الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصفياء لا يَصْفُو عَيْشٌ بَعْدَ بعادهم، ومن العجب أن فارقونا ونقوى على العيش بعد فراقهم! ولم نستطع أن ندفع عنهم، أو نحول بينهم، فاخْتُلِجُوا مِنْ بيننا، وخرجوا من الدُّنيا وقد تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وصارت كلّ نفس رهينة عملها، وحبيسة كسبها: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
…
(51)} [إبراهيم].
فيا أَصَمَّ الأُذْنِ، يا من شغلتْه الشّواغِل، وحالت دون توبته الحوائل، الإنابةَ قبل أن يمدَّ لك الموت يدًا ويسدّ باب الإجابة، إيّاك أن تموت مصرًّا على مَعْصِيَة أَو قانطًا من رَحمة، فتقيم عَلَى مَا لَا قِبَلَ لَكَ بِهِ. إنّ في تأخير التّوبة من الضَّرر ما لا يخطر لك على بال، ولا يدور لك بخيال، فابعد عن المعاصي بعدًا لا بُعْد بَعْده، فَوَاحَسْرَتَاهُ حتّى متى اللَّهْو والسَّهو، {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ
…
(5)} [العنكبوت]، وكلّ آت قريب.
كم ودِّع بعد طيب حياة إِلْف حبيب، وتفطَّرت عليه من وَجْد أكباد، وتقطَّعت قلوب، بعد أن رحل إلى محلّةِ الأمْواتِ، وكِفاتِ الرُّفاتِ، أصبح بعد الحياة مواتًا، وبعد غضارة العيش رفاتًا.
فاحرص على عمل يُغْفَر به ذنبُك، ويرفع به ذكرك قبل أن تخرج نفسُك، فكم إنسان غاب عنّا في التُّرْب عَيْنًا، وبقي مَعْنىً، وكم من حاضر مَعَنا غائب مَعْنىً، فاستقبِل الموت بتوبة وعمل به ترضى.
الاستعداد للرّحيل والتّأهب للموت
إنَّ امتداد العمر ينذر بفواجع الدّهر، قال تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} [يس]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً
…
(54)} [الرّوم]، وقال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
…
(70)} [النّحل]. وعَنْ أَنَس رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو: "أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ وَالكَسَلِ، وَأَرْذَلِ العُمُرِ"(1)، فما الرّغبة في أرْذَل العمر؟ !
هذا وَمَنْ عُمِّر وارى الأحبَّة كُلَّهم في التّراب، وأُسْلِم لهموم طارقات وغموم سابغات، فَمَنْ لم يذق الموت ذاق ما هو أوجع! قَالَ الإمام الْبُخَارِيُّ:
إنْ عِشْتَ تُفجع بالأحِبّةِ كلِّهم
…
وفناءُ نَفْسِك لا أبالَكَ أفْجعُ
ومَنْ عُمِّر وأُخِّر فهو كزَرْع آنَ حَصَادُهُ، ولا عذر له، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
…
(37)} [فاطر]، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"(2).
ومع هذا فمن النَّاس مَنْ يكبر وتكبر معه الرَّغبة في طول العمر، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وَطُولُ العُمُرِ"(3).
إنّ الاسْتِعدادَ لِلْمَوْتِ، وتَوْطِينَ النَّفْس عَلَيْهِ، والتَّجافي عن هذه الدّار، علامةُ خير، فما في الحياة بقاء لأحد ولا خلود، فكم من مصبح ينتظر المساء لم يبْلُغْه، وكم من مُسْتَقْبِلٍ ليلة لم يَسْتَكْمِلْها، وكم من رجل مدَّ يده إلى طعام متلذّذًا لم
(1) البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 6/ص 82/رقم 4707) كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ.
(2)
البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 8/ص 89/رقم 6419) كِتَابُ الرِّقَاقِ.
(3)
المرجع السّابق.
يرفعها! وكمْ من طامع غير قانع نَافَسَ النّاس في شَيْءٍ واحتال ثُمَّ تركه وراء ظهره وَخَلَّاهُ، وكم مِنْ سَاعٍ وراء شهواته فَجَأَهُ الموْتُ وأَصَابَهُ قَدَرُهُ، فانطوى صدْرُه على
حسراته، فَوَيْحَكَ حتّى متّى تُفَرِّق عمرك بين الهزل واللّعب؟ !
حَتّى مَتى أنْتَ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ
…
والمَوْتُ نَحْوَكَ يَهْوي فاغِرًا فَاهُ
تَلْهو وَلِلْمَوْتِ مُمْسَانا وَمُصْبَحُنا
…
مَنْ لَمْ يُصبِّحْهُ وَجْهُ المَوْت مَسَّاهُ
حقيق على كلِّ ذي قَلْبٍ مُنِيبٍ أن يأخذ من دار مماته لدار معاده، وأن يعلم أنَّ الله تعالى أخفى ساعة الموت، فليس له عمر معلوم؛ لنكون على حَذَرٍ فنحن بلا ريب بالأثر.
وَلَوْ أَنَّ العبد أدرك أنَّ له نفسًا تراوده وتطغيه، وشيطانًا يغويه ويعاديه، وقال لنفسه إذا أمرته بالسُّوء:"تَحَمَّدِي يا نَفْسُ لا حَامِدَ لَكِ"، فقد تكون هذه خاتمة عملك ونهاية أجلك، ما تجرّأ على معصية، ولله القائل:
يَا نَفْسُ تُوبِي فَإنَّ المَوْتَ قَدْ حَانَا
…
وَاعْصِي الْهَوى فالْهَوى مَا زَالَ فَتَّانَا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَاشِرَ عَشْرَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا نَبِيَّ الله، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ، وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟ قَالَ:"أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ، قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ"(1).
(1) الطّبراني "المعجم الصّغير"(ج 2/ص 189/رقم 1008) وقال الهيثمي في "مجمع الزّوائد"(ج 10/ص 309/رقم 18214): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (ص 1828): إسناد جيّد.