الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَلَهُمْ أَفْرَحُ بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَيَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ
…
" (1)، فلو كانوا على علم بالأعمال ما سألوا عنها؟
وما أخرجه البخاريّ في صحيحه عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "
…
أَلا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة] " (2)، فلو كان الميِّت يعلم وتعرض عليه الأعمال لكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أولى بذلك.
هل يعرف الميّت الحيّ إذا سلّم عليه ويسمعه ويأنس به
؟
هناك أحاديث واهية رواها مجروحون وضعفاء ومتروكون يتداولها عامَّة النَّاس في احتجاجهم ومناظراتهم، وساعد في انتشار هذه الأحاديث المشكلة أنَّها مَبْثُوثَةٌ في ثنايا بعض كتب التَّفسير وكتب التّاريخ وكتب العقائد وغيرها، وهناك من صحَّحها بغير علم، وتناقل المشتغلون في تحقيق هذه الكتب واختصارها ذلك، دون نقدها، فذاعت وشاعت، منها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ رَجُلٍ
(1) الحاكم "المستدرك"(ج 1/ص 463/رقم 1333)، وصحّحه الألبانيّ في "الصّحيحة"(ج 3/ص 293/رقم 1309).
(2)
البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 6/ص 55/رقم 4625) كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ.
كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلا عَرَفَهُ وَرَدَّ عليه السلام" (1). ومنها ما رواه الحاكم وصحَّحه عنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ
…
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ مَقْتُولٌ عَلَى طَرِيقِهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَدَعَا لَهُ
…
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا ردُّوا عَلَيْهِ"(2).
(1) أخرجه ابن حبّان في كتاب "المجروحين"(ج 2/ص 58) وقال ابن القيسراني في "تذكرة الحفّاظ"(ج 1/ص 281/رقم 699): رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (ج 2/ص 429/رقم 1523) وقال: هَذَا حَدِيثٌ لا يَصِحُّ وقد أجمعوا على تضعيف عَبْد الرحمن. وضعّفه الألباني في "الضّعيفة"(ج 9/ص 473/رقم 4493)، و"ضعيف الجامع الصّغير"(ص 752/رقم 5208).
(2)
الحاكم "المستدرك"(ج 2/ص 917/رقم 3027) وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وردَّه الذّهبي في التّلخيص، بقوله: كذا قال، وأنا أحسبه
…
موضوعًا، وقَطَن لم يرو له البخاريّ، وعَبْدِ الْأَعْلَى لم يخرجا له. وضعّفه الألبانيّ في
…
"الضّعيفة"(ج 11/ص 365/رقم 5221) .. ورواه الطّبراني في "المعجم الأوسط"(ج 4/ص 91/رقم 3700)، وقال الهيثمي في "مجمع الزّوائد" (ج 6/ص 123/رقم 10120): رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِيهِ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. ورواه الطّبراني في "المعجم الكبير"(ج 20/ص 364/رقم 850)، وقال الهيثمي في "مجمع الزّوائد"(ج 3/ص 60/رقم 4316) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو بِلَالٍ الْأَشْعَرِيُّ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
ومنها ما روي عن مُحَمَّد بن عون، عن يحيى بن يمَان، عَن عبد الله بن سمْعَان، عَن زيد بن أسلم عَن عَائِشَة حي على الفلاح، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا من رجل يزور قبر أَخِيه وَيجْلس عِنْده إِلَّا استأنس بِهِ ورد عَلَيْهِ حَتَّى يقوم"(1).
قلت: وقد تظاهرت الأدلَّة على عدم سماع الأموات كلام الأحياء، وأظهرها قوله تعالى خطابًا لنبيِّه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى
…
(80)} [النّمل]، وقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} [فاطر].
وعنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لله عز وجل مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ، يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ"(2)، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يسمع السّلام، وإنَّما تبلِّغه إيَّاه ملائكة سيَّارون في الأرض، فإذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يسمع سلام مَنْ سَلَّمَ عليه مِنْ أمَّته، فغيره من الموتى أحرى بعدم السَّماع، وهذا يبيّن لك ضلال مَنْ يستغيث بالموتى ليس لأنَّهم لا يسمعون فحسب، وإنَّما لأنَّهم لا يملكون
(1) ابن قيّم الجوزيّة "الرّوح"(ص 5) وذكر أنّه رواه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الْقُبُورِ". قلت: ولم أجده في كتاب القبور، وإنّما وجدته في كثير من المصنّفات معزوّا لابن أبي الدّنيا كما في الرّوح، والحديث ضعيف جدًّا؛ في سنده يحيى بن يمان العجلي صدوق عابد يخطئ كثيرًا وقد تغيّر، كذا قال الحافظ في "تقريب التّهذيب"(ص 598/رقم 7679)، وفي سنده عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان [ينسب إلى جده كثيرًا] متروك اتّهمه بالكذب أبو داود وغيره "تقريب التّهذيب" (ص 303/رقم 3326). وقال الحافظ ابن رجب في "أهوال القبور" (ص 86): رواه عبد الله عن ابن سمعان وهو متروك.
(2)
أحمد "المسند"(ج 7/ص 343/رقم 4320) إسناده صحيح على شرط مسلم.
ضرًّا ولا نفعًا وهم أحياء فكيف وهم أموات؟ !
فهناك من يشدُّ الرِّحال إلى أصحاب القبور هُنَا وَهُنَاكَ يدعونهم من دون الله تعالى، وقد أخبر الله أكبر أنَّ المدعوَّ من دونه من أصنام وأموات ليس من شأنهم السَّماع، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
…
(14)} [فاطر].
وقد يعترض معترض، فيقول: إنَّ المراد بالَّذين لا يسمعون الأصنام، فالله تعالى نفى السَّمع عن الجمادات، ولم ينفِ السَّمع عن الأموات؟ ! والجواب: أنَّ كلمة من دونه تحتمل الجمادات والأموات وكلّ ما يُدْعَى من دونه الله تعالى، بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
…
(14)} [فاطر]، فالّذي يقع منه الكفر بهذا الشِّرك يوم القيامة هم العقلاء من الأموات الَّذين كانوا يدعونهم من دون الله تعالى، وصدق الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} [الأحقاف].
ويدلك أنَّ الموتى لا يسمعون ولا يستجيبون، قوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام]، فقد شبَّه الله تعالى الكفَّار بالموتى في عدم السَّماع، وهذا فيه أنَّ المشبَّه به - وهم الموتى- لا يسمعون؛ ولذلك وضعت علامة الوقف اللَّازم على كلمة (يسمعون)، ولم توضع على كلمة (الموتى)، فَافْهَم هَذَا.
ومن أظهر الأدلَّة قوله صلى الله عليه وسلم: "فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"(1)، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يدري ما أحدث رجال من أمَّته بعد موته صلى الله عليه وسلم، فلو كان الميِّت يسمع أو يرى أو يعلم لكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أولى بذلك.
ومع أنَّ الموتى ليس من شأنهم السَّماع، لكن إذا شَاءَ الله تعالى أن يسمعهم لم يمتنع، فالله تعالى يسمع مَنْ يشاء، كما أسمع أَهْلَ الْقَلِيبِ مِنْ بَدْرٍ كَلَامَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ"(2).
وهذه حادثة أو وَاقِعَةُ عَيْنٍ، وحوادث الأعيان لا يستدلّ بها على عموم الأحكام، فهي لا تشمل غيرهم من الموتى، ليس لها حكم العموم، ولا تدلُّ على أنَّهم يسمعون دائمًا وأبدًا، فسماعهم خاص بذلك الوقت وبما قاله لهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويدلّك على ذلك قول قتادة في آخر الحديث:"أَحْيَاهُمُ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ؛ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا".
ويدلّك على ذلك فهم عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى
…
(80)} [النّمل] " (3)، فعائشة رضي الله عنها تنكر سماع الموتى إلَّا ما ثبت لهم، مثل: حديث القليب هذا، لكنَّها تشير إلى أنَّ سماعهم مقيَّد بالسَّماع له صلى الله عليه وسلم، وفي
(1) البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 6/ص 55/رقم 4625) كِتَابُ تَفْسِيرِ القُرْآنِ.
(2)
البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 5/ص 76/رقم 3976) كِتَابُ المَغَازِي.
(3)
البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 2/ص 98/رقم 1371) كِتَابُ الجَنَائِزِ.