الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنايتهم بها، وحرصهم عليها، فكيف يغيب عنهم شيء منها، وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَيِّفًا وَعِشْرِينَ عَامًا قبل الهجرة وبعدها، فحفظوا عنه أقواله وأفعاله، «ونومه ويقظته، وحركته، وسكونه، وقيامه، وقعوده، واجتهاده، وعبادته، وسيرته، وسراياه ومغازيه، ومزاحه وزجره، وخطبه وأكله وشربه، ومعاملته أهله، وتأديبه فرسه وكتبه إلى المسلمين والمشركين، وعهوده ومواثيقه، وألحاظه وأنفاسه وصفاته، هذا سوى ما حفظوا عنه من أحكام الشريعة، وما سألوه عن العبادات والحلال والحرام أو تحاكموا فيه إليه» (1) فكانوا بحق خير خلف لخير سلف رضي الله عنهم.
4 - انْتِشَارُ السُنَّةِ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام
-:
انتشرت السُنَّةُ مع القرآن الكريم منذ الأيام الأولى للدعوة، يوم كان المسلمون قلة يجتمعون سِرًّا في دار الأرقم بن عبد مناف، يَتَلقَّوْنَ تعاليم الدين الجديد يقرأون القرآن، ويقيمون شعائرهم، وما لبث النبي عليه الصلاة والسلام أنْ صدع بأمر الله تعالى، وكثر المسلمون، وَعَمَّ الإسلام الجزيرة العربية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع مراحل الدعوة يبلغ الناس، ويفتيهم ويقضي بينهم، ويخطبهم ويسوسهم في السلم والحرب، وفي الشِدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَيُعَلِّمُهُمْ فيحفظون الأحكام وَيُطبِّقُونَهَا. وقد تضافرت عوامل عِدَّةٍ تَكَفَّلَتْ بنشر السُنَّةِ في الآفاق منها:
(1)" المدخل إلى كتاب الإكليل في أصول الحديث ": ص 7، 8.
1 -
نشاط رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجده في تبليغ دعوته ونشر الإسلام، فلم يترك وسيلة للدعوة إِلَاّ استفاد منها، ولا سبيلاً إلَاّ سلكها، فعرض نفسه على القبائل، وَتَحَمَّلَ الصعاب وَصُنُوفَ الأذى، واتصل بوفود المواسم وعرض عليهم الإسلام
…
فلم يَأْلُ جُهْدًا في تبليغ الرسالة .. حتى عَزَّ الإسلام وقويت دولته .. وفي جميع تلك التطورات كانت السُنَّةُ تأخذ مكانها في نفوس المسلمين.
2 -
طبيعة الإسلام ونظامه الجديد، الذي جعل الناس يتساءلون عن أحكامه، وعن رسوله وأهدافه، فكان بعض من يسمع بالدعوة يُقْبِلُ على رسول الله عليه الصلاة والسلام، يسأله عن الإسلام فيعلن إسلامه، وينطلق إلى قومه لِيُبَلِّغَهُمْ ما رأى ويخبرهم ما سمع
…
3 -
نشاط أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، واندفاعهم في طلب العلم وحفظه وتبليغه، وقد سبق أَنْ تكلمت مفصلاً عن نشاطهم العلمي في بحث «كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَلَقَّوْنَ السُنَّةَ؟» .
4 -
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن:
كان لأمهات المؤمنين فضل عظيم في تبليغ الدين، ونشر السُنَّةِ بين نساء المسلمين، فقد كان بعض النساء يخجلن مِنْ أنْ يسألن رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أُمُورِهِنَّ فيجدن عند أزواجه ما يُشفي غَلِيلَهُنَّ، لأنهنَّ على صلة دائمة به، يَتَعَلَّمْنَ منه الأحكام، وَيَنْقُلْنَ عنه ما لا يتاح لغيرهن نقله، وقد اشتهرت السيدة عائشة رضي الله عنها بعلمها الغزير، وحرصها على فهم الأحكام، فعن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ «كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَاّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
وقد عرف المسلمون سمو مكانتها، وتعمُّقها في أحكام الإسلام، فكانت - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - محطَّ أنظار طلاب العلم والمستفتين ومرجعهُم في كثير من أمور دينهم.
5 -
الصحابيات: كان للنساء أثر عظيم في حفظ السُنَّةِ وتبليغها لا يقل عن أثر الصحابة رضي الله عنهم، وقد رأينا حِرْصَهُنَّ على حضور مجالس الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا ما رأين الرجال قد غَلَبُوهُنَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبن منه أنْ يُعيِّنَ لهنَّ جلسات خاصة بِهِنَّ يسألنه فيها عن أمورهن ويستمعن إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهؤلاء الصحابيات أثر عظيم في حمل أحكام كثيرة تتعلق بالنساء وحياتهن الزوجية، كان من الصعب أنْ يسأل الصحابة عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
6 -
رُسُله صلى الله عليه وسلم وَوُلَاّتُهُ:
أصحبت المدينة بعد الهجرة مقر الدولة الإسلامية، وقاعدة الدعوة: تنبعث منها الهداية إلى الآفاق، وتتحطَّم على إثرها أصنام الشرك، وَتَتَقَوَّضُ أمامها عروش الطغيان، فمن يثرب انطلق رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل المجاورة والنائية، يدعونهم إلى الإسلام، ويُعلِّمونهم أحكامه ونظمه، عندما كانت قريش تحول بين القبائل المسلمة والنبي عليه الصلاة والسلام، وكان
(1)" فتح الباري ": ص 207 جـ 1.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوَجِّهُ رسله ويرشدهم وَيُعلِّمُهُمْ أصول الدعوة ويأمرهم أنْ يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ذلك وصيته لمعاذ بن جبل ولأبي موسى الأشعري عندما وَجَّهَهُمَا إلى اليمن (1): قال عليه الصلاة والسلام «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» ، وقال لمعاذ رضي الله عنه:«إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افتََرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» (2): «وَكَانَ يُشَجِّعُ عُمَّالَهُ وَقُضَاتَهُ، قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: " بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَسَنُّ مِنِّي لأَقْضِيَ بَيْنَهُمْ "، قَالَ: " اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ "» (3).
وقد كانت بعوثه عليه الصلاة والسلام وَوُلَاّتُهُ خير من يحمل الرسالة وَيُؤَدِّي الأمانة.
وفي السَّنَةِ السَّادِسَةِ كثرت بُعُوثُهُ صلى الله عليه وسلم، فقد وجه بعد صلح الحديبية رسله إلى الملوك، يحملون إليهم كتبه، ففي يوم واحد انطلق ستة نفر إلى جهات مختلفة يَتَكَلَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بلسان القوم الذين بعث إليهم (4)،
(1) انظر " صحيح البخاري " بحاشية السِندي: ص 72 جـ 3 وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة.
(2)
" صحيح مسلم ": ص 50 حديث 29 و 30 جـ 1.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 73 حديث 666 جـ 2 بإسناد صحيح.
(4)
انظر " المصباح المضيء ": ص 40.
فقد اشتهر أنه أرسل رسله إلى قيصر الروم (1)، وإلى أمير بُصْرَى، وإلى الحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمَّرْ أمير دمشق من قبل هرقل، وإلى المقوقس أمير مصر من قبل هرقل يدعوهم إلى الإسلام، كما وجه كتبه إلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وأرسل كتبه ورسله إلى عُمَانَ وَاليَمَامَةَ وغيرها
…
وكان الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، وَيُبَيِّنُونَ لهم الإسلام وغاياته على ضوء ما يزودهم به الرسول عليه الصلاة والسلام من التوجيه والإرشاد، وكان عليه الصلاة والسلام يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم، ويمدهم بمن يُفقِّهُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ.
7 -
غزوة الفتح (الفتح الأعظم).
في سَنَةِ ثمان من الهجرة نقضت قريش صلح الحديبية، فدعا رسول الله القبائل المسلمة أن تحضر رمضان في المدينة، وانطلق بعشرة آلاف (2) مجاهد إلى مكة، ففتحها وقوض الوثنية وَحَطَّمَ الأصنام، ثم قام خطيبًا في ألوف المسلمين والمشركين فعفا عن أعدائه الذين اضطهدوه وآذوه. ثم أعلن كثيرًا من الأحكام، منها أَلَاّ يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل مِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، ولا تُنكح المرأة على عمَّتها أو خالتها
…
ثم أقبل الناس يبايعون رسول الله عليه الصلاة والسلام
…
لقد كان فتح مكة حدثًا تاريخيًا عظيمًا، نقله جموع غفيرة، ونقلت معه خطبة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى الآفاق، كما نقل المسلمون
(1) انظر " سيرة ابن هشام ": ص 279 جـ 4 و " صحيح مسلم: ص 1393 و 1397 جـ 3 وانظر أخبار الرسل إلى الملوك والأمراء في " المصباح المضيء ": ص 60 - 114.
(2)
انظر " سيرة ابن هشام ": ص 17 جـ 4.
الجدد ما سمعوا من إرشاد وتوجيه إلى أهلهم وذويهم في مكة وغيرها.
8 -
حجة الوداع:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة من السَّنَةِ العَاشِرَةِ للهجرة، إلى مكة المكرمة وَحَجَّ بالناس، وكان معه جمع عظيم يبلغ تسعين (1) ألفًا، ووقف في عرفة في هذه الجموع الكثيرة وخطب خطبة جامعة بَيَّنَ فيها كثيرًا من الأحكام، منها حرمة دماء المسلمين وأموالهم، وأداء الأمانة، ووضع ربا الجاهلية وإبطاله، كما وضع دماء الجاهلية التي كانت بينهم ومنع العادات الباطلة
…
ومنع النسيء تأكيدًا لما في كتاب الله، وَبَيَّنَ بعض حقوق الرجال وحقوق النساء وحث على حُسْنِ مُعَامَلَتِهِنَّ
…
ومنع الوصية للوارث
…
لقد كانت هذه الخطبة الجامعة من أهم العوامل في انتشار السُنَّةِ بين القبائل العربية، لأنه سمعها عدد كبير جِدًّا، ونقلوها إلى الآفاق، طِبْقًا لما جاء فيها من قوله صلى الله عليه وسلم:«أَلَا هَلْ بَلَّغتُ؟ اللهُمَّ فَاشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغْ الشَاهِدُ مِنْكُمْ الغَائِبَ» (2).
9 -
الوفود بعد الفتح الأعظم وَحَجَّةِ الوداع:
بعد فتح مكة أقبلت وفود العرب من سائر أطراف الجزيرة العربية يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم وَيَنْضَمُّونَ تحت لواء الإسلام، وتتابعت هذه الوفود وكثرت بعد حجة الوداع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحب بالوافدين، ويعلمهم الإسلام، وَيُزَوِّدَهُمْ بنصائحه وإرشاداته، وكانت بعض الوفود تقيم
(1) اختلف في عدد من حضر حجة الوداع وفي رواية عن أبي زرعة أنهم أربعون ألفًا، انظر " تلقيح فهوم أهل الأثر " ص 27: ب.
(2)
انظر " سيرة ابن هشام ": ص 276 جـ 4، ونحوه في " صحيح مسلم ": ص 1306 جـ 3.
عنده أيامًا ثم تعود إلى قبائلها تُبَلِّغُهُمْ الدين الحنيف، ومن هذه الوفود وفد ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، فعاد إلى قومه ودعاهم فأسلموا، ووفد عبد القيس، ووفود بني حنيفة وطيء وَكِنْدَةَ وأزد شنوءة، ووفد رسول ملوك حِمْيَرْ، الذين أسلموا وأرسلوا رسولهم بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم عليه الصلاة والسلام كتابًا يخبرهم أنه علم بإسلامهم، وَيَحُثُّهُمْ على طاعة الله والتمسُّك بدينه، وفيه وَصِيَّتُهُ لهم برسله وببعوثه، ويوصيهم الخير في الرعية
…
كما قدمت وفود همدان، وتجيب - قبيلة من كندة - ووفود ثعلبة وبني سعد من هُذَيْمٍ ووفود كثيرة يضيق المقام عن ذكرها (1).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في هذه الوفود الخير، فيكرمهم وَيُعلِّمُهُمْ، وكانوا يسألونه ويجيبهم، وقد سمعوا حديثه، وشهدوا بعض مواقفه، وشاركوه في العبادة، ورأوا كثيرًا من تصرفاته. فكان لهذه الوفود أثر عظيم في نقل السُنَّةِ وانتشارها.
ونرى أَنَّ تلك العوامل الكثيرة كانت كافية لنشر السُنَّةِ وتبليغها المسلمين، في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية آنذاك.
تلك لمحة سريعة عن انتشار السُنَّةِ في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد حرص الصحابة والمسلمون جَمِيعًا على حفظها وتبليغها، ولم ينتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى إلَاّ بعد أنْ انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها وساد ربوعها، وملأ القرآن والسُنَّةُ صدور أهلها، مِصْدَاقًا لقوله عز وجل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (2)
(1) انظر " سيرة ابن هشام ": ص 221 جـ 4.
(2)
[سورة المائدة، الآية: 3].