الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم
أ. د. سمير استيتية
اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ كما ينبغي لجلال وجهك العظيم، وسلطانك القديم، أحمدك بكل حمدٍ حمدتَ به نفسك، وبكل حمدٍ تحبُّ أَنْ تُحْمَدَ بِهِ، وبكل ما حمدتك به الملائكة والأنبياء والمرسلون، وعبادُ الله الصالحون، وأحمدك يا مولانا بكل حمدٍ خَصَصْتَ به أحدًا مِنْ خلقك، فأجريته على لسانِه، فَقَبِلْته وأحبَبْته، وأشهد لك بكل ما شَهِدْتَ به لنفسك، وكما شهدت الملائكة والأنبياء والمرسلون، وعبادُ الله الصالحون.
وأشهدُ لعبدك ونبيِّك ورسولك محمَّد صلى الله عليه وسلم، بكلِّ ما شَهِدْت به له مِنَ النُّبُوَّةِ والرِّسالة والخُلُق العظيم، اللَّهُمَّ صَلِّ عليه أزكى صلاة، وسلِّم عليه أتمّ تسليم، وعلى آل بيته الأطهار، وأصحابه الأخيار، وأزواجه أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وألحقنا به وبهم يا مولانا وأنت راضٍ عنَّا، اللَّهُمَّ آمِينَ، وبعد:
فلِلهِ دَرُّكَ أبا عبيدة، لقد جمعتَ فأوعيتَ، وقدحت فأوريت، وأبليتَ فأَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ. ولقد نظرتُ في هذا العمل، ورأيت فيه الحياة الدُّنيا، كما أراد الله عز وجل أن نراها؛ إنَّها طريقُ الآخرة، فهي ممرُّنا ومعبرنا إلى دار المستَقَرِّ، ومهما اتَّسعت بنا عَرَصاتُها، وتعدَّدت أفناؤُها، وتكاثرت زخارِفُها، وتعالت مباهجها، فإنَّ في اتساعها ضيقًا، وفي فرحتها غصَّة، وفي مباهجها فناءً، وفي زخارفها زوالًا، لكنّ الآخرة هي دارُ المستَقَرِّ والخلود، إنَّها السَّعادة الَّتي لا شقاء معها، أو الشَّقاء والعذاب اللَّذَانِ لا سعادة معهما.
لقد دلَّنا كتابُ الله تعالى على حقيقة الدُّنيا، وما حُفَّت به من الشَّهوات، ودلَّنا على عظمة شأن الآخرة، بأيسر العبارات، وأدقّها مضمونًا، وأنفذها إلى القلب، وأعلاها بيانًا، وأبان عن بعض ما في الآخرة من ثواب وعقاب، ولم يفصِّل صورهما ولا أشكالهما، ووضَّح لنا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعض ما يكون في عَالمِ الْبَرْزَخِ، ولم يفصِّل فيه القولَ تفصيلًا شاملًا؛ لأنَّ الهدف من ذكر ذلك العالم تذكيرُ ذوي الألباب، وتحذيرُ العباد من مغبَّة الوقوع في المعاصي والآثام الَّتي تفسد على الإنسان آخرته، وليس الهدف منه أن يعطي صورة تفصيليَّة للآخرة، ولا ما يكون في البرزخ وهو بعضها. وعندما تختزن ذاكرة الإنسان هذه المفاهيم ينضبط سلوك الإنسان، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال.
فضبط السّلوك في النِّهاية هو الهدف، وضبط السلوك إنّما يكون بقناعة الإنسان وإيمانه، بتوسط بين التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فما جاء في القرآن العظيم وَالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ من مُسَاءَلَة في الحياة الآخرة، ليس الهدف منه تحويل حياة الإنسان إلى رعاب في الدُّنيا. وقد أدرك المؤلِّف - جزاه الله خيرًا- هذا الأمرَ أَحْسَنَ إدراك، فتجد في عمله هذا ما يجعل الموعظة قريبةً إلى القارئ، فموعظته - بحقّ- تشقُّ طريقها إلى النَّفس دون استئذان.
لا يكون العلم بخبر الآخرة والبرزخ إلا بما أخبرنا الله جل جلاله به، وما عرَّفنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ ذلك من الغيب الَّذي نؤمن به، والغيب لا يتوصَّل إليه إلَّا بِالنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَصَحِيحِ الْأَثَرِ. ولذلك كان المؤلّف ـ حفظه الله ـ يروي الأحاديث الصَّحيحة في هذا الباب، بحرص شديد، وهذا هو المسلك الذي ينبغي أن يكون؛
فصحَّة الاعتقاد لا تبنى إلَّا على الحديث الصَّحيح، فكان يقف عند الحديث وقفة مستأنية، يروي ما يقوله العلماء في صحَّة سنده، فيوافق - وهذا هو الأغلب عنده بحمد الله - ويناقش أهل العلم، ويرجِّح أو ينتهي إلى نظر مستقل، وهذا هو شأن أهل العلم.
وكنت أحترم رأي المؤلِّف وأقدِّره، ولو رأى رأيًا غير الَّذي أراه، فالعبرة في المنهج الَّذي يتَّبعه العالم، وليست العبرة في الاختلاف في الفرعيات.
لقد كنت أحسُّ وأنا أقرأ هذا الكتاب أن المؤلِّف ـ جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا ـ يَنْطَوِي على قدر كبير من التَّأَسِّي بعلمائنا المتقدِّمين، حتَّى في أسلوبهم، وعلى الَّذين لا يعرفون هذه القيمة أن يعلموا أنَّ المنهج التُّراثيَّ، وأسلوبَ أسلافنا في الكتابة قد بَلَغَا مبلغًا عظيمًا من الرَّصَانَة والقُوَّة، مصحوبين بدقَّة العبارة، وعمق المعنى، وسلاسة السَّرد. ومن المحزن حقًّا أنَّ عاديات هذه الأيام قد فصلتنا عن التَّأَسِّي بِعُلَمَائِنَا المُتَقَدِّمِينَ إلى حَدٍّ كبير.
أَسْأَلُ الله الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أن يتقبَّل هذا العملَ وصاحبه، وأن ينْفَعَ بهِ أمَّةَ سيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة].
أ. د. سمير شريف استيتية
كلية الآداب ـ جامعة اليرموك
18/رجب/1436 هـ
7/ أيّار/2015 م