفاصل " نسخة دمشق: ص 15 جـ 1.
(3)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 102: ب.
(4)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 103: ب، واشتهر عن عروة بن الزبير أنه كان يتألف الناس على حديثه، انظر " كتاب العلم " لابن حرب: ص 187.
(5)
انظر " طبقات ابن سعد ": ص 345 جـ 5.
(6)
انظر " العقد الفريد ": ص 78 جـ 2.
وأول ما يسترعي انتباهنا في هذا خطوط كبرى تعتبر من الأسس الهامة في التربية الحديثة، من هذه الأسس:
1 -
مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ المُحَدِّثِينَ:
----------------------------
فقد لاحظ الصحابة والتابعون أحوال طلابهم ملاحظة دقيقة، فكانوا لا يحدثونهم إلا بما يناسب مداركهم، ويشرحون الأحاديث، ويبينون مناسبتها حتى يدرك الطلاب ما يرويه شيوخهم، يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَبْلُغُ عَقْلَهُ فَهْمُ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِتْنَةً» (1) وفي رواية عنه: «مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَاّ كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ» (2). وعن حماد بن زيد قال: قَالَ أَيُّوبُ: «لَا تُحْدِثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ فَتَضُرُّوهُمْ» (3).
2 -
الحَدِيثُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ:
----------------------------
وكما حرص الصحابة والتابعون على مراعاة أحوال الرواة، حرصوا على نشر الحديث بين أهله وطلابه، ورفعه عن السفهاء وأهل الغايات والأهواء، فكانوا يحاولون جهدهم ألا يحضر مجالسهم إلا طلاب العلم، وفي هذا كان يقول الزُّهْرِيِّ: «
…
وَهُجْنَتُهُ (أي الحديث) نَشْرُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ» (4)، وَ «كَانَ الأَعْمَشُ
(1)" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 129: ب.
(2)
" تذكرة الحفاظ ": ص 15 جـ 1. وَرُوِيَ نحو هذا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، انظر " المحدث الفاصل ": ص 143: ب.
(3)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 129: ب.
(4)
" المحدث الفاصل ": ص 141: آ. وَالهُجْنَةُ وَالتَّهْجِينُ الأَمْرُ [القَبِيحُ].
يَرَى أَنَّ إِضَاعَةَ الحَدِيثِ التَّحْدِيثُ بِهِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ» (1) وكثيرًا ما كان يَقُولُ: «لَا تَنْثُرُوا اللُّؤْلُؤَ عَلَى أَظْلَافِ الْخَنَازِيرِ» يَعْنِي الحَدِيثَ (2) أي لا تحدثوا الحديث لغير أهله.
وَرَأَى الأَعْمَشُ شُعْبَةََ بْنَ الحَجَّاجِ يُحَدِّثُ قَوْمًا، فَقَالَ لَهُ:«وَيْحَكَ يَا شُعْبَةُ! تُعَلِّقُ الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ (3)؟» . قَالَ مُجَالِدٌ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ
…
فَرَوَيْتُهُ عَنْهُ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ قَطُّ، فَأَتَوْنِي، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَوَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ: «أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثِ الحُكَمَاءِ، وَتُحَدِّثُ بِهِ السُّفَهَاءَ!؟» (4). وكان يقول: «إِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ هَذَا العِلْمَ مَنْ جَمَعَ النُّسُكَ وَالعَقْلَ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلاً بِلَا نُسُكٍ قِيلَ: هَذَا لَا يَنَالُهُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِكًا بِلَا عَقْلٍ قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَنَالُهُ إِلَاّ العُقَلَاءُ» (5).
وأختتم هذه الفقرة بذكر شيء من أساليب الحيطة، التي كان يفعلها زائدة بن قدامة (6) مع من يأتيه طالبًا للحديث، حِرْصًا منه على صيانة السُنَّةِ المُطَهَّرَةِ وحفظها.
رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ المُهَلَّبِ الأَزْدِيُّ، قَالَ: «كَانَ زَائِدَةُ لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا حَتَّى يَمْتَحِنَهُ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا، قَالَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ البَلَدِ قَالَ: أَيْنَ مُصَلَاّكَ؟ وَيَسْأَلُ كَمَا يَسْأَلُ القَاضِي عَنِ البَيِّنَةِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ قَالَ: لَا تَعُودَنَّ إِلَى هَذَا المَجْلِسِ،
(1)" المحدث الفاصل ": ص 141: آ.
(2)
" المحدث الفاصل ": ص 141: آ.
(3)
" المحدث الفاصل ": ص 142: آ.
(4)
" المحدث الفاصل ": ص 141: ب، ولعل الشعبي أنكر ذلك لأنه خشي من القوم السفهاء أن يتخذوا ما حَدَّثَ به ذريعة إلى أهوائهم.
(5)
" تذكرة الحفاظ ": ص 77 جـ 1.
(6)
انظر ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": ص 194 جـ 1، وهو إمام حُجَّةٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ 161 هـ.
، فَإِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ خَيْرًا أَدْنَاهُ وَحَدَّثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الصَّلْتِ، لِمَ تَفْعَلْ هَذَا؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ العِلْمُ عِنْدَهُمْ، فَيَصِيرُوا أَئِمَّةً يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ، فَيُبَدِّلُوا كَيْفَ شَاءُوا» (1).
قد يُظَنُّ أن في تَشَدُّدِ زائدة مَنْعًا للعلم ونشره، وأن طريقته هذه تتنافى مع رسالة المعلمين المرشدين الهادين، والحقيقة أن منهجه هذا كان من وسائل المحافظة على السُنَّةِ، كما كان حائلاً دون أهل البدع والأهواء من أن يستغلوا الحديث الشريف، أو يُحَرِّفُوهُ تَبَعًا لأهوائهم.
3 -
طَلَبُ الحَدِيثِ بَعْدَ القُرْآنِ الكَرِيمِ:
-----------------------------------
من البدهي أن يهتم المسلمون بكتاب الله تعالى وحفظه ودراسته وتلاوته، وفهمه وتفسيره. وقد أجمع المُحَدِّثُونَ على أنه لا ينبغي أن يطلب المرء الحديث إلا بعد قراءته القرآن وحفظه كله أو أكثره، ثم يبدأ سماع الحديث وكتابته عن الشيوخ، وكان كثير من المُحَدِّثِينَ لا يقبلون الطلاب في حلقاتهم إلا إذا وثقوا من دراستهم القرآن الكريم وحفظ بعضه على الأقل، وفي هذا قَالَ حَفْصُ بْنَ غِيَاثٍ:«أَتَيْتُ الأَعْمَشَ فَقُلْتُ: " حَدِّثْنِي "، قَالَ: " أَتَحْفَظُ القُرْآنَ؟ " قُلْتُ: " لَا "، قَالَ: " اذْهَبْ فَاحْفَظِ القُرْآنَ، ثُمَّ هَلُمَّ أُحَدِّثُكَ " قَالَ: " فَذَهَبْتُ فَحَفِظْتُ القُرْآنَ، ثُمَّ جِئْتُهُ فَاسْتَقْرَأَنِي، فَقَرَأْتُهُ، فَحَدَّثَنِي "» (2).
4 -
عَدَمُ تَتَبُّعِ المُنْكَرِ مِنَ الحَدِيثِ:
---------------------------------
خشي الصحابة والتابعون من بث بعض الأحاديث الواهية والضعيفة،
(1)" المحدث الفاصل ": ص 142: ب.
(2)
" المحدث الفاصل ": نسخة دمشق: ص 19 جـ 1.
فنهوا عن روايتها وطلبوا التثبت في الرواية كما سبق أن ذكرنا، وحثوا على رواية الأحاديث المعروفة ونشرها بين طلاب العلم وخاصة الجدد منهم. وفي هذا يُرْوَى عن أمير المؤمنين عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ:«حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ!! أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (1). قال الإمام الذهبي: «فَقَدْ زَجَرَ الإِمَامُ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ رِوَايَةِ المُنْكَرِ، وَحَثَّ عَلَى التَّحْدِيثِ بِالمَشْهُورِ، وَأَصْلُ هَذَا كَبِيرٌ فِي الكَفِّ عَنْ بَثِّ الأَشْيَاءِ الوَاهِيَةِ، وَالمُنكِرةِ مِنَ الأَحَادِيثِ فِي الفَضَائِلِ وَالعَقَائِدِ، وَالرَّقَائِقِ، وَلَا سَبِيِلَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ هَذَا إِلَاّ بِالإِمْعَانِ فِي مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ» (2).
وأما الأحاديث المنكرة والشاذة وطرقها، والأحاديث الموضوعة، فقد كان يحفظها الشيوخ حتى إذا ذكر لهم حديث منها بَيَّنُوهُ، وكانوا يَرْوُونَ منها لطلابهم بعد بيان عِلَلِهَا، وبعد أن يقطع الطلاب مرحلة جيدة في دراساتهم. وسنبين هذا عندما نتكلم عن الحديث الموضوع.
5 -
التَّنْوِيعُ وَالتَّغْيِيرُ دَفْعًا لِلْمَلَلِ:
--------------------------------
عرف الصحابة والتابعون ما يجدد نشاط طلابهم، فعملوا به، وأفادوا منه لتحقق الغاية من دروسهم وحلقاتهم، فكانوا بتناولون دراسة الأحاديث المختلفة حِينًا، ويتكلمون في الرجال أحيانًا، وينتقلون إلى سيرة الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تارة، ويذكرون أسباب ورود الحديث ومناسبته تارة أخرى.
(1)" تذكرة الحفاظ ": ص 12، 13 جـ 1، و" فتح الباري ": ص 235 جـ 1.
(2)
" تذكرة الحفاظ ": ص 12، 13 جـ 1.
فكانت دراسة الحديث شيقة، تجذب الطالب إليها لتعدد موضوعاتها وتناولها كَثِيرًا من الأمور التي تتعلق بدينه ودنياه. ومع هذا كان شيوخ الحلقات يخشون إدخال السآمة إلى نفوس تلاميذهم، فكانوا يتخولونهم بالموعظة كما كان يفعل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الصحابة من بعده (1) وكانت السيدة عائشة توصي التابعين بهذا، فَقَدْ قَالَتْ لِعُبَيْدٍ بْنِ عُمَيْرٍ:«إِيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ» (2). ولهذا كانوا لا يطيلون المجلس حتى لا تضيع الفائدة عليهم، وفي هذا يقول الإِمَامُ الزُّهْرِيُّ:«إِذَا طَالَ المَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ» (3) وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: - إِذَا فَاضَ مَنْ عِنْدَهُ بِالحَدِيثِ بَعْدَ القُرْآنِ وَالتَّفْسِيرِ -: «أَحْمِضُوا [بِنَا]» . أَيْ: خُوضُوا فِي الشِّعْرِ وَ [الأَخْبَارِ] وغيره
…
، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال:«إِنِّي لأَسْتَجِمُّ قَلْبِي بِالشَّيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ، لأَقْوَى بِهِ عَلَى الحَقِّ» (4).
وقد كان الصحابة أحيانًا يتناولون في مجالسهم بعض الشعر وأيام الجاهلية ليسروا عن أنفسهم، فيبدلوا الموضوع ليستعيدوا نشاطهم، فَعَنْ أَبِي خَالِدٍ [الوَالِبِيِّ] قَالَ:«كُنَّا نُجَالِسُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَتَنَاشَدُونَ الأَشْعَارَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَيَّامَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ» (5)، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُحَدِّثُ ثُمَّ يَقُولُ:
(1) انظر هذا عن عبد الله بن مسعود في " مسند الإمام أحمد ": ص 202 حديث 3581 جـ 5، و " جامع بيان العلم وفضله ": ص 105 جـ 1.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 136: آ.
(3)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 136: آ.
(4)
" الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ": ص 41، واللهو المقصود هنا اللهو المشروع مِمَّا يُرَوِّحُ القلب ويجدد النشاط.
(5)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 105 جـ 1.
وكان يقول: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً وَسَاعَةً» (2).
6 -
اِحْتِرَامُ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرُهُ:
------------------------------------------------------------
ذكرت تمسك الصحابة والتابعين بالسنة، وتقديمها على كل شيء بعد القرآن، فقد كانوا لا يقبلون رَأْيًا مَعَ السُنَّةِ مهما يكن شأنه، ومهما تكن منزلة صاحبه، وكما تمسكوا بالسنة احترموا مجالس الحديث، ووقروا حفاظه، وتأدب الناس مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شُيُوخًا وَطُلَاّبًا.
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ:«كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحْدِثُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ (3)» ، قَالَ إِسْحَاقُ:«[فَرَأَيْتُ] الأَعْمَشَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَدَّثَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ تَيَمَّمْ (4)» . وَقَالَ قَتَادَةُ «لَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تُقْرَأَ الأَحَادِيثُ الَّتِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَاّ عَلَى طُهُورٍ» ، وفي رواية:«إِلَاّ عَلَى وُضُوءٍ (5)» . وروي هذا عن كثير من العلماء.
ويذكر سعيد بن المسيب - وهو على فراش المرض - حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «أَجْلِسُونِي، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُضْطَجِعٌ» (6).
(1)" جامع بيان العلم ": ص 104 جـ 1. مَجَّ الشَّرَابَ مِنْ فِيهِ: رَمَى بِهِ، وَمَجَّ الحَدِيثَ طَرَحَهُ وَمَلَّ مِنْهُ. وَالحِمْضَةُ: الشَّهْوَةُ لِلْشَّيْءِ، وَحَمَضَتِ الإِبِلُ عَنْ الحِمْضِ: كَرِهَتْهُ وَبِهِ اشْتَهَتْهُ. انظر " القاموس المحيط ".
(2)
" جامع بيان العلم ": ص 105 جـ 1.
(3)
" جامع بيان العلم ": ص 198 جـ 2. و" المحدث الفاصل ": ص 147: آ.
(4)
" جامع بيان العلم ": ص 199 جـ 2.
(5)
" جامع بيان العلم ": ص 199 جـ 2.
(6)
" جامع بيان العلم ": ص 199 جـ 2.
قال الرامهرمزي: كان أكثرهم يتطهرون عندما يتصدرون للتحديث فيلبس العالم أحسن ثيابه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ومن ذلك قول أَبِي الْعَالِيَةِ:«إِذَا حَدَّثْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فَازْدَهِرْ» ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ يُحَدِّثَ، تَوَضَّأَ وَضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَلَبِسَ قَلَنْسُوَةَ، وَمَشَطَ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:«أُوَقِّرُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (1). وكان مالك يحدث أحيانًا أبناء كل قطر حتى لا يزداد الازدحام في داره، فكان مناد على بابه ينادي:«لِيَدْخُلَ أَهْلُ الْحِجَازِ» ، فلا يدخل غيرهم، ثم يخرج فينادي:«لِيَدْخُلْ أَهْلُ الشَّامِ» (2)
…
يفعل هذا حتى لا يكثر الطلاب، فيكثر السؤال، وتفوت الفائدة جل الحاضرين.
وهناك آداب كثيرة، وأصول متبعة للسؤال والقراءة والعرض على المحدث والجلوس بين يديه، وحضور حلقات العلم، تكفلت بذكرها كتب خاصة (3)، وأفردت لها أبواب في أكثر كتب مصطلح الحديث وعلومه.
7 -
مُذَاكَرَةُ الحَدِيثِ:
--------------------
لم يكن طلاب العلم يكتفون بحضور مجلس الحديث ثم ينصرفون إلى أعمالهم حتى يحين المجلس القادم، من غير أن يذاكروا ما يسمعونه. ولم يكن حضور حلقات العلم للتسلية وشغل أوقات الفراغ .. ، متى شاء الطالب حضر ومتى أحب
(1) انظر " المحدث الفاصل ": ص 146: ب.
(2)
انظر المرجع السابق: ص 147: أ.
(3)
فقد الف الخطيب كتابًا كبيرًا في هذا سماه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " تعرض فيه لجميع ما يتعلق بطلاب الحديث وأساتذتهم ودروسهم ومذاكرتهم
…
الخ، ولا يزال هذا المؤلف مخطوطًا، ومنه نسخة كاملة في دار الكتب في الإسكندرية، صورت عنها نسخة ونقلت إلى دار الكتب المصرية في «196» لوحة، كل لوحة فوتوغرافية صفحتان من النسخة الأصلية، وقد باشرت تحقيقه مع بعض إخواني، أرجو أن نوفق لنشره فينتفع المسلمون به (*).
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) طبع الكتاب " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب، الطبعة الثالثة: 1416 هـ - 1996 م، 2 مج، 10 ج، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان.
انصرف منها، كلا، بل كان الطلاب يحضرون في أوقات معينة يخصصها لهم أستاذهم بعد صلاة الفجر مثلاً حتى الضحى، أو بين الظهر والعصر، فيتسابق الطلاب إلى الحلقة قبل انعقادها، ليتخذوا أماكنهم (1)، حتى إذا حضر الأستاذ كان جميع الطلاب على استعداد لتلقي الحديث عنه. وقد يتغيب عن الحلقة طالب، فيسأل عنه الشيخ ويعرف سبب غيابه، وقد يكلف بعض إخوانه السؤال عنه، فالحلقات في العصور الماضية كانت كالفصول النظامية في مدارسنا الحديثة.
لهذا كان أصحاب الحديث يحرصون على حضور مجالسه، ويحفظون ما يسمعونه، ويذاكرونه.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك قال:«كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ فَإِذَا قُمْنَا تَذَاكَرْنَاهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظُهُ» (2).
وكان التابعون وأتباعهم يذاكرون حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام جماعات وأفرادًا، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَمَّانِ (3) قَالَ:«حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بِحَدِيثٍ فَلَمْ نَحْفَظْهُ، فَتَذَاكَرْنَاهُ بَيْنَنَا حَتَّى حَفِظْنَاهُ» (4). وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ:«كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَيُحَدِّثُنَا، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ تَذَاكَرْنَا حَدِيثَهُ» (5) .. ، وَعَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، قَالَ: «رَأَيْتُ أَبَا يَحْيَى الأَعْرَجَ - وَكَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - اجْتَمَعَ هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ،
(1) انظر انعقاد المجالس في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ". حيث بسط القول في هذا.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 46: ب.
(3)
لم يذكر الحاكم لقبه وهو من أصحاب أبي هريرة وقد سمع من ابن عباس وهو ذكوان المدني. انظر " تهذيب التهذيب ": ص 132 جـ 12.
(4)
" معرفة علوم الحديث ": ص 141.
(5)
كتاب "العلم " لزهير بن حرب: ص 190: آ.
فَتَذَاكَرَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ» (1). وقال مرة عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: «إِحْيَاءُ الْحَدِيثِ مُذَاكَرَتُهُ» ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ:«يَرْحَمُكَ اللَّهُ، كَمْ مِنْ حَدِيثٍ قَدْ أَحْيَيْتَهُ مِنْ صَدْرِي قَدْ كَانَ مَاتَ» (2).
وقد تطول مجالس المذاكرة من أول الليل حتى نداء الفجر (3)، وكان من طلاب العلم من ينتظر انصرام الليل ليلقى إخوانه فيذاكرهم، وكان إِبْرَاهِيمُ النَّخعِي يَقُولُ:«إِنَّهُ لَيَطُولُ عَلَيَّ اللَّيْلُ حَتَّى أَلْقَى أَصْحَابِي فَأُذَاكِرُهُمْ» (4). ومما يروى عن شعبة بن الحجاج أنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْنٍ، وَقَدْ عَقَدَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا فَكَلَّمَهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ، فَقَالَ:«لَا تُكَلِّمْنِي فَإِنِّي قَدْ حَفِظْتُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أَخَافُ أَنْ أَنْسَاهَا» (5).
هكذا كان يذاكر أصحاب الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يثبت في صدورهم ولا ينسوه.
وكان بعضهم يتخذ التحديث بما سمع وسيلة إلى حفظه، فإذا لم يجد من يحدثه حدث خادمه أو بنيه، وفي هذا يروى عَنْ الإِمَامِ الزُّهْرِيِّ كَانَ يَبْتَغِي الْعِلْمَ مِنْ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ، فَيَأْتِي جَارِيَةً لَهُ نَائِمَةً فَيُوقِظُهَا فَيَقُولُ لَهَا «حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَفُلَانٌ بِكَذَا» ، فَتَقُولُ لَهُ:«مَا لِي وَلِهَذَا؟» فَيَقُولُ: «قَدْ عَلِمتُ أَنَّكِ لَا تَنْتَفِعِينَ بِهِ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ الآنَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَذكِرَهُ» (6)، ولا يجد إسماعيل بن رجاء من يذاكر الحديث معه فيجمع غلمان المكاتب ويحدثهم كيلا ينسى حديثه (7).
(1)" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 184: آ.
(2)
كتاب "العلم " لزهير بن حرب: ص 190: آ
(3)
انظر المرجع السابق: ص 191: ب.
(4)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 182: ب.
(5)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 47: آ.
(6)
" تاريخ الإسلام " للذهبي: ص 148 جـ 5.
(7)
انظر " المحدث الفاصل " نسخة دمشق: ص 15: ب، وانظر " عيون الأخبار ": ص134 جـ 2، و " تهذيب التهذيب ": ص 296 جـ 1.
وكثيرًا ما كانت تعقد مجالس المذاكرة وتقام المناظرات بين أصحاب الحديث لتعرف طرقه، ويكشف عن القوي والضعيف منها، وفي هذا يقول يَزِيدُ بْنِ هَارُونَ:«أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَكْتُبُونَ عَنْ كُلٍّ - مِنَ المَشَايِخِ الأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ -، فَإِذَا وَقَعَتِ الْمُنَاظَرَةُ حَصَّلُوا» (1).
مما سبق يتبين لنا اهتمام الصحابة والتابعين وأتباعهم بالسنة المطهرة، وحرصهم على الحديث النبوي الشريف، فعرفنا كيف كانوا يحدثون طلابهم وكيف كانوا يعتنون بصغارهم، ويحرصون على تربيتهم التربية الصالحة، على هدى محمد صلى الله عليه وسلم، كما عرفنا آدابهم في الحديث وطلبه، واحترامهم لعلمائهم، وحرص الطلاب على دراسة السنة وحفظها ومذاكرتها وتثبيتها في صدورهم والعمل بها، كل ذلك يعطينا صورة حية عن النشاط الحديثي في ذلك العصر، صورة مخطوطة عن الحركة العلمية القوية التي كانت في عصر الصحابة والتابعين، تلك الحركة التي كان لها الفضل العظيم في حفظ السُنَّةِ.
وإن ما قدمناه لا يعدو الخطوط العريضة لتلك الحركة الواسعة، التي كانت في الصدر الأول وقد أغفلنا كثيرًا من التفصيلات التي تتعلق بسن السماع وطريقة الرواية والتلقي، وكيفية القراءة على المحدث، وكل ما يتعلق بدرجات تحمل الحديث وأدائه، مما تكفلت بشرحه كتب مصطلح الحديث وعلومه.
وهكذا خرجنا من هذا البحث بخلاصة هامة، هي أن الحديث الشريف لقي عناية وحفظًا واهتمامًا عظيمًا من أبناء ذلك العصر، الذين تولوا نقله بأمانة وإخلاص إلى الجيل الذي تلاهم، ثم أدت الأجيال المتعاقبة هذه الأمانة حتى وصلت إلينا في أمهات الكتب الصحيحة.
(1)" المحدث الفاصل ": ص 83: ب، و" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 167: آ.