الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الشفاعة شروطها وأنواعها
إن الله له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهما، وكل ما دونه من الكائنات، مخلوق مربوب فقير مملوك لسيده سبحانه، وهو جلَّ في علاه الغني بذاته المقدسة عن كل ما سواه، وكل مخلوقاته في أشد ما يكونوا حاجة إليه، والله سبحانه ليس له شريك في ملكه، ولا معاون ولا ظهير، ولا يحتاج لأحد من خلقه حتى يشفع عنده بغير إذنه، وذلك لكماله المطلق، وملكه التام، اللذين لا نقص فيهما بوجه من الوجوه، ومن ثم كان لزامًا على كل عاقل لبيب أن يطلب الشفاعة بشروطها من مالكها، ويتضرَّع إليه وحده فيها، ويفوِّض أمره إليه، علَّه يفوز بحظ وافر منها، ويكتب من أهلها.
قال الشيخ صالح الفوزان يحفظه الله تعالى:
«الشفاعة لغة: الوسيلة والطلب. وعرفًا: سؤال الخير للغير. وقيل: هي من الشفع الذي هو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له.
والشفاعة حق إذا تحققت شروطها، وهي أن تكون بإذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له، قال الله تعالى:{وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}
[النجم: 26].
ففي هذه الآية الكريمة أن الشفاعة لا تنفع إلَاّ بشرطين:
الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، لأن الشفاعة ملكه سبحانه:{قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44].
الثاني: رضاه عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التوحيد، لأن المشرك
لا تنفعه الشفاعة، كما قال تعالى:{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48].
فتبين بهذا بطلان ما عليه القبوريون اليوم، الذين يطلبون الشفاعة من الأموات، ويتقرَّبون إليهم بأنواع القربات، كما قال الله في سلفهم:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44].
وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فيشفع لمن أذن الله له فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات:
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقض بينهم بعد أن تتراجعَ الأنبياءُ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها».
وقال رحمه الله: «وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته، فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثم إلا
من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا
يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب
…
». إلى أن قال: «واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وبقوله:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وبقوله:{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48].
وجواب أهل السنة: أن هذا يراد به شيئان:
أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 42 - 48]، فهؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارًا.
والثاني: أنه يراد بذلك الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، ومن شابههم، من أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس في بعضهم عند بعض» (1).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في أثناء شرحه على كتاب التوحيد:
قوله: فنفى أن يكون لغيره ملك، وذلك في قوله تعالى:{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22]. ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يُدعى.
قوله: أو قسط منه، أي من الملك، والقسط - بكسر القاف - هو النصيب من الشيء، وذلك في قوله:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} [سبأ: 22]، أي لمن تدعون من الملائكة وغيرها فيها، أي: في السماوات والأرض من
(1)«الإرشاد إلى تصحيح الاعتقاد» : (ص 293 - 295).
شرك، ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعى من دون الله؟
قوله: أو أن يكون عونًا لله، وفي ذلك قوله:{وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، أي: ما لله ممن تدعونهم عون.
قوله: ولم يبق إلَاّ الشفاعة، فتبين أنها لا تنفع إلَاّ لمن أذن له الرب
…
إلخ. جملة الشروط التي لا بد وأن يكون أحدها في المدعو، أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه:
الأول: الملك، فنفاه بقوله:{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22].
الثاني: إذا لم يكن مالكًا فيكون شريكًا للمالك، فنفاه بقوله:{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} [سبأ: 22].
الثالث: إذا لم يكن مالكًا ولا شريكًا للمالك فيكون عونًا ووزيرًا، فنفاه بقوله:{وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].
الرابع: إذا لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا فيكون شفيعًا، فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلَاّ بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع. فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله، إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَاّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]» (1).
* * *
(1)«تيسير العزيز الحميد» : (4/ 195).