الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
حرمة الشرك الأكبر وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، ولا توجد شبهة سائغة عليها تدرأ حكم الكفر عن أصحابها، ومن ثم انتفى العذر بالجهل فيها
إن الغالب على كل مشرك: وقوع شبهة عرضت له، اقتضت كفره وشركه، فلو أطلقنا العنان للعذر بكل شبهة، لما أمكن تكفير مشركي قريش، ولا اليهود والنصارى وأشباههم.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى -:
«واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها.
وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة، فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلَاّ من لم يمارس شيئًا من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا. كما في المسائل التي لا يعرفها إلَاّ الآحاد، بخلاف محل النزاع. فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلَاّ ما أقرَّ به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفى به دليلاً مبطلاً للشبهة، كاشفًا لها، منكرًا لمن أعرض عنه، ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له.
ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق:«ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمدًا يبشرك بالنار» .
هذا وهم أهل فترة فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية في إيجاب التوحيد والأمر به،
وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك، ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها، فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره.
والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا
…
} [الأنعام: 148]، وقال:{لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل: 35]، عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية. وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم.
والنصارى شبهتهم في القول بالنبوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم، لأنهم عُرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، ولم يفرقوا بين الخلق والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى على شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59]، وقوله:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]. وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات ....
وأما مسألة عبادة القبور ودعائهم مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها، وعدم اعتبار الشبهة فيها» (1).
ومن المعلوم بالضرورة من الدين: أن الإسلام، والشرك، نقضيان، لا
(1)«منهاج التأسيس والتقديس» : (ص 102 - 105).
يجتمعان، ولا يرتفعان، وعليه يستحيل تحت أي شبهة من الشبه، أن يكون المشرك مسلمًا، لأن ذلك يؤدي إلى اجتماع النقيضين، وقوع المحال.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى:
«اعلم: أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج وعرف ماهتيه بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده.
وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين. ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة.
ومثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيرًا من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها» (1).
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى:
«وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار: أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل، وأنهم في شك من البعث، وقالوا لرسلهم:{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110]، وقال تعالى إخبارًا عنهم:{إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ....
وقد ذمَّ الله المقلِّدين، بقوله عنهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. ومع ذلك كفَّرهم، واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة، وحجة الله
(1)«منهاج التأسيس والتقديس» : (12).
سبحانه قائمة بإرساله الرسل، وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته.
قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة - رحمه الله تعالى - لما أنجز كلامه: هل كل مجتهد مصيب؟ ورجح قول الجمهور، أنه ليس كل مجتهد مصيبًا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين.
قال: وزعم الجاحظ: أن من خالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينًا، وكفر بالله، ورد عليه، وعلى رسوله، فنعلم قطعًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام وإتباعه، وذمَّهم على الإصرار، وقاتلهم جميعهم، يقتل البالغ منهم، ونعلم: أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه.
والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} [ص: 27]. وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
…
} [فصلت: 23]، وقوله:{إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وقوله:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18]، وقوله:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 37]، وقوله:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
فالمدعي أن مرتكب الكفر: متأوَّلاً، أو مجتهدًا، أو مخطئًا، أو مقلدًا أو جاهلاً، معذور، مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك» (1).
* * *
(1)«الدرر السنية» : (12/ 69 - 73).