الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
صفة الدار التي تجب الهجرة منها إلَاّ لمن قدر على إظهار دينه مع تحرير المراد والمتعين من إظهار الدين
لقد دلَّ الكتاب والسنة، مع صريح العقل: على وجوب الهجرة من الديار التي تظهر فيها أعلام الكفر وتعلوها شعائر الشرك، لا سيما لمن لم يستطع فيها على إظهار دينه، والأمن عليه من الفتنة. وإظهار الدين المبيح للإقامة بين أظهر المشركين يعني: إعلان المخالفة لكل طائفة كافرة بما اشتهر عنها من المعتقد، مع التصريح بالعداوة لها.
وبمعنى آخر: القيام بالبراءة من المشركين وآلهتهم المزعومة، وإعلامهم بأن حكم ما هم عليه من الشرك والتنديد: كفر صريح، وضلال مبين، وانسلاخ تام من الدين، لا يمكن أن يجتمع بأي حال مع أصل الإيمان والتوحيد.
فإذا جلس المسلم بينهم، وآثر دنياه على آخرته، فقد يقع في موالتهم ونصرتهم، وتكثير سوادهم، وتصحيح ما هم عليه من الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة، لا سيما مع طول الأمد، وبُعد العهد بينه وبين المسلمين وديارهم.
بل وقد تجب الهجرة والفرار من ديار الإسلام إذا علاها الفساد، وعمل فيها بالبدع والمعاصي دون القدرة على تغييرهما، وإحلال السنة والطاعة محلهما. وها هنا علة عظيمة ميمونة مباركة لمشروعية الهجرة، تتمثل في اعتزال أهل المنكر والفساد وتميز أهل الإيمان والصلاح، ومن ثم انتصاب علم الجهاد لقمع أهل الشرك والفساد.
ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عُبد رب العالمين، ولا تمَّت البراءة من المشركين
…
وبهذا نقطع: أن الهجرة والجهاد، ماضيان إلى قيام الساعة، لحتمية الصراع، واستمرار النزال، ودوران النضال بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان.
قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله، الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، ونصب الأدلة على صحِّته وبيَّنها تبيينًا، وأعان من أراد هدايته على طاعته، وكفى بربك هاديًا ومُعينًا.
من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد، وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد.
أما بعد: فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟ وأرسلت إليَّ بما أملاه بعض المنتسبين في إباحة ذلك، وأنه صار عندكم مانع ومجيز، ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف ....
هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من افراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة: أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة، وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح ألبتة.
بل إن كان المعارض سمعيًا كان كذبًا قطعًا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليًا فكذلك.
إذا تقرَّر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز: فاسد الاعتبار، من وجهين:
(علة وجوب الهجرة)
الأول: أن أهل العلم رتَّبوا حكم الهجرة، على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي، التي تشيب اللمم والنواصي.
فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر، وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض.
وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم، قال سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف؛ وقال في الإقناع وشرحه - لما ذكرها - فيخرج منها وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم: بالوصف الذي هو وجود البدع والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، إلا بالدار.
(حكم الدار منوط بالوصف القائم بها، مع ذكر بعض الأحكام المترتبة عليها)
وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص زمن الخليفة الراشد: عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب أيام بني عبيد القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كفر أصلي بالإجماع.
لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم، وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل، وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو اقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار ....
الوجه الثاني: أن المجيز علَّق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرِّحًا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي وافقك عليها المشرك في هذا الزمان، فإذا كان كذلك، فالمدَّعى أوسع من الدليل.
إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح، موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرَّح من أصله، ولعله السائل جعله بئرًا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى.
وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟
فالجواب - وبالله التوفيق -: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعًا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم ممتنع قطعًا، فيتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه.
وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها، فأقول: قد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل وأصل الوضع، على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها.
أما الكتاب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
…
} الآية [النساء: 97]، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة بإجماع المفسِّرين،
وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك، والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي ردَّه السلف، وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟!
وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]. قال أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده، يا عبادي الذين وحَّدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه ..
فمن غلَّب الحقائق وجعلها نصًا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه التي هي في زعمه: الصلاة، وما يتعلَّق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطأ في فهمه.
والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين، ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16]، وإذا فارقتموهم، وخالفتموهم بأدياتكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم، فحينئذٍ هربوا إلى الكهف.
وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب
نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو
قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه،
مرتكب حرامًا بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]، أي: بترك
الهجرة: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} [النساء: 97]، أي لم مكثتم ههنا، وتركتم
الهجرة؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: 97] الآية. انتهى.
والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه، فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
وأما الأحاديث فكثير جدًا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعًا:«من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله» ، ولفظ الحاكم:«وساكنهم أو جامعهم فليس منا» ، وقال: صحيح على شرط البخاري.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعًا: «أنا برئ من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما» رواه ابن ماجه أيضًا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلاً، فهو حجة من وجوه متعددة، يعرفها علماء أصول الحديث، منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدًا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم.
ومنها حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: «أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين» ، وفي لفظ:«وعلى فراق المشركين» ، ولو لم يكن إلَاّ هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير مرفوعًا:«من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة» ، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:«لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين» .
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تنقطع
الهجرة ما قوتل الكفار»، وفي معناه حديث معاوية:«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة» الحديث، وما رواه سعيد بن منصور وغيره:«لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد» .
ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم من مصالح الشريعة.
قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجلِّ علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقي التكليف.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر. انتهى ....
وقد بنى العلَاّمة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره، حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات، والحكم إذا علِّق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصًا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة، وقد أعيدت الأداة وتكرَّرت، وأعيدت الصيغة، هنا: حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى ....
قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلَّة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبًا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.
فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين، ومن تكلَّم به هو الوهَّابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة.
(إظهار الدين يعني: مخالفة كل طائفة عاصية، بما اشتهر عنها، مع التصريح لها بشدة العداوة)
وقال الشيخ العلامة حمد بن عتيق: وأما مسألة إظهار الدين، فكثير من الناس قد ظن: أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلاة ولا يرد عن المساجد، فقد أظهر دينه، وإن كان ببلد المشركين، وقد غلط في ذلك أقبح الغلط.
قال: ولا يكون المسلم مُظهرًا للدين، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، ويصرِّح لها بعداوته، فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له، أن يصرح بالتوحيد والنهي عن الشرك، والتحذير منه، ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده التصريح عنده، بأن محمدًا رسول الله، ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده بفعل الصلاة.
ومن كان كفره بموالاة المشركين، والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين التصريح بعداوته وبراءته منه، ومن المشركين إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى، وقد مرَّ لك هذا صريحًا في كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة، وسمَّاه العلامة عبد اللطيف واجبًا، قال فيه: وأي رجل نقل عنه، ما هو دون هذا الواجب؟!
فالحاصل: هو ما قدَّمناه، من أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة، هو الامتياز عن عبَّاد الأوثان بإظهار المعتقد، والتصريح بما هم عليه، والبعد
عن الشرك، ووسائله، فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله وأمن الفتنة، جاز له الإقامة. والله أعلم.
بقي مسألة العاجز عن الهجرة: ما يصنع؟ قال الوالد رحمه الله، لما سئل عنه: وأما إذا كان الموحِّد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين، ويعجز عن الهجرة، فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه، ومع من يوافقه على دينه، وعليهم أن يصبروا على أذى من يؤذيهم في الدين، ومن قدر على الهجرة وجب عليه، وبالله التوفيق. انتهى جوابه. وبه انتهى الجواب عن المسألة، وبالله التوفيق» (1).
* * *
(1)«الدرر السنية» : (12/ 393 - 420).