الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَى ذَلِكَ" (1).
فالدَّفن نهارًا يحضره كثير من النَّاس ويصلّون عليه، ولا يحضره في اللَّيْلِ إلا أفراد قليلون، فنهي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن الدَّفن ليلًا؛ لمظنّة قلَّة الحاضرين، فيفوته كثرة دعاء المسلمين المرغَّب فيه، وهذه الكثرة من مقاصد الشَّريعة، فهي أدعى لقبول شفاعتهم في الميّت. فلا حرج في تأخير الدَّفن لإعلام النّاس وتكثير المصلّين عليه، فليس هناك تضييق على المسلمين في مسألة الإسراع في الدَّفن أو الإبطاء به، فتأخير الدَّفن أو تعجيله يعود إلى مصلحة الميّت، فإذا كان في التَّأخير نفعٌ للميّت أُخِّر، كأن يشهد جنازته عدد كبير من المسلمين ليُشَفَّعوا فيه، وإن لم يكن هناك مصلحة تدعو إلى تأخيره قُدِّم إلى الدَّفن، والله أعلم.
الصّحابيّ الّذي أَحْيَاهُ الله تعالى وكلمه مواجهة
جِيءَ بوالد جابر (عَبْد الله بن عَمْرِو بْن حَرَام الأنصاريّ) رضي الله عنه يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا، فجعل ابنه جابر يكشف الثّوب عن وجه أبيه ويبكي، فلمَّا رآه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْكَسِرًا، بشَّره بأنّ الله تعالى أَحْيَا أَبَاه فكَلَّمَهُ كِفَاحًا مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حجابٌ وَلَا رَسُولٌ، وهذه فَضِيلَة لم تُسْمَعْ لغيره من الشُّهَدَاءِ.
عن جابر رضي الله عنه، قال: "لَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قَالَ: مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إلا من وراء
(1) مسلم "صحيح مسلم"(ج 2/ 651) كِتَابُ الْجَنَائِزِ.
حجاب، وإنّ الله أحيا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ أُعْطِكَ، قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قِتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ الله: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
…
…
[آل عمران] " (1).
فإن قيل: كيف يكلمه الله تعالى مواجهة، وقد قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشّورى].
فَالْجَوَاب أنَّ الْآيَة مَخْصُوصَة مُقَيَّدة بدار الدُّنْيَا، فالله تعالى لا يكلِّم فيها بشرًا مواجهة، والمراد أنَّ الله تعالى كلَّمه مواجهة بعدما أحياه حياة الشُّهداء،
…
قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة]، وقال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران].
فإن قيل كيف استحقّ هذه المنزلة عند الله تعالى، وقد تَرَكَ دَيْنًا وحقوقًا، والشّهادة لا تكَفِّرُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ؟ ! والجواب، أنّه ترك دينًا وترك وراءه وفاءً له كما بيَّنته أحاديث أخرى، وكان بنيّته الوفاء بدينه، فقد أوصى ابنه جابرًا رضي الله عنه أن يقضي عنه دينه، قال:"فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا"(2).
(1) ابن حبّان "صحيح ابن حبّان"(ج 15/ص 490/رقم 7022) إسناده جيّد.
(2)
البخاريّ "صحيح البخاري"(ج 2/ص 93/رقم 1351) كِتَابُ الجَنَائِزِ.