الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله تعالى زيادة له في أعماله، فهي له صدقة وصلة وطُهْرَة وَزَكَاة وقربة لله جل جلاله.
والوصيّة محرّمة إذا كان المراد منها الإضرار بالورثة، كأن يوصي بحرمان بعض الورثة، أو يفضّل بعضهم على بعض، قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النّساء]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ الله عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ "(1). والمسألة لا تخلو من أخذ وردّ واستدراك وتفصيل وتأصيل واستقراء بين الفقهاء.
حكم تبديل الوصيّة
هذا ولا يجوز تبديل الوصيَّة إذا كانت بالحقّ {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
…
(181)} [البقرة]، لكن إذا خرج الموصي في وصيَّته عن الحقّ خطأ أو عمدًا، فإنّه يجوز تبديلها، وينبغي لمن علم أنَّ فيها جنفًا أو إثمًا أن ينصح للموصي، ويصلح بردّ الوصيّة إلى الشّرع، قال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} [البقرة]، فاستثنى الله تعالى من إثم التّبديل من بدّل للإصلاح، ووعده بالمغفرة والرّحمة.
المبادرة إلى تنفيذ الوصيّة قبل الدّفن
إذا كانت وصيّة الميّت بالواجب، وجب المبادرة إلى إنفاذها قبل أن يدفن، وبالتّطوع يسنّ، والإِسراع مطلوب سواء كانت واجبة أو مستحبّة عند أهل العلم، فإذا كان عليه دين وَجَبَ الإسراعُ في قضائِه عنه، لأنّ الميّت ينتفع بذلك، ويرفع
(1) البخاري "صحيح البخاريّ"(ج 9/ص 64/رقم 7252) كِتَابُ الأَحْكَامِ.
عنه العذاب.
وإنك تجد في هذا الزَّمان مَنْ يؤخّر الوفاء بدين ميِّته، وربّما يكون الميّت قد ترك وراءَه مالًا، ومع هذا لا يقضي وارثه عنه دينه إلى حين الانتفاع من هذا المال وكسب ما يقضي به دينه، وهذا ظلم بيِّن، وعقوق ظاهر، وجحود لحقٍّ واجب للميّت، ولا يجوز تأخير الواجب عن وقته طمعًا في تحصيل منفعة مستحبّة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَلا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ"(1).
والإجماع منعقد على أن دين الميّت يُقضى من ماله قبل أن ينتقل مالُه إلى الورثة، فالميّت أحقّ مَنْ ينتفع بماله.
ومِنَ النّاس مَنْ يبخل بماله في حياته لما يخوّفه الشّيطان من الفقر، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
…
(268)} [البقرة]، فتجده يجمع ويمنع، فإذا بلغت نفسه إلى حلقه، وانقطع أمله في الحياة، ولم يعد للمال مكانة في قلبه، فزع إلى الصَّدقة وبالغ بها وأضرّ بالورثة، فيكون قد عصى الله تعالى في حياته بإمساكه وتفريطه، وعصاه حال موته بإسرافه وتبذيره وتضييعه ورثته، وتركهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، فلربّما خاب من الانتفاع به في يوم العوز والحاجة إليه.
قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ"(2). فالصّدقة عند الموت
(1) البخاري "صحيح البخاريّ"(ج 8/ص 92/رقم 6437) كِتَابُ الرِّقَاقِ.
(2)
البخاري "صحيح البخاريّ"(ج 4/ص 4/رقم 2748) كِتَابُ الوَصَايَا.
جائزة بضوابطها، ولكنَّها فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَل.
ولمّا سمع الصّحابة رضي الله عنهم قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً
…
(245)} [البقرة]، بَادَرُوا بأموالهم، جاء رجل إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو له أنَّه يريد أن يقيم حائطه، ولجاره نخلة لا يصلح حائطه إلّا بها، فعَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَاحِبِ النَّخْلَةِ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ، فَأَبَى، فَاشْتَرَاهَا أَبُو الدَّحْدَاحِ رضي الله عنه بِبُسْتَانٍ لَهُ، وأقرضها لله تعالى.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: "يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَبَى، فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي (بُسْتَانِي). فَفَعَلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: كَمْ مِنْ عَذْقٍ (نخلة) رَدَاحٍ
…
(مثقلة حملًا) لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ. قَالَهَا مِرَارًا. قَالَ: فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا
…
أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ. أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا" (1).
ولمّا مات أَبُو الدَّحْدَاحِ رضي الله عنه صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عليه وتبع جنازته، ثمّ أُتِيَ بِفَرَسٍ لا سَرْج عليه، فَرَكِبَهُ، فسمعه رَجُلٌ يعيد تلك العبارة.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ،
(1) أحمد "المسند"(ج 19/ص 465/رقم 12482) إسناده صحيح على شرط مسلم.