الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالت أمُّ سلمة لمَّا مَاتَ زوجها الأوَّل: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ (أي أنَّه مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَاتَ بِالمَدِينَةِ)، لَأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، وكانت قَدْ تَهَيَّأْت لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقَبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ (من عَوَالِي المَدِينَةِ) تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَها
…
(أي تُسَاعِدها في البكاء والنَّوح)، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْهُ؟ "(1) مَرَّتَيْنِ، فلمّا سمعت أمُّ سلمة ذلك كَفَّت عَنِ الْبُكَاءِ على أبي سلمة ولَمْ تبكِه.
فلا يجوز أن تعين المرأة الشَّيطان على أختها إذا امتحنت بمصيبة الموت، بمساعدتها على النِّياحة والنَّدب، ولا أن تعينها على نفسها بالجزع.
وممّا يدلُّ على حظر ذلك ما أخرجه أحمد وغيره عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَلَّا يَنُحْنَ، فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسْعِدُهُنَّ فِي الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا إِسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ
…
" (2) الحديث. فلا يجوز لجارات المَرْأَة أن يسعدنها فِي مصيبتها؛ لأنَّ في ذلك تَسَخُّطًا على قدر الله تعالى.
رد دعوى أنّ عائشة رضي الله عنها أقامت مجلس نوح على أبيها
لا تكفُّ ألسنةُ الشَّانِئِينَ لأمِّنا أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالوا: إنَّ عائشة رضي الله عنها الَّتِي هي أفقه نساء المسلمين وأعلمهنَّ بالدِّين، أقامت مجلس نوح على أبيها
…
أبي بكر رضي الله عنه لما توفِّي، وأنَّ هذا مخالف لما ثبت من تحريم النِّياحة لما فيها من تظلّم
(1) مسلم "صحيح مسلم"(ج 2/ص 635) كِتَابُ الْجَنَائِزِ.
(2)
أحمد "المسند"(ج 20/ص 333/رقم 13032) إسناده صحيح على شرط الشّيخين.
وتسخّط من قضاء الله تعالى وقدره واعتراض على أحكامه، وأنَّها لم تنته عن ذلك حتَّى ضربها عمر رضي الله عنه بِالدِّرَّةِ ضَرَبَاتٍ.
قلنا: الطَّاعنون في عائشة رضي الله عنها هم المطعونون حقًّا، ويصدق فيهم قول العرب:"رَمَتْني بِدائِها وانْسَلَّتْ"؛ إذ قالوا بما فيهم.
وتعلَّلوا بما رواه ابنُ سعد عن يُونُس، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيّبِ قَالَ: "لمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَقَامَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ النَّوْحَ، فَبَلَغَ عُمَرَ فَجَاءَ فَنَهَاهُنَّ عَنِ النَّوْحِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَخْرِجْ إِلَيَّ ابْنَةَ
…
أَبِي قُحَافَةَ، فَعَلَاهَا بِالدِّرَّةِ ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوَائِحِ حِينَ سَمِعْنَ ذَلِكَ" (1).
قالوا: قال الحافظ في الفتح بعد أن ذكره البخاريّ تعليقًا: "وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ ناحت وَصله ابن سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيّبِ، قَالَ: لمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَقَامَتْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ النَّوْحَ
…
" (2).
قلت: في البخاري: "وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ" ذكره هكذا تعليقًا في كتاب الخصومات، وفي كتاب الأحكام، ولم يزد على أنَّ أخت
…
أبي بكر (أمّ فَرْوَة رضي الله عنها) - لا عائشة رضي الله عنها رفعت صوتها بالبكاء على أخيها فنهاها عمر رضي الله عنه عن ذلك.
وأمَّا رواية ابن سعد في الطَّبقات، فإنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيّب لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
(1) ابن سعد "الطّبقات الكبرى"(ج 3/ص 208).
(2)
ابن حجر "فتح الباري"(ج 5/ص 74).
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فالسَّند مرسل مُنْقَطِعٌ، وفيه علَّة غير إرسال سعيد، وهي رواية يونس بن يزيد بن أبي النِّجاد الأَيلي، قال عنه الحافظ:"ثقة إلَّا أنَّ في روايته عن الزّهري وهمًا قليلًا، وفي غير الزّهري خطأ"(1)، وقَالَ المَيْمُونِيّ:"سُئِلَ أَحْمد من أثبت فِي الزُّهْرِيّ؟ قَالَ: معمر، قيل: فيونس، قَالَ: روى أَحَادِيث مُنكرَة"(2).
ولعلَّ هذه الرِّواية من منكراته؛ لأنَّ فيها زِرَايَة على عائشة رضي الله عنها، وعائشة أتقى لله تعالى من أن تقيم النّوح، وأكمل عقلًا مِنْ أن يقع لها مثل هذه القصَّة، وعمر أَتْقَى لله وَأَخْشَى من أن يضرب أمَّ المؤمنين ولا يعرف لها حرمة كما زعموا.
ويردُّ هذه الرِّواية أنْ تعلم أنَّ عائشة رضي الله عنها ممَّن روى زجر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن نياحة النِّساء على موتاهنَّ، فلمّا جاء نَعْيُ زيد وجعفر وابن رواحة، ناحت نساء جعفر عليه، فلمّا نَهَاهُنَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَيْنَ، دعت عائشة، وقالت:"أَرْغَمَ الله بِآنَافِهِنَّ".
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لمَّا جَاءَ نَعْيُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَعَبْدِ الله بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْحُزْنُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذِهِ نِسَاءُ جَعْفَرٍ يَنُحْنَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَكْثَرْنَ بُكَاءَهُنَّ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَمَكَثَ شَيْئًا ثُمَّ رَجَعَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ نَهَاهُنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، قَالَ: فَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ غَلَبْنَهُ قَالَ: فَاحْثُ فِي وُجُوهِهِنَّ التُّرَابَ. قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَرْغَمَ الله بِآنَافِهِنَّ، والله مَا تَرَكْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ"(3).
(1) ابن حجر "تقريب التّهذيب"(ص 614/رقم 7919).
(2)
ابن حجر "تهذيب التّهذيب"(ج 11/ص 451).
(3)
ابن حبّان "صحيح ابن حبّان"(ج 7/ص 417/رقم 3147) إسناده صحيح.