الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الأدلة الدالة على وجوب التباعد عن المشركين والرد على محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين
لقد آل الأمر ببعض المنتفعين والمرتزقة، وبعض الجهَّال، إلى محاولة إسقاط فرض الهجرة من ديار المشركين، والطعن في علة الفرار بالدين عند خوف الفتنة عليه، ومن ثم مسخ مشروعيتها، وتوهين الأمر بها.
ولقد راج باطل هؤلاء على كثير من عوام المسلمين، بل وأقاموا لهم المعاذير التي تحول دون قيامهم بفرض الهجرة، الذي هو من أعظم شعب الإيمان.
فتصدَّى لإفك هؤلاء: أئمة الدعوة فسطَّروا الرسائل النافعة، والأجوبة الباهرة في بيان: أن الإيمان بالله، يستلزم البراءة من المشركين، وأن تكثير سواد المشركين قد يؤول إلى الكفر المبين والانسلاخ من الدين، وساقوا الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة، الدالة على وجوب التباعد عن المشركين وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأبانوا رحمهم الله تعالى: فوائد الهجرة، وعواقبها الطيبة في الدين والدنيا والآخرة، وإبراءً للذمة ونصحًا للأمة، فصَّلوا رحمهم الله تعالى أحكام وأحوال المقيمين بين أظهر المشركين.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى:
قال الإمام أبو جعفر: محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2]، قال معناه: أظنَّ الذين جزعوا يا محمد من أصحابك، من
أذى المشركين إياهم أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنك بما جئتنا به من عند الله؟ كلا لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]، قال: نزلت من أجل قوم، كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلَّفوا عن الهجرة.
والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي: الهجرة التي امتحنوا بها، ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي، قال: إنها نزلت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} الآيتين [العنكبوت: 1، 2]، في أناس بمكة، قد أقرُّوا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون فردُّوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا.
فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه، قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ
…
} إلى آخر الآية [العنكبوت: 10]، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك.
ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ
…
}
[النساء: 97]. قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم، فخرجوا، فلحقم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
…
} إلى آخر الآية [العنكبوت: 10]، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير.
ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجًا، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاسغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ
…
} الآية [النساء: 97]، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار الدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلمًا، فما أعز من يتفطن لهذه المسألة، بل ما أعز من يعتقدها دينًا ....
(وجوب تولي المؤمنين، والبراءة من المشركين)
وقال ابن كثير أيضًا، في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
وهذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، نهى الله نبيه أن يجعلهم كالمهاجرين في المغنم وغير ذلك، مما يقتضي الولاية.
ثم قال: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وحذَّرهم من توليهم، والقيام بين أظهرهم.
ثم ذكر بسنده عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملَّتين،
ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ثم قرأ قوله تعالى:{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]».
ثم ذكر عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال:«تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وإنك لا ترى نار مشرك إلَاّ وأنت له حرب» ، وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا تتراءا نارهما» .
ثم ذكر عن سمُرة بن جندب، أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» ، وقوله تعالى:{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]، أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلَاّ وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدِّين، وقوة للكافرين.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء} [التوبة: 23]، إلى قوله:{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة: 24].
قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلَّق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم، وأخبر أن إيثار هذه الأصناف الثمانية، على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال:{فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء، وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه» (1).
وبيَّن الشيخ سليمان بن سحمان: وجوب الهجرة على العبد من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، ثم أخذ رحمه الله يصف أحوالاً لكثير من مشركي زمانه، ثم جزم بأن هذه الأوصاف متى علت دارًا من الديار، تكون دار شرك يحرم السفر إليها، ومساكنة أهلها ومجامعتهم، ثم أعقب ذلك بذكر شبهة في هذا الشأن لبعض المنتسبين لطلب العلم، ثم استعرض الردود عليها، فقال رحمه الله:
«وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إلى طلب العلم: أن يبيح السفر مطلقًا إلى من هذا دينه، وهذه نحلته، وهذه حال بلده، مستدلاً بسفر أبي بكر رضي الله عنه إلى بُصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سفره، وأن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يظهر دينه، وليس هذا الجهل بغريب ممن لم يعرف كفر هؤلاء، وأن أبا جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إلى ساحل هذا الكفر العظيم، ولا عرف أن بلادهم بلاد كفر والحالة هذه.
ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه، وأراد نجاتها: أن الاستدلال لجواز سفر عوام الناس، الذين لا يعرفون ما أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بالبراءة منهم، ومما يعبدون، بسفر أبي بكر رضي الله عنه، من دسائس الشيطان، فإن من المعلوم عند الخاص
(1)«الدرر السنية» : (8/ 277 - 291).
والعام، ولا ينكره إلَاّ مكابر مبخوس الحظ: أن الصحابة يظهرون دينهم، وقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وإنكارهم رضي الله عنهم وأرضاهم باللسان، على من أحدث حدثًا أو فعل منكرًا معروف مشهور ....
(قيد مهم في الفرق بين السفر إلى ديار المشركين الأصليين، وديار المشركين المرتدين)
ومن المعلوم: أن النصارى والمجوس يعلمون أن العرب على غير دينهم، حتى في الجاهلية، والعرب يعلمون أن هؤلاء على غير دين، فالكل منهم متميز عن الآخر بدينه، خصوصًا بعد البعثة، فإنه من المعلوم: أن أهل الإسلام يكفِّرونهم، لا يشك في ذلك أهل الكتاب ولا غيرهم، بخلاف عباد القبور اليوم وأشياعهم.
فإنهم ينتسبون إلى الإسلام، ويتلفَّظون بالشهادتين، وغالبهم يصلي ويصوم ويحج، ومن لا يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله، ومع هذا كله، فحالهم كما تقدم قريبًا، من صرفهم خالص حق الله لمعبوداتهم، ولو علموا ممن يسافر إلى ديارهم، أنهم على غير دينهم، وأنهم يكفِّرونهم، لأوقعوا بهم الفتنة، ولآذوهم، فقياس هؤلاء الكفرة على أولئك، من القياس الباطل المردود، مع أن السفر إلى ديار هؤلاء وهؤلاء ممنوع، لكن أهل الكتاب والمجوس، يعلمون أنهم على غير دينهم، بخلاف عباد القبور، فإنهم يظنون أن من سافر إلى بلادهم على دينهم.
إذا تبين هذا، وعلمته، فسفر أبي بكر رضي الله عنه، كان مع إظهار دينه، ومن أظهر دينه كما ينبغي، فلا مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه» (1).
(1)«الدرر السنية» : (8/ 467 - 471).