الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثّاني
المرض وأحكامه
ثواب الصّبر على البلاء
مَنْ مُتِّع بكبر قيَّده هرم وبلي بسهر وَعِبَر، وعَضَّه ريب الدَّهر، فإذا صبرت على نكبات الدَّهر فإنَّ الله تعالى يدَّخر لك الأجر، وإن لم تصبر فما أنت بصانع؟ ! فماذا بعد أن يطول عليك سَالِف الأَبَد إلّا الموت في يوم أغرّ مشهَّر؟ !
إنّ الطَّريق إلى الجنَّة محفوف بِالمَكَارِهِ، والمؤمنون مُبْتَلَوْنَ في الأموال والأنفس، وممتحنون بضروب من البلاء وصنوف من المحن الصَّمَّاءِ، والفتن العمياء المُطْبِقَةِ، وممتحنون في الصَّبر والإيمان، ليمحِّصَ الله جل جلاله الذُّنوبَ ويغفر الْحُوبَ، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة]، وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمّد].
وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنَّ الصَّبر على الأذى من مرض فما عداه يرفع الله تعالى به الدَّرجات ويحطُّ به السَّيِّئَاتِ، فيلقى العبد ربَّه نَقِيًّا مِنْ رَيْنِ الذُّنُوبِ، قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا يَزَالُ البَلاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى الله وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ"(1).
فالْأَمْرَاض من مُكَفِّرَاتِ الذُّنوب الّتي تَغْسِلُ الْخَطَايَا، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ الله لَهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ
(1) التّرمذي "سنن التّرمذي"(ص 541/رقم 2399) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" (1).
ولذلك إذا أحبّ الله تعالى عبدًا ابتلاه، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ"(3).
والمؤمن مبتلى شَاءَ أَمْ أَبَى، قال صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ، لا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً"(4).
وإنّما يُجْزَى المسلم بمصائب الدُّنيا من المرض والْهَمِّ والشِّدَّة والمشقَّة وَضِيقِ المَعِيشَةِ وَالْحُزْنِ وَالنَّصَبِ والخوف وَغَيْرِ ذَلِكَ لِما يُرْجَى مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
…
... (123)} [النِّساء].
ومن رحمة الله تعالى أنّه لَيْسَ فِي الآية تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وإلّا لم يَنْجُ أَحَدٌ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ فِي الْآخِرَةِ، ولذلك فإنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِلَلِها ومحنها.
وقد أَشْكَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَمْرُ النَّجَاةِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَظَنَّ أَنَّ
الْجَزَاءَ فِي الْآخِرَةِ لَا بُدَّ منه على عمل السُّوء، فَأَخْبَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جَزَاءَ المؤمن بِمَا يَعْمَلُه
(1) البخاري "صحيح البخاري"(ج 7/ص 118/رقم 5660) كِتَابُ المَرْضَى.
(2)
البخاري "صحيح البخاري"(ج 7/ص 115/رقم 5645) كِتَابُ المَرْضَى.
(3)
أحمد "المسند"(ج 39/ص 41/رقم 23633) إسناده جيّد.
(4)
البخاري "صحيح البخاري"(ج 7/ص 114/رقم 5643) كِتَابُ المَرْضَى.
مِنَ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا مَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّصَبِ وَالْحُزْنِ وَالمَشَقَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ
حَتَّى لا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ.
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
…
(123)} [النِّساء]؟ فَكُلُّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ جُزِينَا بِهِ، قَالَ:"غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ـ قَالَهُ ثَلَاثًا ـ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ فِي الدُّنْيَا"(1).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: لمّا نَزَلَتْ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
…
(123)} [النِّساء]، بَلَغَتْ مِنَ المُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا"(2).
وهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فيها بِشَارَةٌ للمؤمن بما له عند الله تعالى من الكرامة في الآخرة، فالمؤمن لَا يَنْفَكُّ عنه غالبًا مَرَضٌ أَوْ هَمٌّ أَوْ نَحْو ذَلِكَ من الْأَمْرَاض والأعراض والأسقام وَالْآلَام البدنيّة أَوْ القَلْبِيَّة، الّتي إذا قارنها الصَّبر عليها يكفِّر الله تعالى بها مَا شَاءَ مِن ذُنُوب مَنْ تَقَعُ لَهُ.
حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْعَافِيَةِ يَتَمَنَّوْنَ يوم القيامة أنَّ أجسادهم قرضت بالمقاريض
(1) الحاكم "المستدرك"(ج 3/ص 78/رقم 4450) وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقال الذّهبي: صحيح.
(2)
مسلم "صحيح مسلم"(ج 4/ص 1993) كتاب الْبِرِّ.