الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهْدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: لقد أظلتنا سحابة الفتن، وأمواج المحن، وظلمات البلاء، وطالت علينا ليالي الفساد، حتى عاد الدين غريبًا كما بدأ، وخرجت فئام وجماعات من الناس عن جوهره وحقيقته أفواجًا كما دخلوا فيهما من قبل أفواجًا.
ولقد تكالبت علينا الأعداء على اختلاف عقائدهم ومناهلهم وتوجهاتهم، وصالوا وجالوا بالفساد خلال ديارنا، بعدما ضربوا صفحًا من الذكر، عمَّا بينهم من مباينات واختلافات وتحزُّبات، ريثما يتم لهم القضاء على الإسلام وأهله.
وأمسك الحاقدون قوسًا واحدة، بيد واحدة، يحركها قلب واحد، ليضربوا بها سهام الغدر والمكر والخبث والدهاء. ولقد صرخ شيطان الكفر
في شيعته قائلاً: صوِّبوا سهامكم تجاه القلوب والعقول والمراكز الحساسة حتى
نصيبهم بالشلل التام، والغيبوبة القاتلة لئلا تكون لهم رجعة، وينقطع نسلهم من الوجود. وأرض المعركة مشتعلة، وسماؤها ملبَّدة بالغيوم، وجوَّها ممتلئ بالسموم، وطيورها تدعو بالويل والثبور، ودخان الغدر يفوح، ورائحة الخيانة قد أزكمت الأنوف.
وفصيل الكفر قد جاء مرصوص الصفوف، مترجلين بعدما قاموا بعقر خيولهم، وكسر أغمدة سيوفهم، ونصب سهامهم، وتصويب رماحهم، مصطحبين معهم نساءهم وذراريهم، حتى يستحيل الفرار، ويُدْبِر الهروب؛ وعزموا على الحرب التي لا تعرف إلَاّ الدمار والخراب والاستئصال دون العمار والبناء والوجود.
وأما فصيل المسلمين فقد جاء بصفوف يواجه بعضها بعضًا، وقد سرحوا خيولهم، وأخمدوا سيوفهم في غمادها، إلَاّ أنهم صوَّبوا سهامهم ورماحهم، لكن تجاه العلماء الربانيين، والدعاة المخلصين، والمجاهدين المناضلين
…
، منشدين بذلك السلام والأمان من عدو لدود لا يعرف إلَاّ الكيد، ولا يرضى بغير الكفر.
ووسط هذا الزخم الشديد والخضم الهائل من الفتن المائجة، أصبح حال أمتنا المرير كصيد ثمين بين جماعة من النسور الضارية، كل واحد منها ينهش منه كل ما لذَّ له وطاب، وقت ما شاء، ومتي ما أراد.
وإزاء هذا العداء السافر نجد حال أمتنا الأليم، يموج بصراعاته موجًا، ويمور بتجزباته مورًا. وفي كل يوم، أو بالأحرى في كل ساعة، تأتي بليَّة عظيمة، وداهية فظيعة، وتتوالى علينا الفتن العمياء الصماء البكماء، التي يرقق بعضها بعضًا، حتى إذا رأى المؤمن إحداها قال: هذه مهلكتي، فإذا أدبرت وجاءت الأخري قال: هذه هذه
…
اللَّهمَّ إنا نشكو إليك: ضعفنا وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، ونشكو
إليك ظلم الطواغيت، وزندقة المنافقين، وكل لسان مسموم، وقلم مأجور ونشكو إليك كل محرف ومبدل، وكل ساكت عن الحق، أو متكلم بالباطل، حتى يُمرَّر بهم كيد الأعداء ومخططاتهم على أمتنا الإسلامية، لتظل ضاربة في غفلتها، وتغط في نومها، وتستمر مغيبة عن دورها وهدفها وعلة وجودها.
حال طوائف الأمة الحالي:
وإن تنظر تجد عجبًا لا ينقضي من حال معظم فصائل الأمة تجاه هذا الكيد الشرس، الذي لا يرقب أصحابه فينا إلاً ولا ذمة، بل ولا يعرفون إلَاّ طمس الحقائق، وتلبيس المفاهيم، واختلاط الأوراق، التي من شأنها أن تجعل المسلم دومًا في حيرة من أمره، غير محدد المعالم والحدود والهوية، هكذا أرادوا.
فنجد: طائفة من الأمة قد جعلت أصابعها في آذانها، واستغشت ثيابها، غير آبهة بشيء من الكيد والعدوان.
ومنها: (طائفة) رفعت لواء التلبيس والتحريف تارةً، والتبجح بالباطل تارةً، والسكوت المزري المشين عن إبطاله أخرى، كل ذلك لتبقيى الأمة ضاربة في الظلمات بلا دليل، وشاردة في جنبات الوجود بلا زمام.
ومنها: (طائفة) غرقت في أنهار البدع، وبحار الخرافات والمخالفات العقدية والعملية، تارةً لثقل تكاليف المشروع، وأحيانًا لحب التجديد ترويحًا على النفوس، وكثيرًا بسبب جهامة الإلف، والعادة، وتقديس دين الأباء الخارج عن سلطان العلم، ومرجعية الوحي.
ومنها: (طائفة) سبحت في بحار الشهوات، وغاصت في وحل الهوى، وكأن الدين شأن غيرهم.
ومنها: (طائفة) أرادت أن تفصِّل ثوبًا لأصول السنَّة والمنهجية السلفية، جاعلة من أهم وأدق أوصافه أن يحقق لأصحابه تلبية نداء الفطرة، وأنهم بحق
حماة الدين دون غيرهم، ولكن بشرط أن لا يدخلهم في حلبة الصراع الحقيقي، بل في هامشه، والأولى أن يخرجهم عن دائرته وحدوده ومعالمه بالكلية.
ومنها: (طائفة) عقدت بينها وبين أنفسها عهدًا على الالتزام بأي شعيرة من شعائر الإسلام، لكن بشرط - غير مقروء ولا مكتوب ولا مسموع - أن لا يترتب عليه أي حرج في دنياها، وقد تجد لديها توخيًا شديدًا لتحري الحلال، واجتناب الحرام، والمداومة المستمرة على عبادة الله، لكن المهم والمراد أن تبقى منزوعة المواقف، لا ولاء، ولا براء، لا سيما في الأمور التي تنبني عليها التكاليف العظام، وتكون بحق مفرق طريق بين الحق والطغيان.
ومنها: (طائفة) أخذت على عاتقها نشر فكر الإرجاء الخبيث، وبث آثاره السيئة، الذي من شأنه أن يخرِّج دومًا أجيالاً لا تعرف إلَاّ التميع، وسياسة الترقيع والاستسلام والذلة والمهانة، مع محاولة تذويب الفواصل والحدود بين الحق والباطل، من أجل التقابل بينهما في منتصف الطريق، وهيهات هيهات لما يريدون ويؤملون.
ومنها: (طائفة) لم تتبن سياسة الفعل، ولكن تبنَّت سياسة ردّ الفعل؛ فقامت متعطشة لسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وترويع الآمنين، وأخذت سلطانًا من تلقاء أنفسها تجري به أحكام: الردَّة والتكفير والتبديع والتفسيق، لكل مارق عن هديها أو خارج عن إطار جماعتها، وقدمت للعالم كله كافة افتراءاتها على أنها أصل الإسلام، وأساس العقيدة الصحيحة المنضبطة، الذي لا يسع طالب الحق إلَاّ اتباعها، والمضي قدمًا على سننها هكذا زعموا!
ومنها: (طائفة) أعطت ولاءها الكامل للنظام القائم ولرايته المرفوعة، أيًا كانت وجهتها المعلنة، سواءً كانت راية إسلامية أو علمانية، أو قومية، أو بعثية، أو راية مخلطة
…
المهم لديها أن الولاء يعطي خالصًا للراية
المرفوعة، وكذلك قامت بإعلان البراءة من كل الرايات التي لم تحن الفرصة بعد لرفعها، وذلك لعظيم جهلها، وكبير غفلتها.
ومنها: (طائفة) أرادت عزل الدين ومقوماته، وشرائعه وأصوله، عن سياسة دنيا الأمة، وترسيم منهج حياتها، وتحديد مجالات علاقتها بين مختلف مناحي قطاعاتها الداخلية من جانب، وبين كل من حولها من أصحاب الأديان والملل والنحل من جانب آخر. وأرادت أن تقصر دور الدين، وتحصره بين العبد وربه في بعض الطقوس التعبُّدية وذلك إلى حين، فإذا تمكنت من مخططها العفن وكيدها الخبيث، قامت بالخطوة الثانية المتمثلة في إنهاء دور الدين بالكلية، وأعلنت التمرُّد الواضح على كافة تعاليم الأديان، والردَّة - التي لا تعرف العودة - عن سائر الشعائر والشرائع.
ومنها: (طائفة) ثارت على كل ما هو باطل، ومنكر، وقامت تسبح ضد تيار عاتٍ، لتحدي سيل الطغيان الجارف، ولم تبخل في سبيل ذلك بشيء من دمائها وأموالها، بل وقدمت نفسها قربانًا لرضا الرب سبحانه، وفدية لنصرة دينه، وإقامة شريعته، وسطرت بدقائق حياتها وقطرات دمائها الزكية أروع ألوان البطولة والفداء، وأبت إلَاّ الانطلاق من حمى الإخلاص لبارئها سبحانه، حتى تعيد الأمة لطريقها، وتثبت قواعد دينها الرباني الحنيف. ونراها على قلَّة عددها، وضعف عدَّتها، إلَاّ أن الله سبحانه قد اصطفاها من الناس ليصنع بها قدره، وينفذ بها وعده، وقد ألقى لها الرعب في قلوب أعدائها.
ولكن بنظرة متأنية خالية من العواطف، نجد أن نقطة الضعف الغائرة في جسد هذه الطائفة يكمن في عدم قيامها وانطلاقها من منهج شامل متكامل متأصل بالبراهين والدلائل، حتى تستطيع من خلاله: تحديد أطر البدايات، ومستلزمات كل مرحلة من مراحل الصراع، والتخلص من عشوائية
القرارات، وإشاكلية تداخل أطوال العمل المنهجي لعودة هذا الدين، ومن ثم تتمكن من القيام بعرض واقع الأزمة الراهنة بكل أبعاده الحقيقية، مع بيان مردود فعله الخطير على كافة أبناء الأمة، ليتجلى بذلك لب الصراع، وحقيقة المعركة الهائلة والحاسمة، التي ينبغي أن تخوضها الأمة شاءت ذلك أم أبت.
وبعد ما قمنا بتقليب الطرف في أحوال أمتنا، يتجلى لنا بوضوح بيِّن: وجوب البحث الحثيث، والتنقيب الدائم المستمر عن منهج أصيل، يتميز بالشمولية، ويتَّسم بالمرجعية الصحيحة المنضبطة، قد التحم فيه جانبه العقدي بجانبه العملي، وشقه النظري بشقه الواقعي، ومن ثم نستطيع أن نقدمه لأمتنا على أنه الطريق الوحيد، والسبيل الفريد للخروج من أزمتها الحالية، والعبور بها من ذلة التبعية إلى عزة الريادة، وبالتالي حشد كل الطاقات، وتجنيد كافة الإمكانات للسير به وخلفه وتحت لوائه، حتى يتسنى لنا أن نستعيد زمام البشرية من يد ألدّ أعدائها، ونخرج لديننا الحنيف من غربته الثانية إلى ظهوره وعلوه وتمكينه الثاني، كما خرج به الصحابة من غربته الأولى إلى ظهوره وعلوه وتمكينه الأول.
أعود فأقول: كم نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى منهج رباني، ننطلق منه، ونعود إليه، ونستظل به، ونحن نصارع ونصارَع من قبل كافة الملل والنحل المارقة عن حقيقة الوجود، والخارجة عن علة الخلق والإيجاد، والضاربة في عطن الفساد ومستنقع الإلحاد.
كم يفقد المسلمون الغالي والثمين، من دمائهم، وأنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ومقدساتهم، وأراضيهم، وذراريهم
…
عندما يخوضون جولة من جولات الصراع مع أعدائهم، في أثناء غياب منهج شمولي متكامل أصيل مدروس. وكم تزداد المحن قوة، والفتن ظلمة والشبهات التباسًا،
والحق ضياعًا واندراسًا حينما تفقد الأمة الإسلامية وسائل الارتباط بمنهجها المنضبط القويم - المتصل سندًا بجميع الرسل والنبيين صلوات الله وسلامه عليهم - حال الصراع والنزال.
وعندنا نقلب صفحات التاريخ الخالدة - المليئة بالدروس والعبر -، نجد أن الأمة الإسلامة قد مر عليها كثيرٌ من المحن والرزايا، التي تحمل من الكيد والدهاء والخبث، ما الله به عليم، حتى كاد بعضها أن يكسر الإسلام، ويقصم ظهر أمته، ويستأصل وجود أبنائه، إلَاّ أن الأمة ما تلبث أن تفيء من سكرتها، وتستيقظ من غفلتها إلى منهجها القويم لتصطبغ به، فتخرج منه وبه أمة أبيَّة على المكر، عصيَّة على العداء، داحرة لكل ظالم وطاغٍ وباغٍ، وتنتهي بذلك إحدى جولات الصراع - التي لا تنتهي ما بقي زمان التكليف - بين الإسلام والكفر، لصالح الحق، ولعز المسلمين.
ودائمًا كنا نرى في هجمات أهل الكفر الشرسة على أهل ملتنا: تكاتف العلماء والأمراء، ومن ورائهم كافة طبقات الأمة، وتتعانق الأيدي والقلوب، وترص الصفوف، وتعبأ كل الطاقات لمواجهة هذا الكيد السافر، حتى ينجلي مكرهم، ويُرد كيدهم في نحرهم.
أما يومنا الطويل الأسى، البالغ من الحسرة مداه، فللأسف الشديد، نرى: تفككًا وخورًا شديدًا، مع فقدان للثقة بين كثير من فصائل الأمة، وهذا التفكك قد ورثنا: الذلة والمهانة، واستمراء الدنية، واستمرار التبعية، وورث أعداءنا بدوره: استعلاءً، وشموخًا، وعلوًا، وسفورًا في العداء.
وهذا مما يبرهن ويؤكد على حاجة الأمة الضرورية إلى منهج شامل منضبط صحيح، تلوح فيه بجلاء: البدايات والنهايات، والقواعد والأصول والنتائج، والوسائل والأهداف والغايات.
وانطلاقًا من إيجاد حل للمصائب العظام والدواهي الكبار، التي تحيط بأمتنا، وتهدد بحق وجودها وبقائها، بدأت البحث الحثيث، والتنقيب الدائم المستمر عن منهج أصيل منضبط، يصلح أن يقدم لأمتنا على أنه العلاج الناجح الوحيد، الذي ينبغي أن تنجرعه لتخرج به من أزمتها الراهنة، وتثبت قدماها على طريق التحدي الرهيب.
وقد وقع اختياري على تراث الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وطيب مثواه، وذلك لعمق منهجه، وأصالته، وقوته، وشموليَّته، وكذا قرب عهده منَّا، ومشابهة ظروف وأوضاع نشأته لظروفنا وأوضاعنا الحالية، فقد كانت الأمة الإسلامية تمر إلى حدٍّ كبير بذات الأزمة التي تمرُّ بها في فترتنا الآنية، وكذلك واجهت حركته - رحمه الله تعالى - ذات الطواغيت والمنافقين ومرتزقة الأقلام والكلمات، التي نصارعها ونواجهها في جولتنا الحالية.
فلما تشابهت علل النشأة، وأحوال المرحلة، وطبيعة العداء وحجم الصراع، رأيت أنه قد تعين وتوجَّب علىّ، الغوص العميق في ثنايا هذا التراث، لاستخراج كنوزه، واغتنام ثرواته، فقمت - مستعينًا بالله العليم الخبير - بتبويت هذا التراث المتناثر، تبويبًا منهجيًا شموليًا، مبتدئًا فيه بالمقدمات والأصول، ومارًا بالنواقض والعوائق، ومنتهيًا بالنتائج والعواقب.
والقصد من وراء هذا العمل: أن تظهر بوضوح حقيقة تلك الدعوة، وينجلي شمولها العميق، ومن ثم يستحيل اختزالها المراد لها من قبل أعدائها في بعض جوانبها فقط، لئلا تكون قادرة على محاربة الطغيان، ومنازلة الفساد، ومقارعة الخارجين عن شريعة الله وعبوديته، التي ما خلقت الخليقة إلَاّ لتعبده وحده لا شريك له، وتستظل بشريعته في كل جوانب حياتها، حتى تلقاه سبحانه على ذلك غير مفرطة، ولا عادلة، ولا مبدلة.
مميزات هذا المنهج:
لقد اتصف هذا المنهج المبارك - إن شاء الله تعالى - بخصال طيبة، وصفات حسنة، ومميزات أصيلة، قلّ أن توجد مجتمعة لغيره، منها:
- شموليَّته، وتطوُّره الطبيعي، مع الأحداث والوقائع ومتطلبات كل مرحلة من مراحل الصراع، مع مراعاة حدود وطاقات وإمكانيات المسلمين الراهنة.
- تأصيله بالبراهين المتواترة سندًا ومعنى، والحشد الدائم لآحاد الأدلة - مع مراعاة روح ومقاصد التشريع - لكل مسألة من مسائله، حتى يتسنى اليقين بكل جزئية من جزئياته، ومن ثمّ الجزم والقطع بكلياته وقواعده.
- الحرص الشديد على وجوب اتباع السلف الصالح، لا سيما أصحاب القرون الثلاثة الأولى المفضلة، قرون الاتباع والاقتداء.
- عدم تقديس أي أحد، مهما علت مرتبته وارتفع سهمه في العلم والمكانة، وتجويز الخطأ عليه، مع بيانه إن وقع، ثم الاعتذار عنه بحسب الحاجة الداعية إليه.
- بيان قضية التوحيد - التي هى أصل الأصول الإيمانية - وجلاء أركانها، وحشد النصوص الدالة عليها والمؤيدة لها، مع دحض وإخماد كافة ألوان الشرك وأصوله ومواده وذرائعه ووسائله.
ولا غرو في ذلك، فإن قضية التوحيد هي بحق مفرق الطريق الوحيد، ومحل الصراع الأبدي الدائم بين المسلمين، وأعدائهم من كافة الملل والنحل المارقة عن فطرة الوجود.
- الالتحام المصيري بين الجانب العقائدي، والجانب العملي، دون انفصام بينهما، بل ولقد قام أئمة الدعوة - رحمهم الله تعالى - بكل ما قالوه وسطروه وأصلوه، دون مهادنة أو مواربة، وهذا بلا شك يبعث على الطمأنينة،
واليقين في نفوس أتباعهم، وأنهم بحق على جادة الطريق، وكذا يجعل الجاد في دينه - في كل عصر ومصر - يستطيع أن يرى صورة الصراع كاملة وبأبعادها الحقيقية، وأن يبصر معالم الطريق واضحة، ومن ثم يستطيع القيام بتحديد دوره، والإحاطة بمتطلبات مرحلته الراهنة بوضوح تام ورؤية شاملة.
- الجرأة في عرض الحق، وقبول الصراع، والتحدي عليه، ومن أجله.
- عدم الخوف والانزعاج من النتائج المنبثقة من تجريد عرض الحقائق، ذلك الخوف الذي قد يسبب نوعًا من تمييع الأصول، وعدم الترتيب المنطقي للأدلة، وذلك يوقع لا محالة في الفصل بين العلل وأحكامها، والجمع بين المتناقضات، والتفريق بين المتماثلات في الأحكام والغايات.
- عدم القبول بأنصاف الحلول، ورفض فكرة الالتقاء في وسط الطريق بين أهل الحق وأهل الباطل، لأن هذه السياسة العقيمة - فضلاً عن بطلانها شرعًا - من شأنها دومًا، أن تعمل على طمس هوية أهل الحق، وتمييع دورهم، وتفريغ هدفهم من محتواه الحقيقي، والقضاء على قضيتهم، والنتيجة المتحتمة والمترتبة على ذلك، هى عجز وقصور أهل الحق عن جهاد أهل الباطل، وإبطال قضاياهم المنحرفة، والتدليل على عدم مشروعيتها، وهذا من أعظم ما يؤمله أهل الضلال ويريدونه.
- اتباع سياسة حكيمة راشدة في إخماد البدع، ومحاربة محدثات الأمور، لا سيما بدعة الإرجاء الخبيثة بدركاتها المختلفة، وما تمخض عنها، من تحلل عن الشرائع، وانغماس مزري في وحل الكفر والفسوق والعصيان، وكذا إصباغ الشرعية على كل قوى الطغيان، بدعوى أن أصحابها يقولون:«لا إله إلَاّ الله» ؛ والإيمان العاصم للدماء والأموال - في زعمهم - لا يكون
إلَاّ بمجرد نطقها، مع التصديق الكامل بها!!! وها نحن نرى اليوم ربيب الإرجاء الخبيث، الذي نما وترعرع في حضانته، وتحصن بحصنه - الغير حصين - ألا وهو العلمانية الخبيثة ذات الظلال العفنة والظلمات المتراكمة.
وكل ذلك كان بسبب عدم مواجهة الحركة الإسلامية لآثار الإرجاء العقيمة، ومقارعة أقطابه، وبيان فساد منهجه، وخطورة ردود أفعاله على الإسلام والمسلمين.
- الحرص الشديد على التسلح بالدليل، ومنازلة الحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، مع رفض التقليد، وإباء الاتباع المذموم، ومن ثمّ خرَّجت هذه الدعوة - بفضل الله سبحانه - العامي الراسخ في دينه، والذي يغلي بحق ألفًا من علماء المشركين، ناهيك عن العلماء والحفاظ والدعاة وطلبة العلم، الذين خرجوا وما زالوا يتخرجون من جامعة هذا التراث.
- هذه الدعوة تمثل امتدادًا ضاربًا في أعماق التاريخ، لمدرسة العالم الرباني، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحراني الدمشقي، ومن ورائه تلميذه الإمام العلَاّمة ابن قيم الجوزية.
وبأدنى نظر في تراث شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نجد أن كل، أو جل مسائله، ودلائله وردوده، وتقريراته، مستقاة كاملة، أو شبه كاملة من تراث شيخ الإسلام إمام الأئمة، جهبذ الجهابذة، أحمد ابن تيمية رحمهما الله تعالى، ولقد صدقت كلمة أحد المستشرقين حيث قال: لقد ترك شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ألغامًا، فجر بعضها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن يعين العلماء الربانيين، والدعاء المخلصين على تفجير ينابيع الحكمة، وأنوار الهدى، الساطعة من تراثه الطاهر.
منهجي في البحث:
لقد كان نصب عيني منذ الوهلة الأولى للشروع في هذا الكتاب، أن تعرض أصوله، وقواعده، وردوده، ونتائجه دون أدني شائبة تَدَخُّل، أو وصاية على ما قرره هؤلاء الأئمة الأعلام، من أحكام وتقريرات، لتبقى بصماتهم، عالية وكاملة وظاهرة عليها؛ لأني على قناعة تامة، بحاجة الأمة الضرورية، إلى ما قررته أئمتها الأعلام، وعلماؤها الربانيون، لكن بشرط عزيز، وهو أن تعرض كاملة، وواضحة، ومركزة، وبأمانة تامة، دون أي حذف، أو شطب، أو اختزال لشيء غير مراد من تراثهم، وما سطرته أيديهم. ولذلك فقد كان همي الأكبر في هذا المقام، أن يقدم هذا الإرث الطاهر للأمة الإسلامية في صورة منهج أصيل متكامل كما كان في حس صاحبه ومؤسسه الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأحفاده وتلاميذه رحمهم الله جميعًا.
ولقد قمت بتقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، الباب الأول جاء في: أصول التوحيد والإسلام والإيمان؛ والباب الثاني في: الشرك والمشركين؛ والباب الثالث في: الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك.
وإفرادي للأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك في جزء منفرد عن جزئي التوحيد والشرك، من أجل أن يتم الفصل التام بين القيام بالتوحيد مع البراءة من الشرك، كعقيدة يجب القيام بها، ليتحقق بذلك أصل الدين، ويكون المرء به مسلمًا، وبين إجراء الأحكام المنبثق من تصور حَدَّي التوحيد والشرك، وطبيعة العلاقة بينهما، حتى لا يأتي الخلط، ويتم الدمج بين تحقيق أصل الدين من جهة وإجراء الأحكام من جهة أخرى، ووضعهما معًا في سلة واحدة، من حيث التأصيل، والتدليل، ودرجة المشروعية، ومن ثم تحل الطامة العظمى، والداهية الكبرى المتمثلة في الغلو المذموم في التكفير
وإخراج السواد الأعظم لجمهور المسلمين من دينهم وملتهم، بلا دليل ولا برهان، اللَّهم إلَاّ الزعم بأن إجراء الأحكام على المشركين والمرتدين من صلب وماهية أصل الدين، تلك الدعوى المفتراة التي لم يقم عليه صحتها دليل صحيح صريح من الكتاب، أو السنَّة، بفهم أصحاب الثلاثة القرون الأولى المفضلة، ولا إجماعهم المعصوم، الواجب الاتباع.
وعندنا نقرر هذا، فينبغي أن نقرر ونعلن في مقابله: أن العلماء قد عدّوا عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذهبهم، ناقضًا من نواقض الإسلام، المبيحة للدم والمال، ولكن هناك فرقًا كبيرًا، وبونًا شاسعًا، بين أن يكون إجراء الأحكام على المشركين بإطلاق أصلاً من أصول الدين، وبين أن يكون في بعض مناطاته وصوره، ناقضًا من نواقض الإسلام، يخضع في ذلك لتوفر شروط التكفير، وانتفاء موانعه، التي قررها الصحابة والتابعون، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم، لا أهل الإرجاء والتجهم الحديث والمعاصر، الذين يريدون غلق هذا الباب، وطي هذا الملف، حتى تمنى كثير منهم عدم الخوض في هذه القضية، أو الحديث عنها، أو سماعها، لئلا تقسو القلوب، وتزل الأقدام في الوقوع في المحذور، هكذا زعموا!
ولا يفوتني في هذا المقام، أن أعلن البراءة من كلٍ من منهجي الخوارج والمرجئة، والتحذير المتكرر للأمة من عاقبة شؤم بدعتهما، وآثارهما السيئة، ولكن انطلاقًا من معالم منهج أهل السنَّة والجماعة، الذي يريد الخير الدائم لكل الناس، ينبغي علينا دومًا أن نرفع أكف الضراعة لله الهادي إلى سواء الصراط أن يهدينا وسائر إخواننا - المغالين والمفرطين - للصواب، وأن يجنبنا جميعًا الكفر، والزلل، والبدع، ومحدثات الأمور.
* * *
التقسيم الموضوعي للكتاب:
لقد جاء الكتاب مقسمًا إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في أصول التوحيد والإسلام والإيمان
وفيه مقدمة، وتسعة فصول:
المقدمة في: أحوال المشركين بين التبديل والتغيير.
الفصل الأول: حقيقة الإسلام وشروط قبوله.
الفصل الثاني: حقيقة التوحيد، وأركانه، ومقتضياته، وأنواعه.
الفصل الثالث: كيفية الإيمان بالرسالة، وتحقيق أركانها ومقتضياتها.
الفصل الرابع: أصول الإيمان، ومقتضياته، ولوازمه.
الفصل الخامس: الطاغوت، وصفة الكفر به.
الفصل السادس: الحكم لله وحده لا شريك له، وحكم من بدل شرائع الإسلام، أو حكم بغير ما أنزل الله.
الفصل السابع: حقيقة الولاء والبراء.
الفصل الثامن: الأسماء والصفات، ومنهج السلف في الإيمان بها.
الفصل التاسع: القضاء والقدر، ومنهج السلف في الإيمان به.
* * *
الباب الثاني: الشرك والمشركون
وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول: حد الشرك، ودرجاته، وأنواعه وأحكامه، مع بيان علة عدم مغفرته، ووجوب الحذر منه.
الفصل الثاني: العلم سبيل النجاة من الشرك، وإلَاّ وقع بالجهل، والتلبيس وتغيير الحقائق.
الفصل الثالث: الفتنة بالقبور، والمفاسد المترتبة عليها، مع الرد على أشهر شبهات أهلها.
الفصل الرابع: الشفاعة، وأنواعها، وشروطها، وأسباب تحصيلها، والحرمان منها.
الفصل الخامس: المشرك مغبون في دينه لإخلاله بكل قيود الكلمة العاصمة، إلَاّ مجرد التلفظ بها.
الفصل السادس: أشهر شبهات المشركين وعلمائهم، مع سهام الردود عليها.
الفصل السابع: الأدلة الجلية من الشريعة الربانية، على كفر من عبد غير الله تعالى.
الفصل الثامن: علة قتال المشركين، ووجوب البراءة منهم، وحكم الدار إذا غلبت عليها أحكام الشرك.
* * *
الباب الثالث: الأحكام المترتبة على مفهوم التوحيد والشرك
وفيه تسعة فصول:
الفصل الأول: شروط عصمة الدم والمال.
الفصل الثاني: حكم الشك في كفر الكافر، وصوره.
الفصل الثالث: العذر بالجهل.
الفصل الرابع: العلاقة بين إقامة الحجة، والكفر وأحكامه.
الفصل الخامس: أنواع الكفر، وحكم تكفير المعين.
الفصل السادس: أحكام الديار.
الفصل السابع: أحكام القتال، ومشروعية الجهاد.
الفصل الثامن: نواقض الإسلام، وأحكام الردة والمرتدين.
الفصل التاسع: أشهر الشبهات المثارة على أئمة الدعوة، والردّ الوافر عليها.
* * *
ولقد كانت الفكرة السائدة في هذا الكتاب من أوله إلى آخره، تكمن في تقسيم كل فصل من فصوله إلى عدة مباحث، يبدأ كل واحد منها بعنوان، يبين المراد منه، وحرصت على أن يكون معناه مستنبطًا من الأفكار الأساسية، والقواعد المنهجية التي جاءت ضمن النقول، تحت هذا المبحث، وإذا قمت بإيراد نقل مطول، لتقرير أي مسألة من المسائل، فعندئذ أقوم بإدخال عنوان جانبي، بين معكوفتين ()، مرة، أو عدة مرات، بحسب الحاجة الداعية إليه، من أجل سهولة الاستفادة، ودوام التركيز للقارئ النجيب، لكل فقرة من فقرات النقل.
وأود التنويه إلى أن المقصود بالأصالة في هذا الكتاب، هو بيان معتقد أئمة الدعوة، في كل مسألة من مسائله، وتقرير من تقريراته، ودائمًا ما كنت آتي بالتبع في ختام كل فصل، ـ بنقل، أو عدة نقول، عن الأئمة المعاصرين، من أمثال: أعضاء اللجنة الدائمة، وهيئة كبار العلماء، وأعضاء الإفتاء، حتى يتضح اتحاد الطريق، واستمرارية المسير في تقرير المسائل العلمية، الحاكمة على المسائل العملية، والقائدة لها.
* * *